جيمس يانغ سيمبسون.. أول طبيب استخدم الكلوروفورم للتخدير
السير جيمس يانغ سيمبسون (1811-1870) -طبيب أمراض النساء الأسكتلندي- أول من اكتشف خصائص تخدير الكلوروفورم، وأدخله بنجاح في الاستخدامات الطبية العامة، واستخدمه في تخفيف آلام الولادة عام 1847. كما كان أول من وظف العلاج بالإبر لتوقيف النزيف، ومن أوائل المدافعين عن عمل القابلات في المستشفى.
أصبح طبيبا لملكة بريطانيا فيكتوريا، التي كانت من أولى النساء اللائي خُدّرن خلال الولادة عام 1853. وعلى إثر ذلك ساعدت في استصدار الموافقة على استخدام مخدر الكلوروفورم في طب الولادة.
حصل على لقب بارون عام 1866، تقديرا له على بحوثه وتجاربه الناجحة. كما كان رائدا في العديد من التطورات الأخرى في طب التوليد، وعُرف بـ"الفيزيائي المؤمن".
وبدءا من أربعينيات القرن 19، أحدت استخدام الكلوروفورم تحولا في أولويات الجراحين بعد أن صارت السيطرة على الألم ممكنة.
المولد والنشأة
ولد جيمس سيمبسون في السابع من يونيو/حزيران 1811 في باثغيت غرب لوثيان بالقرب من أدنبره عاصمة أسكتلندا في المملكة المتحدة. وهو أصغر إخوته الثمانية لوالدته ماري جيرفيه ووالده ديفيد سيمبسون، الذي كان خبازا.
أطلق جيمس على نفسه لاحقا اسم جيمس يانغ سيمبسون، وكان من أتباع الكنيسة الحرة في أسكتلندا، لكنه رفض التوقيع على "إقرار إيمان وستمنستر"، وهي وثيقة إيمانية ولاهوتية منظّمة لأساسيات الإيمان المسيحي صدرت عام 1646، بسبب ما كان يعتقد أنه تفسير حرفي لكتاب سفر التكوين (العهد المسيحي القديم).
الدراسة والتكوين
أظهر جيمس في سن مبكرة قدرة استثنائية على الدراسة والبحث، وفي سن الرابعة من عمره التحق بمدرسة ابتدائية محلية في لندن، وسرعان ما جذب انتباه أساتذته، إذ كان موهوبا وذكيا.
وكان والده قد أجبر أشقاءه على العمل حتى يتمكن هو من الدراسة في الجامعة، وعام 1825، درس الفنون في جامعة أدنبره، إحدى الجامعات السبع العتيقة في بريطانيا، وكان في الـ14 من عمره.
ثم التحق بكلية الطب وعمره لا يتجاوز 16 سنة، وأخذ دروسا إضافية في فرع الجراحة تحت إشراف الجراح روبرت ليستون.
وعام 1830، حصل على البكالوريوس من الكلية الملكية للجراحين في أدنبره، وكان آنذاك في الـ18 من عمره. ولصغر سنه، كان عليه الانتظار عامين قبل أن يحصل على رخصة ممارسة الطب.
عانى جيمس خلال هذه الفترة من الاكتئاب حزنا على وفاة والده، قبل أن يعود إلى الجامعة بناء على إصرار عائلته. وقال حينها إنه عائد فقط لإرضاء العائلة. وعام 1832، نال شهادة الدكتوراه في الطب، وحظيت أطروحته بإشادة كبيرة.
التجربة العملية في الطب
أسهمت كفاءة جيمس في صعوده السريع في السلم الأكاديمي الطبي. ففي عام 1831، تم تعيينه مساعدا لمدير مستشفى "سيتي لاينغ إن" في أدنبره. وعام 1835، انتخب رئيسا للجمعية الطبية الملكية.
وفي الـ24 من عمره، بدأ في إلقاء محاضرات عن طب التوليد عام 1838. وفي الـ28 من عمره تم تعيينه أستاذا للطب والقبالة عام 1839 (ما يُطلق عليه الآن طب التوليد)، كما تم تعيينه رئيسا لقسم التوليد في جامعة أدنبره، وهو المنصب الذي شغله لمدة 17 عاما.
وعام 1847 تم تعيينه طبيبا للملكة فيكتوريا، وفي 1849 أصبح عضوا في طاقم مستشفى أدنبره الملكي، وهو شرف نادر لطبيب التوليد في ذلك الوقت.
عام 1850 تم تعيينه طبيبا في مستوصف أدنبره الملكي، ورئيسا للكلية الملكية للأطباء، ورئيسا لجمعية الطب العلاجي. وعام 1853، انتخب عضوا أجنبيا في الأكاديمية الفرنسية للطب.
