باية محيي الدين.. الطفلة الرسامة الجزائرية التي أبهرت عشاق الفن الحديث

باية محيي الدين وبعض أعمالها في صورة لمجلة "فوغ" الفرنسية عام 1947 (مواقع التواصل الاجتماعي)

لم يكن أحد يتنبأ لفتاة جزائرية عاشت طفولة صعبة، في زمن الاحتلال الفرنسي، أن تتحول إلى واحدة من أيقونات الفن الحديث وتستقطب اهتمام رواده، وهي التي دخلت هذا العالم بفطرتها بدون اتباع أي مسار دراسي فني.

واحتفت مكتبة قطر الوطنية بالفنانة الجزائرية باية محيي الدين (1931 – 1998) بالشراكة مع المتحف العربي للفن الحديث، وذلك في إطار فعاليات العام الثقافي "قطر – الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا 2022″، حيث أقامت معرضا يعرّف ببعض أعمالها الفنية ويعرض مسار حياتها.

وضم المعرض 18 لوحة من 3 مصادر رئيسية هي مجموعة المتحف العربي للفن الحديث ومكتبة قطر الوطنية، بالإضافة لعدد من المقتنيات من مجموعات خاصة في الدوحة.

وتمثل اللوحات الفنية المعروضة "مجموعة من الموضوعات التي تتمحور حول الطفولة والأمومة والخصوبة، وغيرها من الموضوعات الخيالية أو الواقعية التي لطالما تكررت في أعمال باية ورسوماتها طوال مسيرتها الفنية"، وفق ما أفادته اللوحة التعريفية التي نشرتها مكتبة قطر الوطنية.

ولفتت الفتاة الجزائرية لما كان عمرها 16 عاما أنظار كبار فناني المدرسة السريالية، مثل بابلو بيكاسو (1881 – 1973) وهنري ماتيس (1869 – 1954)، من بين فنانين بارزين آخرين، كما ألهمت بيكاسو لرسم مجموعة لوحات تسمى "نساء الجزائر".

لوحة للفنانة باية محيي الدين بدون عنوان رسمت عام 1992 (الجزيرة)

سيرة فتاة.. حكاية فن

وُلدت فاطمة حداد، وهو الاسم الأصلي لباية، في 12 ديسمبر/كانون الأول 1931 في منطقة برج الكيفان، إحدى ضواحي الجزائر العاصمة، وأضحت يتيمة الأبوين وعمرها لم يتجاوز 5 سنوات، فانتقلت للعيش مع جدتها لأبيها التي كانت تعمل في حديقة تملكها سيدة فرنسية.

وفي عام 1942، زارت الرسامة ومؤرخة الفنون مارغريت كامينا بن حورة حديقة أختها، فأعجبت بباية وعرضت عليها تبنيها والانتقال للعيش معها في الجزائر العاصمة.

وعندما أصبح عمرها 13 سنة، أي في عام 1945، رسمت الفتاة عددا من اللوحات وصنعت منحوتات من الطين المحروق فاقتنى بعضها أصدقاء والدتها بالتبني، بينهم النحات الفرنسي جان بيريساك (1895 – 1974) الذي قدم أعمالها إلى الفنان الفرنسي إيمي مايخت.

أعجب إيمي مايخت، وقد كان منظم معارض شهيرا، بالأعمال الإبداعية لباية، إضافة إلى بعض نخب المجتمع الفني في أوروبا، فدُعيت في العام 1947 وعمرها حينئذ 15 عاما، إلى باريس كي تشارك في المعرض الدولي للسيريالية.

عقب ذلك، أقيم لها معرض منفرد في "معرض غاليري مايخت للفنون"، وخصصت مجلة (Derriere le miroir) الفنية (وراء المرآة) عددا لها ساهم في تحريره كل من أندريه بروتون وإيميل ديرمينغيم وجان بيريسيك.

