معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.. ذاكرة حيّة للفظ العربي
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية هو معجم تاريخي متجدد؛ يسعى إلى جمع ذاكرة كل لفظ من ألفاظ اللغة العربية وحفظها، وربط اللفظ بدلالاته المختلفة عبر سياق الزمن والاستخدام، من خلال رصد تحوله النحوي والدلالي، بدءا من مكان ظهوره الأول مرورا بالفترات الزمنية كافة التي استُخدِم فيها، عن طريق جمع النقوش والنصوص التي تجلى فيها كافة، وتوثيقها.
الماهية والتأسيس
تستند فكرة المعجم في الأساس إلى فكرة القصور المعجمي المرتبطة بضرورة تتبع تطور اللفظ العربي زمنيا وتحوله، ومفادها أن التراث العربي وجهود المحدثين قد قدمت بلا شك أعمالا معجمية رائدة، ولكنها تفتقر إلى الرؤية التاريخية التي تقوم برصد اللفظ العربي ومواكبة تطوره عبر الزمن، كما تفعل كافة معاجم اللغات الحية العالمية، ذلك أن حياة اللفظ وتطوره هي دورة استخدامه مرة بعد مرة.
لذا أطلق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مشروع معجم الدوحة التاريخي يوم 25 مايو/أيار 2013 بعد فترة تحضيرية شملت مناقشات وندوات طويلة على مدار سنة ونصف السنة، جمعت الخبراء والمختصين في اللغة العربية وآدابها، حُدِّدَ خلالها البناء العام للمعجم ومختلف هياكله المتمثلة في المجلس العلمي والهيئة التنفيذية للمعجم، وكذلك فرق المعالجة الحاسوبية، كما وضعت المنهجية العامة للعمل.
أهداف المعجم
- إنجاز معجم تاريخي للغة العربية.
- بناء مدونة لغوية عربية شاملة موازية للمعجم وتتضمن جميع ألفاظه خلال المراحل الزمنية المتعددة.
- استخلاص معاجم فرعية عربية شاملة.
- إصدار دراسات وأبحاث معجمية.
وقد عرفت البلاد العربية مشاريع سابقة على غرار مجمع اللغة العربية في مصر عام 1932، والذي أسهم فيه المستشرق الألماني أوغست فيشر في محاولة منه لتسجيل تطور اللغة العربية، ومعجم "المرجع" الذي عمل عليه الشيخ عبد الله العلايلي في لبنان سنة 1963، بالإضافة إلى المشروع التونسي للمعجم التاريخي العربي، الذي نجح في جمع شواهد كثيرة لشعراء من الجاهلية، وصولاً إلى محاولة اتحاد المجامع اللغوية والعلمية العربية.
غير أن هذه المعاجم كلها عُنيت بالألفاظ ومعانيها، وتمكن كل واحد منها من إيراد ألفاظ متعددة ومعان محددة، وفق التجذير والاشتقاقات، وبحسب النسبة التي استحضرها كل معجمي من متن اللغة العربية، لذا لا نجد معجما منها استقصى ألفاظ اللغة العربية كاملة، واستوعب معانيها كليا، ولم يعن أي منها بترتيب ألفاظ العربية تاريخيا وفق ظهورها في الاستعمال، لينكشف للقارئ سياقات التطور التاريخية لتلك الألفاظ وحركة معانيها، بما يكشف عن تاريخية تطور فكر الأمة، وحضارتها، ومفاصل تكون شخصيتها، وطبيعة التأثيرات والتأثرات التي خلفها اتّصالها بغيرها، وعلى الرغم من ذلك فإن المعجم التاريخي للغة العربية يرى أن هذه المعاجم أسهمت في ترتيب الكثير من المعطيات ويعدّها خطوات سابقة يمكن التأسيس عليها.
هوية معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
- معجم لغوي تاريخي: يركّز على الخط الزمني والاستعمال الأقدم جغرافيا، ويحاول التوثيق لهذه الألفاظ من خلال النصوص المتصاعدة زمنيا، ويقدم فكرة كاملة عن حياة اللفظ وقدرته على التوليد وتطور الدلالات.
- معجم مفتوح: فهو مفتوح على الاستدراك في كل مرة، إذ لا يمكن ادعاء إمكانية حصر كل الألفاظ، بسبب ثراء المكتبة العربية، والتي لا يزال بعض من مخطوطاتها غير محقق.
- معجم مرحلي تراكمي: فلا يمكن إنجازه دفعة واحدة، وإنما يتطلب الأمر البناء عبر مراحل، وتخضع المرحلة للمعنى الإجرائي، إذ يمكن العودة إلى المرحلة السابقة متى ما قدمت المرحلة الحالية إيضاحات جديدة.
- معجم نسقي: يتبع المعجم نظاما نسقيا حسب ما تقتضيه الضوابط المعجمية المعاصرة، بحيث نجد اللفظ يليه جذره، ثم نجد وسمه وتاريخ استعماله، مردفا برأس التعريف، ثم التعريف، ثم الشاهد النصي واسم مستعمله، وأخيرا مصدر توثيق الشاهد، وذلك بالاعتماد على تقنية بناء المدونات اللغوية، ومنصة العمل الحاسوبية والجذاذة الإلكترونية والبرامج والتطبيقات الحاسوبية.
- معجم تفاعلي موثّق وموثوق: يسمح المعجم بتفاعل جمهور المختصين ويستقبل التغذيات الراجعة، ويعتمد النص بعد تأكيد مصدره.
- معجم لغوي: يُعنى بألفاظ اللغة العربية ومعانيها، ولا يقدم معلومات خارج المعجم اللغوي، ويربط ألفاظ اللغة العربية باللغات السامية ويعيدها إلى أصلها الفارسي أو اليوناني، وما إلى ذلك من أصول سامية وأعجمية، كما يُعنى بلغة العرب ولهجاتها ولا يقتصر على لهجة واحدة، ويظهر ذلك جليا في المدونة النصية التي صُمِّمَت خصيصا للمعجم.
مراحل الإنجاز
تتوزع خطة الإنجاز على 5 مراحل إجرائية، تبدو متباينة، إلا أنها متداخلة نظرا لبُنية العمل التراكمية ولامتداده الزمني، كانت بدايتها بالمرحلة التحضيرية الممتدة من سنة 2011 إلى غاية سنة 2013، حيث تم اعتماد المشروع خلالها من قبل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي كان وليا للعهد آنذاك، بعد أن تقدم به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
ثم تم جمع المُعْجَمِيّين العرب والمتخصصين في اللغة العربية من الدول العربية كافة لبناء المعجم المستند إلى أكبر مدونة للغة العربية من دون العودة لأي قاموس قائم، وقد بلغ أعضاء الفريق زهاء 300 من أساتذة الجامعات والخبراء والعلماء في عدد من الدول العربية، من الأردن، والإمارات، وتونس، والجزائر، والسعودية، وسوريا، والعراق، وفلسطين، وقطر، والكويت، ولبنان، وليبيا، ومصر، والمغرب، وموريتانيا، واليمن.
ثم بدأت مرحلة الندوات والنقاشات الصارمة التي أفضت إلى وضع الرؤية الأساسية للعمل وللمنهجية المتبعة، وحددت مختلف الجهات التنفيذية والإجرائية التي سوف تقوم بمتابعة العمل، لتتكلل هذه المرحلة بالإعلان عن المشروع في 25 مايو/أيار 2013.
أهداف المرحلة الأولى من سنة 2013 حتى 2018:
- مسح الفترة الزمنية الممتدة من أقدم نقش أو نص عربي موثق إلى غاية سنة 200 للهجرة.
- ترتيب المدونة النصية الخاصة بالألفاظ المغطاة كافة.
- العمل على تنسيق معلوماتي لكل ما سبق، وطرحه ضمن صورة حاسوبية ترافق التطور التكنولوجي الحاصل في العالم في مجال الأنظمة المعجمية الحاسوبية.
وبعد جهود 5 سنوات من العمل المكثف أطلق أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 2018، البوابة الإلكترونية لمعجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة، ليكون بذلك أول معجم تاريخي متاحا للجمهور يضم قاعدة معطيات مصنفة، وقد كان نتاج المرحلة الأولى من العمل على المعجم قرابة 250 مليون كلمة في 100 ألف مدخل معجمي، خلال رصد للفترة من القرن الخامس قبل الهجرة وحتى عام 200 هجرية.
في حين تشارف المرحلة الثانية التي تقف عند عام 500 للهجرة على نهايتها حسب الإحصائيات المنشورة على موقع معجم الدوحة التاريخي، على أن تتابع المرحلة الثالثة والرابعة والخامسة ما تبقى من سنوات من أجل الوصول إلى الوقت الحالي.
البوابة الإلكترونية
يعد موقع المعجم منصة حاسوبية تقدم قاعدة بيانات المدونة اللغوية وقاعدة بيانات البيبلوغرافيا، وكذلك الحزم الاشتقاقية المرتبطة بسياق ورود الألفاظ وجذاذتها المعجمية الإلكترونية، من خلال تقديم تفاصيل حول الوحدة المعجمية، وهي الوحدة اللفظية التي عادة ما تكون لفظا عاما أو مصطلحا مفردا أو مركبا، ثم الوسم الخاص به المكون من الخصائص الصرفية والتركيبية للفظ.
ويأتي بعد ذلك التأريخ للاستعمال الأول على وجه التقريب، يليه تقديم الشاهد المتمثل في النص اللغوي المستدل به على ورود الوحدة المعجمية المحررة في الاستعمال، ليستفيض الموقع فيما بعد في تقديم التعريف، وهو عبارة تشرح اللفظ في سياقه وما يميزه عن غيره وفقا للخصائص البنيوية والدلالية، كما لا يغفل الموقع عن المعلومات الببليوغرافية المتعلقة بالمصدر الذي ورد فيه اللفظ.
يعرف المعجم نفسه عبر موقعه بأنه معجم خاضع للتحديث المستمر، يستخدم أدوات المعالجة كافة، مثل: الدليل المعياري للمعالجة المعجمية، ودليل التحرير، والمصادر المرجعية والمعاجم وغيرها، كما يتيح إجراء عمليات مختلفة من معالجة ومراجعة وتحرير ومراقبة سير جميع العمليات وتقديم إحصاءات ومعلومات عن سير العمل والفرق المعجمية، وغير ذلك، ويقع في نسختين؛ نسخة مرتبطة بالشابكة (الإنترنت) متاحة للجمهور، ونسخة منفصلة عنها يتم العمل عليها داخليا.
آلية معالجة اللفظ
يُقدِّم المعجم لكل لفظ من ألفاظ اللغة العربية مدخلا معجميا يتضمن المعلومات الآتية:
- جذر اللفظ.
- أقدم استعمال للفظ المنتمي إلى الجذر مستخلصا من النقوش، مع تحديد معناه وتاريخه والشاهد الذي ورد فيه ومستعمله ومصادره.
- معاني اللفظ مرتبة تاريخيا حسب ظهورها في النصوص الموثقة، مع تعريفاتها اللغوية والاصطلاحية، وتواريخ استعمالها، والشواهد التي وردت فيها، ومستعمليها ومصادرها.
- تأثيل اللَّفظ، أي نظائره في اللّغات السّامية وغيرها.
الأهمية والآفاق
يختلف المعجم عن غيره من المعاجم بحجمه الهائل الذي يقدم مادة لغوية كبيرة، بالإضافة إلى مضمونه التاريخي السياقي، وكذلك أهدافه الساعية إلى تحقيق نهضة للغة العربية يمكنها أن تفيد الباحثين والمختصين في أبحاثهم في الحقول المعرفية المختلفة.
إذ يعد معجم الدوحة الأول في رصد الألفاظ العربية وجمعها وترتيبها داخل خط زمني، ولعل الاهتمام بالسياق التاريخي هو اهتمام بالثقافة وبحياة اللغة العربية وتطورها وتفاعلها مع نفسها ومع العالم.
كما يطمح المعجم إلى جمع أكبر قدر من الألفاظ ومعانيها عبر مراحله كافة، ويعمل على ربط المعجم بالكتب التعليمية لتمكين الطالب من الولوج إلى الكلمة داخل النص فور النقر عليها فتحيله إلى المعجم وتمده بما يشرح له ماهية اللفظ وتطوره الزمني، وكذلك ربط مفردات مصحف قطر والمعجم من أجل توضيح ومعرفة كافة سياقات واستعمالات ودلالات كل مفردة من مفردات القرآن الكريم قبل الإسلام.