وكان قد استقر في ستوكبريدج، وأنشأ عيادته الخاصة وعالج فيها فقراء المدينة القديمة في أدنبره، إلى جانب سكان المدينة الجديدة الأثرياء، كما كان دائم السفر إلى الأرياف للمساعدة في الولادة.
طرق تقليدية للتخدير
ابتدع الأطباء طرقا طريفة للتخدير في أثناء العمليات الجراحية، مثل تقييد حركة المريض أو ربطه إلى طاولة العمليات، أو ضربه بمطرقة خلف رأسه فيفقد وعيه.
ونجح الأطباء المسلمون منذ القرن 12 في اكتشاف أعشاب ونباتات لها مفعول مخدر، وكانوا أول من أسسوا علم التخدير، وأطلقوا عليه اسم المرقد (أي المخدر).
كما ابتكروا أداة للتخدير سموها الإسفنجة المخدرة (ابتكرها ابن زهر). وكانت هي الأساس الذي بدأ به أطباء أوروبا واعتمدوا عليه في التخدير بواسطة استنشاق الغازات مثل "الغاز المضحك" (أكسيد النيتروز)، والكلوروفورم، والإيثر (مزيج من الكحول وحمض الكبريتيك).
وتشير المراجع التاريخية إلى أن الأطباء العرب كانوا هم من أسسوا القواعد الأولى لاكتشاف الإيثر باختراعهم لمادتي الغول (الكحول)، والزاج الأخضر (حمض الكبريت)، وطرق تركيب هذه المواد الرئيسية في التخدير.
واستعمل الطبيب (لونج) الإيثر في عملية جراحية عام 1842، ثم استخدم في تسكين آلام امرأة في الولادة، ثم استخدمه الطبيب غرين مورتن مخدرا عند قلع الأسنان.
وكانت أول عملية بهذا المخدر في مستشفى جامعة لندن من قبل روبرت ليستون في ديسمبر/كانون الأول 1846.
من الإيثر إلى الكلوروفورم
كان جيمس متحمسا لنجاح تجربة أستاذه روبرت ليستون، وفي يناير/كانون الثاني 1847، استخدم الإيثر مخدرا في حالة مخاض معقدة لامرأة كانت مصابة بتشوهات في الحوض أثناء عملية الولادة.
وإلى نهاية العام، كان يستخدم هذا المخدر بشكل روتيني وصمم جهاز الاستنشاق الخاص به. ومع ذلك، كان يبحث عن بديل آخر لتجاوز آثاره الجانبية.
وأدى به التفكير في الحلول المحتملة للألم الجراحي إلى تجربة الكلوروفورم على نفسه أولا، حيث عثر عليه خادمه ملقى على الأرض وهو فاقد للوعي.
جرب جيمس سيمبسون مخدر الكلوروفورم أيضا مع اثنين من مساعديه، وهما على مائدة عشاء بمنزله. وعند استنشاقه تغير مزاجهما إلى البهجة والفكاهة، ثم فقدا الوعي. وفي صباح اليوم الموالي، علم جيمس بمجرد استيقاظه من غيبوبته، أنه وجد شيئا يمكن استخدامه ليكون مخدرا بديلا عن الإيثر.
وفي غضون أسابيع، استخدم الكلوروفورم في طب التوليد لأول مرة في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني1847. وأطلق على أول مولود يولد تحت تأثير هذا المخدر اسم "أناستيزيا" (Anaesthesia)، وهي كلمة باللغة الإنجليزية تعني التخدير.
تم إبلاغ الجمعية الطبية الجراحية في أدنبره بالواقعة في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني. وفي يوم 15 من الشهر نفسه، قدم أول عرض علني لهذا المخدر ودعا إلى استخدامه، وكان حينها في الـ36 من عمره.
ثم أجرى الاختبارات التوضيحية لاستخدام الكلوروفورم المعروف الآن بـ"ثلاثي كلورو ميثان" لأغراض التخدير. وحصل على براءة الاختراع الخاصة به.
جدل وانتقاد
عند نجاح جيمس في استخدام الكلوروفورم مخدرًا فعالًا مزيلًا لآلام الولادة. واجه معارضة ونقدا شديدين لاستعماله في حالات المخاض الطبيعي غير المعقد.
واعتقد أطباء التوليد أن هذه المادة تسبب العديد من الأضرار، و كانت الكنيسة آنذاك تصنف آلام الولادة عقابا إلهيا لتطهير المرأة من الخطيئة الأولى، لذلك لم يتردد الرهبان في اعتبار التخدير لتخفيف آلام الولادة محرما. وامتد هذا القرار ليشمل الولادات الملكية أيضا. ومنع الرجال من ممارسة مثل هذه المهن إلا في حالات نادرة جدا.
وكتب أحد الجراحين عام 1848 يقول "إنك لا تُبَارك المرأة حقا بتحريرها من آلام المخاض، بل تنبع المُبَاركة الحقيقية من تضرعها إلى الله لمنحها التواضع والقوة لتحمُّل هذا الألم".
طبيب الملكة فيكتوريا
في خضم هذا الجدل، كان القصر الملكي قد رفض استخدام الكلوروفورم في أثناء ولادة الملكة فيكتوريا ابنتها الأميرة لويز، ثم مرة أخرى في أثناء حملها السابع بالأمير آرثر.
وفي السابع من أبريل/نيسان 1853، سُمح لها باستنشاق الكلوروفورم في منديل لـ53 دقيقة، أثناء ولادتها الأمير ليوبولد في قصر باكنغهام، ولاحقا في لادتها الأميرة بياتريس.
وقد أحبته ووصفته بـ"الكلوروفورم المبارك، والمسكن، والمهدئ، والمبهج بهجة فوق الوصف". وصار هذا الإجراء معروفا بـ"كلوروفورم الملكة".
لكن دورية "لانسيت" الطبية وبخت جيمس بشدة في إحدى افتتاحياتها، واتهمته بتعريض حياة الملكة للخطر، عن طريق تخديرها بمادة ذات تأثير "سام". وردّ على هذه الانتقادات بأن "ألم الولادة يساوي في مقداره حجم الآلام الناجمة عن الجراحة، ولذا ينبغي أن تُمنح الفرصة للنساء الحوامل، لاختيار إذا ما كُنّ يرغبن في تناول مُسكِن للألم أم لا".
ثم ألغت الكنيسة معارضتها للتخدير، وقدم أطباء بريطانيا الاعتذار لجيمس، وأصدروا قرارا بتعيينه طبيبا للملكة. وحصل على لقب بارون تقديرا له على بحوثه وتجاربه الناجحة.
وصار استخدام الكلوروفورم شائعا، وكانت بضع قطرات من هذا السائل على منديل وسيلة تخدير مفضلة لدى الجراحين في ذلك الوقت.
وفي ثلاثينيات القرن 20، حُذف الكلوروفورم من القائمة، بعدما أظهرت دراسات متعاقبة، أنه -وبخلاف الإيثر- ليس آمنا في الاستخدام.
ابتكارات أخرى
قدم جيمس عددا من الابتكارات الأخرى، وتم تسمية عدد من الأدوات الطبية التي لا تزال قيد الاستخدام باسمه:
- صمم ملقط الولادة، الذي يعرف في دوائر التوليد باسم ملقط سيمبسون.
- صمم جهاز شفط للمساعدة في الولادة، ويعتبر الأول من نوعه.
- صمم صوتا معدنيا لاستكشاف عنق الرحم وخيوط سلك حديدية لتقليل خطر الإصابة بالعدوى.
- كان من أوائل من أشار إلى أن موت الجنين يسبقه في كثير من الأحيان تباطؤ في معدل ضربات قلبه.
- كان أول من استخدم الإحصاءات الطبية، (استخدمها لإثبات أن جنين الذكر يميل إلى أن يكون أكبر من الأنثى).
- عام 1858، وصف طريقة جديدة للتحكم في فقدان الدم في أثناء العمليات الجراحية.
- عام 1864، نشر كتابه عن العلاج بالإبر.
- كان من أوائل المدافعين عن عمل القابلات في المستشفيات
الجوائز والأوسمة
حصل جيمس على العديد من الأوسمة. كما كرمته الأكاديميات والجمعيات الطبية من جميع أنحاء العالم، فقد حاز:
- وسام فارس لخدماته في الطب.
- منح عضويات فخرية في أكثر الجمعيات الطبية تميزا في أوروبا وأميركا.
- وسام القديس أولاف من قبل ملك السويد.
- جائزة مونثيون من الأكاديمية الفرنسية للطب.
- دكتوراه فخرية من أكسفورد ودبلن.
الوفاة
توفي جيمس سيمبسون في السادس من مايو/أيار 1870، في منزله بسبب ذبحة صدرية وضيق في التنفس عن عمر يُناهز 58 عاما.
وكان يوم جنازته عطلة استثنائية، وانضم حوالي 1700 من زملائه الأطباء والشخصيات العامة إلى موكب الجنازة. كما اصطف أكثر من 50 ألف شخص في الطريق إلى مقبرة واريستون في أدنبره، حيث دفن بالقرب من منزله.
وفي عام 1939، أُطلق اسم سيمبسون على الجناح التذكاري للأمومة (الآن مركز سيمبسون للصحة الإنجابية) في أدنبره، كما أقيم له تمثال في حدائق شارع برينسيس، وتمثال نصفي في وستمنستر، وتمت تسمية شوارع باسمه.