فدوى طوقان.. أمّ الشعر الفلسطيني
فدوى طوقان، شاعرة فلسطينية، تمثل رمزا شعريا نسويا وطنيا، تأثرت بشعراء المهجر، وكانت مِن أوائل مَن نظم الشعر العربي الحر. حازت على العديد من الجوائز والأوسمة، وغلب على شعرها الهمّ الوطني منذ عام 1967، فأطلق عليها "أمّ الشعر الفلسطيني" و"شاعرة فلسطين".
المولد والنشأة
ولدت فدوى عبد الحميد آغا طوقان عام 1917، في مدينة نابلس بفلسطين.
نشأت في أسرة عريقة شديدة المحافظة، في بيت أثري كبير توارثته العائلة عن الأجداد، ويذكر بالقصور، أما المناخ العائلي من حولها فكان يسيطر عليه الرجل، وكانت المرأة فيه سجينة الجدران، حسب ما ذكرت هي نفسها في كثير من كتاباتها.
كانت فدوى الطفل السابع في عائلة لها 10 من البنين والبنات، وقد عانت من طفولة مليئة بالاضطهاد والرفض، فلم تنل قسطا كبيرا من حبّ والديها، كما عبرت عن ذلك في كتابها "رحلة جبلية".
خرجت فدوى من ظلمات الرحم إلى عالم غير مستعد لقبولها، فوالدتها حاولت إجهاضها جنينا، ولم تستطع أن تتذكر تاريخ ميلادها إلا رابطا بعيدا يذكرها بوفاة ابن عم لها وهي ما زالت حاملا في شهرها السابع بفدوى.
وبعد ولادتها، سلّمت الأم مسؤولية العناية بها إلى الخادمة التي كانت تعمل في المنزل، ومنعتها من اللعب بالدمى في سن الثامنة، وكانت تكبح جماح خيالها وتأمرها أن تكف عن "الخزعبلات"، وكانت محاولات الأم اليائسة في الدفاع عن فدوى إذا وقع عليها ظلم، تبوء بالفشل لسيطرة التقاليد القاسية.
أما والدها فكان يأمل أن تكون ذكرا، ولما لم يتحقق حلمه، لم يبد لها أي لون من الاهتمام أو الإيثار، وكانت علاقتهما باردة وبعيدة وخالية من العاطفة.
وكان انعكاس ذلك واضحا على فدوى، فلم يكن لوالدها حضور وجداني في نفسها، إلا في مرضه أو حين سجن أو أبعد لأسباب سياسية، فكانت تتأرجح ما بين الشعور بالحاجة إلى وجوده، والشعور بعدم الانتماء الوجداني إليه.
تلك التناقضات في علاقتها مع والديها، وذاك الفراغ العاطفي كان مقرونا باعتلال صحتها، فكانت منهكة بحمى الملاريا التي رافقت طفولتها، وكان شحوبها ونحولها مصدرا للتندر والفكاهة، كما أن حاجاتها المادية في تلك الفترة لم تعرف الرضا أو الارتياح، فكانت تتوق للحصول على حلق ذهبي أو سوار أو فستان جميل أو حتى دمية من دمى المصانع.
أما مراهقتها فلم تكن أحسن حالا، فظلت هدفا لسيف الجلاد من قبل "حماة التقاليد"، غيظا وحنقا بسبب مسيرتها الشعرية.
ومن الأشخاص الذين أثروا في حياتها المبكرة "الشيخة" التي تحدثت عنها في مذكراتها، ولكن لم تذكر اسمها، والتي تصورها بأنها "متكلفة متصنعة في العبادات، صحراء لا شجرة فيها ولا ينبوع ماء، تتملكها غطرسة طبقية عمياء، مع سوء الظن والعدوانية"، والتي شكلت أحد قيودها الثقيلة، وكانت "كابوسا ترك بصماته على حياتها لفترة طويلة".
تلك الحياة التي عاشتها فدوى المملوءة بالحرمان والحزن، أكسبتها شخصية متشائمة وكئيبة، كما أدت معاناتها من التعصب والقيود إلى ميلها للانطواء والوحدة، والتفكير في الانتحار تعبيرا عن التمرد والانتقام من ظلم الأهل.