في عامها 16، حققت أعمال باية نجاحا باهرا، ونشرت مجلة "فوغ" (Vogue) صورتها، ودعيت إلى ورشة مادورا للفخار في فالوريس (جنوب شرق فرنسا)، فالتقت الفنان العالمي بابلو بيكاسو، الذي كان مجاورا لها في الورشة الفنية، وصنعت عددا من المنحوتات الخزفية.

وفي عامها الـ18 (1950) قدمت باية عددا من اللوحات الفنية لمجلة (Soleil) "الشمس" التي أسسها المناضل والأديب الفرنسي الجزائري جان سيناك (1926 – 1973).

لوحة للفنانة باية محيي الدين بعنوان "مزهرية وآلات موسيقية" رسمت عام 1967 (الجزيرة)

شهرة وطنية وعالمية

وفي العام 1952، عادت باية للجزائر واستقرت في مدينة البليدة (40 كيلومترا جنوب العاصمة) وتزوجت الموسيقار الحاج محفوظ محيي الدين (1903 – 1979) وعمرها 21 عاما.

وتوقفت باية عن الرسم بعد اندلاع ثورة التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، وأنجبت 6 أطفال، وعادت إلى العمل الإبداعي مفضلة صناعة الفخار.

وبعد استقلال الجزائر في الخامس من يوليو/تموز 1962، استأنفت باية الرسم وعرضت عددا من أعمالها الفنية في المتحف الوطني للفنون الجميلة بالجزائر.

وفي العام 1964، عرضت مجموعة من أعمالها في متحف الفنون الزخرفية بباريس في معرض جماعي بعنوان "رسامون جزائريون".

وفي عام 1966، أقامت باية معرضها الفردي الأول في "غاليري بيلوت" بالجزائر العاصمة، واستمرت منذئذ بعرض أعمالها الفنية في الجزائر.

لوحة للفنانة باية محيي الدين بعنوان "الموسيقيان" رسمت في العام 1966 (الجزيرة)

وفي عام 1976، شاركت في التوقيع على بيان مجموعة "أَوشام" الذي يشجع الفنانين الجزائريين على إعادة اكتشاف كثافة الألوان في الأشكال والرموز تعبيرا عن حالة إزالة أثر الاستعمار وإبراز خصوصية الفن الجزائري.

وفي العام 1971، كلفت منظمة "يونيسيف" باية بتصميم طابع بريدي يحمل شعار المنظمة احتفالا بالذكرى السنوية الـ25 لتأسيسها.

وعرضت باية أعمالها مجددا في فرنسا بعد غياب دام 35 عاما، وذلك في متحف كانتيني بمرسيليا.

وفي عام 1990، عرضت لوحاتها في معهد العالم العربي بباريس إلى جانب أعمال الفنانة التركية الأميرة فخر النساء زيد (1901 – 1991) والفنانة المغربية "الشعيبية طلال" (1929 – 2004).

لوحة للفنانة باية محيي الدين بعنوان "آلات موسيقية وفراشات" رسمت في العام 1984 (الجزيرة)

وشاركت باية بعد ذلك في معرض "قوى التغيير: فنانون من العالم العربي" بالمتحف الوطني للمرأة والفنون في واشنطن العاصمة.

وفي عام 1995 مع اشتداد وتيرة العنف في البلاد، ذهب السفير الفرنسي في الجزائر حينها إلى بيتها في مدينة البليدة لمنحها الجنسية الفرنسية وتسهيل انتقالها إلى فرنسا، لكن باية رفضت العرض وفضلت البقاء في الجزائر.

وفاتها

وفي التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 1998، توفيت باية محيي الدين في منزلها بمدينة البليدة وعمرها 66 عاما.

وكرمت بعد وفاتها وأقيم لأعمالها الفنية عدد من المعارض في بعض ولايات (محافظات) الجزائر مثل الجزائر العاصمة ووهران، كما أقيمت لها معارض في الإمارات وقطر وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية