القواعد العسكرية الأجنبية في جيبوتي.. نفوذ أجنبي يوفر نحو خُمس دخل البلاد
تكتظ جيبوتي مع ضآلة مساحتها بحشد من الوجود العسكري الأجنبي، يتمثل بـ6 قواعد عسكرية أجنبية، تعود إلى كل من فرنسا والولايات المتحدة واليابان والصين وإسبانيا وإيطاليا. وتسعى هذه الدول من خلال قواعدها العسكرية إلى حماية مصالحها الإستراتيجية في المنطقة، وتوسيع نفوذها السياسي والعسكري، إلى جانب الأهداف المعلنة كالتصدي لظاهرة القرصنة ومكافحة الإرهاب وتأمين الطريق التجاري البحري المار بالبحر الأحمر.
وتضم جيبوتي أكبر قاعدة عسكرية أميركية في أفريقيا، والقاعدة العسكرية الوحيدة للصين خارج حدودها، وأول قاعدة عسكرية خارجية لليابان منذ الحرب العالمية الثانية، وأهم وحدة عسكرية فرنسية في أفريقيا.
كما تستضيف قوات تابعة لمنظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وقوات عسكرية دولية مشتركة تعمل في إطار جهود مكافحة القرصنة، وتسعى دول عديدة، منها: روسيا والهند والإمارات والسعودية لتأسيس قواعد عسكرية لها في البلاد.
وقد ظهر الوجود العسكري الأجنبي في جيبوتي منذ تأسيس المحمية الفرنسية في ثمانينيات القرن الـ19 وتمكنت فرنسا من الاحتفاظ بقاعدة عسكرية لها عقب استقلال البلاد عام 1977، وظلت تلك القاعدة هي الوحيدة حتى مطلع القرن الـ21، حين بدأ الحضور العسكري الأجنبي يغزو البلاد بشكل ملحوظ، وقبل مضي العقد الثاني من القرن الـ21، أصبح احتضان قواعد عسكرية أجنبية ظاهرة جليّة في جيبوتي.
لماذا جيبوتي؟
يأتي هذا التجمع الدولي العسكري الذي يضم دولا من معسكري الشرق والغرب، في بلد عربي أفريقي نامٍ، لا تتجاوز مساحته 23 ألف كيلومتر مربع، وبالكاد يصل عدد سكانه إلى مليون نسمة، ولا يتميز باقتصاد قوي ولا يملك ثروات طبيعية جاذبة، بل كثيرا ما يعتمد على المساعدات الخارجية التي تقدمها المؤسسات الدولية والدول الصديقة.
ويعود هذا الاستقطاب إلى الموقع الإستراتيجي الفريد الذي تحظى به جيبوتي، إذ تطل على الجانب الغربي لـ"مضيق باب المندب"، البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، والذي يتميز بأهمية اقتصادية وعسكرية وأمنية بالغة، ويشكل جسرا بين أفريقيا والشرق الأوسط، ويربط أوروبا بشرق آسيا.
ونظرا لموقعها، تتحكم جيبوتي بحركة الملاحة الدولية عبر مضيق باب المندب وخليج عدن، حيث يمر خط التجارة الدولي الذي يربط بين شرق آسيا وأوروبا، ويشكل أحد أكثر الممرات الملاحية ازدحاما في العالم، وينقل ما يقدر بنحو 10% من التجارة العالمية، كما تعبر منه معظم صادرات الخليج العربي من الموارد الطاقية المتجهة إلى أوروبا وأميركا.
ومن جهة أخرى، تتمتع جيبوتي بعلاقات خارجية متوازنة، وروابط ودية مع دول الجوار، إضافة إلى ما تحظى به من وضع داخلي مستقر نسبيا في محيط يعج بالصراعات، سواء من الجانب الأفريقي أو بالاتجاه الآخر نحو الشرق الأوسط.
وقد جعلت تلك الظروف من جيبوتي موضعا مثاليا لبناء قواعد عسكرية أمنية، تشتمل على مراكز مراقبة استخباراتية، وتتيح إمكانية التدخل السريع عند الحاجة في مناطق الصراع القريبة، مثل: اليمن والسودان والصومال. وكذلك القيام بعمليات عسكرية لتأمين التجارة البحرية والتصدي لظاهرة القرصنة ومكافحة ما يسمى "الإرهاب"، فضلا عن المساهمة في عمليات حفظ السلام والإغاثة الإنسانية.
استثمار اقتصادي ودعم أمني
تمتلك جيبوتي اقتصادا هشا، تعوزه المقومات الأساسية للتنمية الزراعية، ويفتقر إلى قاعدة صناعية متينة، مع محدودية الاستثمار في التعدين، مما جعله معتمدا بشكل كبير على قطاع الخدمات، الذي يمثل نحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي، ولا سيما اعتماده على الموانئ، التي تعدّ بمنزلة مراكز للشحن والتزود بالوقود.
ونظرا لضعف الاقتصاد، وكجزء من إستراتيجيتها في رفع الناتج المحلي، تعمل السلطات في البلاد على استثمار الأهمية الجيوإستراتيجية لموقع جيبوتي، وذلك من خلال تأجير الأراضي للقوات العسكرية المختلفة، بهدف تعزيز الوضع الاقتصادي والأمني للبلاد.
وتشكل الرسوم السنوية لتأجير الأراضي لإقامة القواعد العسكرية الأجنبية جزءا مهما ثابتا للدخل القومي في جيبوتي، وبحسب دراسة لمعهد أبحاث جايكا التابع للوكالة اليابانية للتعاون الدولي، فإن إيرادات إيجار القواعد العسكرية المتمركزة في جيبوتي بلغت عام 2020 حوالي 129 مليون دولار أميركي، بنسبة وصلت إلى 18% من دخل البلاد.
وتعد القاعدة الأميركية الأعلى تكلفة، إذ يبلغ إيجارها 63 مليون دولار سنويا، وتدفع فرنسا رسوما سنوية قدرها 40 مليون دولار أميركي، بما فيها تكلفة القاعدة الإسبانية التي تقيم في القاعدة العسكرية الفرنسية، وتقدم الصين مبلغ 20 مليون دولار أميركي سنويا مقابل استئجار القاعدة الخاصة بها، وتحصل جيبوتي على مبلغ قليل نسبيا من كل من اليابان وإيطاليا، يقدر بـ6 ملايين دولار سنويا لكلا البلدين.
كما تقدم الدول المستأجرة مشاريع ومبادرات ومساعدات مالية من شأنها تعزيز اقتصاد جيبوتي، ورفع المستوى المعيشي للسكان، ويختلف حجم التبرعات من سنة إلى أخرى، لكنها في الغالب تتراوح بين 10% إلى 20% من ميزانية الدولة.
ومن أوجه الدعم التنموي التي تقدمها أميركا، مبادرة "جيبوتي أولا"، والتي أقرها الكونغرس الأميركي عام 2014، وتعطي أفضلية تعاقدية للسلع والخدمات الجيبوتية التي تدعم الجهود الأميركية في المنطقة، وأطلقت أميركا كذلك "مشروع تنمية القوى العاملة" بهدف توفير التدريب الفني للقوى العاملة في البلاد، وتقدم الولايات المتحدة المساعدات الغذائية عبر "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية".
وأنجزت الصين، التي تعد أكبر مستثمر أجنبي في جيبوتي، استثمارات حققت مكاسب اقتصادية ملموسة، وتعمل المشاريع الصينية على تحسين البنية التحتية البحرية والبرية، مما يساعد على النمو الاقتصادي، وقد عملت على تمويل بناء ميناء "دوراليه" متعدد الأغراض، وإنشاء خط سكة الحديد الكهربائي الذي يصل بين جيبوتي وأديس أبابا، وخط أنابيب لنقل المياه يوميا من إثيوبيا إلى جيبوتي، وتمويل منطقة التجارة الحرة، مما يسهم في خلق فرص عمل وتقليل البطالة.
وتخدم الاستثمارات الصينية البنية التحتية لمشروع "الحزام والطريق"، وتتخذ في الغالب هيئة قروض خاصة وليست منحا، مما يعني تراكم الديون في حال عدم القدرة على سدادها.
وقدمت "الوكالة الفرنسية للتنمية" منحة تقدر بـ6 ملايين يورو بهدف تحسين الظروف المعيشية لسكان بعض أحياء مدينة جيبوتي، وفي عام 2006 التزمت الحكومة الفرنسية بتقديم مساعدات لجيبوتي بقيمة 82 مليون دولار أميركي.
وترسل الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا) كميات كبيرة من المساعدات إلى جيبوتي. وفي مايو/أيار 2023، حصلت جايكا على منحة بقيمة 4 ملايين دولار أميركي لاستخدامها في تأمين المعدات الطبية للمستشفيات في جيبوتي.
وعلاوة على ذلك، تستفيد جيبوتي من القوات العسكرية المتواجدة على أرضها في تثبيت أمنها، فقد تضمنت اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا عام 1991 اضطلاع فرنسا بمسؤولية الأمن البحري والجوي لجيبوتي، إضافة إلى مراقبة حركة المرور في المدينة، وقد زودت فرنسا قوات جيبوتي بالدعم اللوجستي والاستخباراتي والطبي خلال النزاع الحدودي الذي شهدته مع إريتريا عام 2008.
وتوفر زوارق الدوريات اليابانية ظروفا أمنية تتيح لموانئ جيبوتي فرصة أكبر للمنافسة مع مثيلاتها في المنطقة. كما قدمت اليابان منحة بقيمة 26 مليون دولار أميركي في إطار خطة تحسين القدرات الأمنية البحرية، والتي تضمنت بناء زوارق دوريات ورصيفا عائما لخفر السواحل الجيبوتي.
ولأجل المنافع الاقتصادية والأمنية التي تجنيها جيبوتي، سمحت السلطات المحلية لـ6 دول أجنبية بإنشاء قواعد عسكرية لها في البلاد، وهذه القواعد هي:
القاعدة العسكرية الأميركية "ليمونييه"
تأسست القاعدة العسكرية الأميركية عام 2002، على أرض معسكر "ليمونييه"، الذي كان في الأصل قاعدة فرنسية، وتعد قاعدة "ليمونييه" القاعدة الدائمة الوحيدة للولايات المتحدة في أفريقيا. وتضم 4 آلاف عنصر، وتمتلك الصلاحية لاستخدام الموانئ والمطارات في البلاد.
وتعد القاعدة مركزا لجمع المعلومات الاستخبارية وإطلاق "عمليات مكافحة الإرهاب"، كما توفر التدريب العسكري للقوات الأفريقية لمواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة، التي تصنفها أميركا على أنها خط تهديد أول لمصالحها في المنطقة.
وكذلك تعمل على تثبيت نفوذ أميركا السياسي والعسكري في المنطقة، وتأمين الدعم اللوجستي لحروب الخـليج، ومكافحة القرصنة، وحماية الاستثمارات في مجال الطاقة وضمان تدفق النفط.
وقد تم توسيع مساحة القاعدة عام 2007 بحيث تصل إلى نحو 200 هكتار، وضمن خطة أُعلن عنها عام 2012 تهدف إلى تطوير القاعدة بتكلفة تبلغ 1.4 مليار دولار، تم توسيع المرافق ودعم البنية التحتية بحيث تستوعب طائرات الشحن التابعة للقوات الجوية، كما تم بناء ساحة ضخمة لزيادة قدرة عمليات نشر المسيرات والطائرات التكتيكية وطائرات الدعم الخاصة بها.
وتضم القاعدة بعض القوات العسكرية البريطانية، التي تشارك في عمليات مكافحة القرصنة بالمنطقة، وحماية السفن البريطانية العابرة لباب المندب والبحر الأحمر.
القاعدة العسكرية الفرنسية
تأسست القاعدة العسكرية الفرنسية، التي تعد أقدم قاعدة عسكرية أجنبية في جيبوتي، عام 1969، وعقب استقلال جيبوتي عام 1977، وقع الطرفان اتفاقية تسمح لفرنسا بالاحتفاظ بقاعدتها العسكرية، مقابل الدفاع عن جيبوتي في حالة تعرضها لهجوم خارجي، وتمويل جزء من ميزانيتها، وتم تجديد الاتفاقية في الأعوام 1991 و2011 و2021 مع تعديل لبعض شروطها.
وتتعامل القاعدة مع الأزمات في أفريقيا والشرق الأوسط والمحيط الهندي، وتقدم الحماية للمواطنين الفرنسيين، وتعمل على تأمين السفن البحرية، ودعم عمل الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في حلف الناتو في منطقة القرن الأفريقي، وتستضيف القاعدة وحدات ألمانية وإسبانية، والقوات الدولية المشتركة لمكافحة القرصنة.
وتضم القاعدة أكبر وحدة عسكرية دائمة لفرنسا في أفريقيا، بها 1450 جنديا، ينتمون إلى وحدات متنوعة: القوات البرية والجوية وقوات الكوماندوز البحرية وقوات التدخل السريع. وتتمركز القوات الفرنسية في القاعدة البحرية، كما تنتشر في عدة مواقع أخرى مثل: مطار جيبوتي أمبولي الدولي، ومطار شابيلاي، وتشتمل القاعدة على طائرات هليكوبتر وطائرات "ميراج" المقاتلة وسرب دبابات ومركبات مدرعة.