وفي تلك المرحلة القاسية من فترة المراهقة، كان أخوها الشاعر إبراهيم طوقان (الأب الضائع الذي ملأ الفراغ النفسي الذي عانت منه)، والذي عاد من بيروت عام 1921 يحمل شهادته الجامعية، فكان حبه واهتمامه يضفيان عليها شعورا بالرضا.
وكانت فدوى مرهفة الإحساس تكتفي بالشعر لتعبر عن مشاعرها الحقيقية، في وقت حبست فيه شخصيتها الاجتماعية في إطار التقاليد.
الحب والزواج
كانت فدوى تحب الحب لذاته، وتعتبره متنفسا يشعرها بأنها ما زالت على قيد الحياة، وتمنت أن تعيش التجربة بفرحها وألمها، وقد تحقق لها ذلك مرات، لكن أيا منها لم تتوج بالزواج.
فالحب الكبير الذي جمعها بالشاعر المصري إبراهيم نجا، وخلده بعض من أروع قصائدهما ورسائلهما المتبادلة المحملة بالحب والإلهام، كان محكوما بالفشل، بسبب قيود التقاليد التي تكبلها وتمنعها من الزواج بغريب، خاصة إذا كان من بلد آخر.
وكذلك قصة الحب التي ربطتها بالناقد المصري الكبير أنور المعداوي، والتي كانت تعلم أنها بلا أمل بسبب الظروف التي تحياها، إلا أن الأدب اغتنى مرة أخرى برسائلهما التي تمثل أدبا رفيعا وإنتاجا شعريا خصبا قدمته فدوى في تلك الفترة.
الدراسة والتكوين العلمي
كانت أسرتها المحافظة شغوفة بالعلم والمتعلمين، وكان الذكور يواصلون دراستهم الجامعية، أما الإناث فكن يأخذن قسطا بسيطا من التعليم، وهكذا استطاعت فدوى أن تلتحق بالمدرسة.
تلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة الفاطمية أولا، ثم العائشية من بعد، ولم تتجاوز مدة دراستها 5 سنوات، إذ حرمت من مواصلة تعليمها، وفرضت عليها الإقامة الجبرية في المنزل، حين علم شقيقها يوسف أن صبيا يلاحقها في الطريق.
وسط هذا الحصار، يطل شقيقها إبراهيم ليصبح بمثابة مفتاح النور لعقلها، ويغدو الأستاذ والمعلم لها، فاستطاعت بفضله أن تنال قسطا من العلم والثقافة الأدبية في البيت، فعلمها قواعد الشعر والنحو والبلاغة، كما درّسها علم العروض وشجعها على كتابة الشعر، وأرشدها إلى أمهات الكتب العربية في الأدب والفكر وغيرها.
وقد عملت فدوى جاهدة على التغلب على منعها من الدراسة النظامية، فقامت بتثقيف نفسها وصقل عقلها بالقراءة الدؤوبة وسعة الاطلاع، فكان عالمها الوحيد في ذلك الواقع المتسم بالانغلاق والخواء العاطفي هو عالم الكتب.
كانت قارئة شرهة، غطت قراءاتها التراث العربي والآداب العالمية بما فيها الكتب الدينية، ولم تكن قراءاتها في بدايتها منهجية، فقد كانت تقرأ كل ما تقع عليه يداها، فقرأت الكتب الأدبية إلى جانب الكتب التاريخية والاجتماعية والفلسفية وعلم النفس.
ثم تعمقت في دراسة الأدب العربي وعلوم النحو والصرف والشعر العربي في العصر الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي، والتصقت بالرواية ووجدت فيها حصيلة المعرفة الإنسانية من فكر وشعر وفلسفة وعلم اجتماع وتحليل نفسي، ووجدتها تتناول الحياة والإنسان بكل اهتزازاته الحية وتناقضاته.
وفي عام 1939، انتقلت مع أخيها إبراهيم إلى مدينة القدس، وتعرفت خلال هذه الفترة على شعراء وأدباء وسياسيين، وارتادت نوادي الأدب والثقافة والمكتبات ودور السينما.
وبدأت تعلم اللغة الإنجليزية للتعرف على الأدب الغربي، فالتحقت بمدرسة مسائية لجمعية الشبان المسيحية بالقدس.
وفي أواخر مارس/آذار 1962، انتقلت للعيش في لندن لمدة عامين، التحقت خلالهما بدورات في جامعة أكسفورد لتعلّم اللغة والأدب الإنجليزي، وفي هذه الفترة اطلعت على أعمال الأدباء والشعراء والفلاسفة الغربيين، فانفتحت على الفكر الغربي، وتقاربت مع الفكر اليساري، واطلعت على الأديان المختلفة، كما أنّها اطلعت بشكل مدروس على الأدب والمؤلفات الصادرة في دولة الاحتلال الإسرائيلي.
تجربتها الأدبية
تعد فدوى رمزا من رموز القضية الفلسطينية في جانبيها الثقافي والنسوي، ومثّل شعرها مرآة لمجموع الشعب الفلسطيني الذي عانى الاحتلال واللجوء والأسر والقتل والتنكيل.
وقد كانت حياتها عبارة عن قصة كفاح، تغلبت فيها على الرقابة الاجتماعية التي تمتد إلى النص الأدبي، وكانت محاولاتها الأولى في نظم الشعر الغنائي، مثل أغنية العيد التي كتبتها للإذاعة الفلسطينية عام 1934، ثم بدأت بتأليف المقطوعات.
وكانت تنشر قصائدها الأولى في الصحف والمجلات العربية، كمجلة الرسالة المصرية والأمالي اللبنانية ومرآة الشرق، وكانت توقع قصائدها الغزلية باسم "دنانير"، لتحمي نفسها من "الفضيحة والعار"، ثم ما لبثت أن اشتهرت باسم "المطوقة".
وفي بداية الأربعينيات، بدأت تتأثر بشعراء المهجر، ووجدت شعرهم أقرب إلى تكوينها النفسي وتركيبها الذهني، كما تأثرت في تلك الفترة بشعراء مدرسة "أبولو" كإبراهيم ناجي وأبي القاسم الشابي، والتحقت بالتيار الرومانسي، وقد كان شعرها في هذه المرحلة أساسا قويا للتّجارب الأنثوية في الحب والحرية والثورة و"احتجاج المرأة على المجتمع".
كما تركت وفاة شقيقها إبراهيم جرحا في قلبها لم يندمل، فكتبت فيه أبدع قصائد الرثاء الصادقة المعبرة عن نفسها المكلومة الحزينة، ويعبر عن هذه الفترة ديوانها الأول "وحدي مع الأيام"، الذي هيمن عليه الإحساس بالعزلة والكآبة العميقة.
ومنذ بدء حركة الشعر العربي الحديث في الخمسينيات اقتنعت بها، وتخلت عن كتابة القصيدة ذات الشكل التقليدي، وكانت من أوائل الشعراء العرب الذين كتبوا شعر التفعيلة، فلم تتوقف عند القوالب الجاهزة في الشعر، وبدأ شعرها يتسم بطابع خاص من حيث الشكل والمضمون.
كتبت فدوى القصيدة ذات الظاهرة المقطعية، كما استعملت في قصائدها البناء القصصي والحوار الداخلي (المونولوغ) والحوار والارتجاع الفني، واستوحت التراث والأسطورة، وأحيانا كتبت القصيدة ذات الأصوات المتعددة، ووحدت بين الأزمنة في علاقة درامية، فتجلى إبداعها وظهر هذا التطور منذ ديوانها الثاني "وجدتها"، الذي عكس انبساطها بالحب والحرية التي طرأت على مجتمعها.
كان هذا التحول في الشكل بالانتقال من القصيدة العمودية إلى القصيدة الحرة هو بداية التحول في المضمون، ونقله من التمركز حول الذات وهمومها ومشاغلها إلى التمركز حول الموضوع العام وقضيتها الوطنية.
وقد كان والدها يطالبها بكتابة الشعر السياسي بعد وفاة شقيقها إبراهيم لتملأ الفراغ الذي تركه، لكن فدوى لم تكن قادرة على المشاركة في حركة التحرر السياسي، ولم تفك عقدة لسانها إلا بعد وفاة والدها عام 1948، وتأثرها بالأحداث المحلية الدامية، فبدأت تكتب الشعر الوطني بتلقائية ودون إلزام من الخارج.
وجاءت النقلة الحقيقية في مسيرتها الأدبية من حيث المضمون حين وقعت النكسة عام 1967، فبدأت الشاعرة تخرج من قوقعتها، وتنخرط في الواقع الفلسطيني وتلتصق وجدانيا بالقضية الجماعية، وتحول شعرها من الرومانسية إلى الواقعية.
وغدا شعرها وسيلة التعبير عن الهم الجماعي العام والعبور إلى جوهر الصراع الفلسطيني الصهيوني، ووصفه بصوره التاريخية والسياسية، ووصلت في هذه المرحلة إلى قمة الإبداع الأدبي الذي بدأته بديوانها " الليل والفرسان".
وقد تعرّفت في تلك الفترة على محمود درويش وسميح القاسم من خلال القاص الفلسطيني توفيق فياض، ومن ثم ارتبطت بهما من خلال مساهماتها الشعرية في "مجلة الجديد" التي كان يشرف عليها كل من درويش والقاسم، وأصبح بيتها ملجأ الأدباء والشعراء من الأرض المحتلة.
أُطلق عليها لقب "شاعرة فلسطين" للدلالة على ريادتها، كما أطلق عليها الشاعر محمود درويش لقب "أمّ الشعر الفلسطيني".
رحلاتها
كانت فدوى طوقان مولعة بالسفر، فقد ارتبط بفلسفة خاصة بها تعتبر من خلالها أن السفر جزء لا يتجزأ من حياتها، وقد زارت الشاعرة الفلسطينية كلا من روسيا والصين والسويد وإيطاليا وألمانيا وهولندا ورومانيا وبريطانيا، أما بالنسبة للدول العربية فقد زارت أغلبها، وهذه الرحلات وسعت آفاقها، وأثرت على اتجاهاتها الفكرية.
الإنجازات والمؤلفات
شغلت فدوى طوقان عدة مناصب جامعية، كان آخرها منصب أمينة السر في مجلس أمناء جامعة النجاح الوطنية بنابلس. وقد شاركت في مؤتمرات وندوات واجتماعات فكرية وأدبية على الصعيد العربي والعالمي.
كرّست حياتها للشعر والأدب، حيث أصدرت العديد من المجموعات الشعرية والمؤلفات منذ عام 1952، ومنها:
- وحدي مع الأيام (1952).
- وجدتها (1957).
- أعطني حبا (1960).
- أمام الباب المغلق (1967).
- الليل والفرسان (1969).
- على قمة الدنيا وحيدا (1969).
- تموز والشيء الآخر (1987).
- اللحن الأخير (2000)
وتُرجمت بعض أشعارها إلى لغات أجنبية عديدة كالإنجليزية والإيطالية والسويدية والفرنسية والألمانية والروسية والتركية والفارسية والعبرية.
ومن آثارها النثرية:
- كتاب "أخي إبراهيم" (1946) الذي جعلته مقدمة لديوان شقيقها إبراهيم.
- كتاب "رحلة صعبة رحلة جبلية" (1985)، وهي سيرة ذاتية تتضمن مجموعة مذكراتها منذ ولادتها إلى عام 1967، وترجم إلى الإنجليزية.
- كتاب "الرحلة الأصعب" (1993)، وهو سيرة ذاتية أيضا، ويتضمن سيرة حياتها تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ النكسة عام 1967، وحتى الانتفاضة الأولى عام 1987، وترجم إلى الفرنسية.
الأوسمة والجوائز
نالت فدوى طوقان العديد من الجوائز، منها:
- جائزة الزيتونة الفضية لحوض البحر الأبيض المتوسط في إيطاليا عام 1978.
- جائزة عرار السنوية للشعر في عَمّان عام 1983.
- جائزة سلطان العويس في الإمارات العربية المتحدة عام 1989.
- جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة في إيطاليا عامي 1992 و2000.
- جائزة البابطين للإبداع الشعري في الكويت عام 1994.
- جائزة كافافيس الدولية للشعر في القاهرة عام 1996.
- جائزة الآداب من منظمة التحرير الفلسطينية عام 1997.
- حصلت على 3 أوسمة: وسام القدس من منظمة التحرير الفلسطينية (1990)، ووسام الاستحقاق الثقافي في تونس (1996).
الوفاة
توفيت فدوى طوقان يوم الجمعة 12 ديسمبر/كانون الأول 2003، في مستشفى مدينة نابلس، إثر أزمة قلبية، بعد أن ظلت تحت الملاحظة في وحدة العناية المركزة لمدة 20 يوما، وغادرت إلى دار البقاء عن عمر يناهز 86 عاما.