القاعدة الصينية
افتتحت القاعدة العسكرية الصينية في أغسطس/آب 2017، بالقرب من ميناء دوراليه، على بعد حوالي 10 كيلومترات شمال غرب القاعدة العسكرية الأميركية، وهي القاعدة العسكرية الأولى والوحيدة للصين في الخارج، وتضم 1000 جندي، وتقوم بمهمة جمع المعلومات الاستخبارية في المنطقة، وتقديم الدعم البحري واللوجستي للجيش الصيني، والذي من شأنه بسط النفوذ الصيني على مساحة أوسع في العالم.
كما يرتبط تأسيس القاعدة ارتباطا وثيقا بالمصالح الاقتصادية الصينية، من حيث تأمين تجارة الصين مع الاتحاد الأوروبي، والتي تمر عبر خليج عدن وباب المندب، وتقدر قيمتها بأكثر من مليار دولار يوميا، وكذلك العمل على حماية الواردات الصينية من نفط الشرق الأوسط، وهو ما يصل إلى نحو 40% من إجمالي واردات الصين النفطية. كما يساعد وجود القاعدة في دعم مشروع "الحزام والطريق"، الذي يربط المناطق الساحلية الصينية بأفريقيا وآسيا وأوروبا.
وتبلغ مساحة القاعدة الصينية 36 هكتارا، وتضم ثكنات عسكرية ومواقع مخصصة للمسيرات، ومهبطا للمروحيات يتسع إلى ما يزيد على 24 طائرة هليكوبتر كبيرة. وتحتوي القاعدة على رصيف بحري، يمكنه استيعاب السفن الحربية الضخمة والغواصات الهجومية التي تعمل بالطاقة النووية وحاملات طائرات.
وقد تم تأهيل القاعدة بقدرات جوية وبحرية وبرية متطورة، ويمكنها استيعاب أعداد ضخمة من القاطنين، تصل إلى حوالي 10 آلاف عنصر.
القاعدة العسكرية اليابانية
أنشئت القاعدة العسكرية اليابانية عام 2011، بالقرب من معسكر "ليمونييه" الأميركي، وتعد القاعدة العسكرية الأولى لليابان في الخارج منذ الحرب العالمية الثانية، وتضم 180 جنديا، ينتسبون إلى قوات الدفاع وقوات الأمن وخفر السواحل.
وكان الهدف الرئيسي من بناء القاعدة المشاركة في العمليات الدولية لمكافحة القرصنة، وحماية أمن السفن التجارية اليابانية، التي تنقل صادرات البلاد من السيارات عبر مضيق باب المندب، وتضطلع القاعدة كذلك بتأمين مرور الواردات النفطية التي تحصل عليها اليابان من الشرق الأوسط.
وأصبحت القاعدة لاحقا تسهم في عمليات الإغاثة الإنسانية، كإجلاء المواطنين وتقديم مساعدات طبية في حالات الطوارئ، فضلا عن جمع المعلومات الاستخباراتية في الشرق الأوسط.
وقد تم توسيع القاعدة وتطويرها بحيث تصبح مركزا لعمليات قوات الدفاع الذاتي اليابانية في منطقة القرن الأفريقي، وتبلغ مساحتها 15 هكتارا، وتشمل ساحة للطائرات، ومعدات حربية متطورة بما فيها مدمرة لقوة الدفاع الذاتي البحرية اليابانية وطائرات للاستطلاع والمراقبة البحرية ومركبات مدرعة.
القاعدة العسكرية الإيطالية
تأسست القاعدة العسكرية الإيطالية عام 2014، بالقرب من مطار جيبوتي أمبولي الدولي، وتضم عددا يصل في المتوسط إلى 80 جنديا. وتم إنشاؤها للمشاركة في عمليات أتلانتا التابعة للاتحاد الأوروبي، وحماية السفن التجارية التي تعبر البحر الأحمر والمحيط الهندي، وتقديم الدعم للعمليات البحرية الإيطالية في المنطقة.
القاعدة العسكرية الإسبانية
تأسست القاعدة العسكرية الإسبانية عام 2008، وتستخدم مقر القاعدة العسكرية الفرنسية، وتضم القوات الإسبانية 50 جنديا، وتتمثل مهمتها في إطار العمل على دعم "عملية أتلانتا"، ودعم بعثات الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية لتأمين الملاحة في المنطقة. وقد شاركت القوات الإسبانية في عمليات مكافحة القرصنة، ومراقبة أنشطة الصيد.