أزمة الصواريخ الكوبية 1962.. عندما وقف العالم 13 يوما على مرمى حجر من حرب نووية
اشتعلت أزمة الصواريخ الكوبية يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 1962 بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، إثر اكتشاف الأميركيين نشر صواريخ نووية سوفياتية بشكل سري على الأراضي الكوبية، التي تفصلها مسافة 90 ميلا بحريا عن سواحل فلوريدا الأميركية.
وراقب العالم منذ إعلان هذا الاكتشاف أول مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، إثر اندلاع ما عرفت بأزمة الصواريخ الكوبية، التي جعلت العالم يقف 13 يوما على حافة حرب نووية كانت ستعصف بالبشرية وتدفع بالحياة على الأرض نحو المجهول.
ظرف عالمي متوتر
على الرغم من سنوات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، فإن ما حدث يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 1962 اعتبر أخطر مواجهة بين قوتين عظميين تعود جذورها إلى موازين القوى السياسية والعسكرية التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية.
المواجهة كانت بين المعسكرين الشيوعي الذي يتزعمه الاتحاد السوفياتي، والليبرالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، في إطار الحرب الباردة (1947-1991)، حيث سعت الدولتان إلى التنافس على بسط هيمنتهما الأيديولوجية والعسكرية على العالم بهدف تأمين مجالاتهما الحيوية.
في الأول من يناير/كانون الثاني 1959 أطاحت "حركة 26 يوليو" بقيادة فيدل كاسترو بالرئيس الكوبي الجنرال فولغينسيو باتيستا، الذي اعتبر حليفا للولايات المتحدة.
وكانت الولايات المتحدة تمثّل سوقا رئيسية للمنتجات الكوبية في تلك الفترة، التي عرفت انسجاما سياسيا واقتصاديا بين الجارتين.
بداية الأزمة
رفض الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور (جمهوري 1953-1961)، الذي كان يزوّد الجنرال الكوبي باتيستا بالأسلحة لمقاومة الثوار، مقابلة فيدل كاسترو والاعتراف بحكومته، ولم يكتف بقطع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا صديق الأمس، بل سعى إلى الإطاحة بكاسترو.
الأزمة دفعت أيزنهاور يوم 17 مارس/آذار 1960 إلى الموافقة على مقترح للمخابرات الأميركية يقوم على دعم المعارضة الكوبيةـ وتجميع وتدريب الكوبيين -الفارين من بلدهم إثر سيطرة كاسترو- على عمليات الإنزال الجوي وحرب الشوارع والعصابات، وذلك داخل معسكرات سرية أنشأتها في غواتيمالا ونيكاراغوا.
هذا التوتر في العلاقات الأميركية الكوبية دفع الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف إلى استقطاب كاسترو -الذي لم يكن شيوعيا حتى عام 1960- والاعتراف بالحكومة الكوبية الجديدة وتقديم الدعم لدولة تعتبر النقطة الأقرب جغرافيا من العدوّ الأميركي.
وقد جاءت هذه الأزمة بعد أن نشرت الولايات المتحدة في العام 1958 -في محاولة لتطويق الاتحاد السوفياتي- صواريخ "ثور" في بريطانيا ضمن مشروع "أميلي".
هذا التقارب الكوبي السوفياتي قابلته الولايات المتحدة باتخاذ خطوات تصعيدية جديدة عن طريق فرض حظر تجاري على استيراد السلع الكوبية مثل السكّر والتبغ، وبذلك قطعت على الكوبيين شريانا حيويا هاما كان يوفر لهم النفط وسلعا أساسية أخرى.
في 15 أبريل/نيسان 1961، وبعد تنصيب جون كينيدي رئيسا للولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني 1961، أعطى الضوء الأخضر لتنفيذ غزو خليج الخنازير ميدانيا (الذي كان أطلقه أيزنهاور في 1960) للإطاحة بحكم كاسترو، ولكن هذا الهجوم قوبل برد عنيف من كوبا أنهى العملية لصالحها يوم 19 أبريل/نيسان 1961، ووجّه صفعة للأميركيين.
ومع تزايد التخوفات الكوبية من عمليات عسكرية أميركية أخرى، وافق خروتشوف في أبريل/نيسان 1961 على تزويد كوبا بصواريخ أرض-أرض وأرض-جو، ونظرا لنشر الولايات المتحدة صواريخ "جوبيتر" في كل من إيطاليا وتركيا في 1961، قرر كذلك في مايو/أيار 1962 وضع صواريخ نووية في جزيرة كوبا.
اتسمت عملية نقل الصواريخ بالسرية المطلقة، لذلك استخدم السوفيات سفنا تجارية لنقلها إلى كوبا، وبلغ عددها أكثر من 60 سفينة شحن، ترافقها 3 غواصات، وذلك ضمن عملية سميت "عملية أنادير"، نسبة إلى نهر أنادير الواقع أقصى شرق سيبيريا، وبذلك أصبحت كوبا قاعدة عسكرية سوفياتية متقدمة في إطار مواجهة الغريم الأميركي.
قبل انقضاء يوليو/تموز 1962 نجحت السرية المطلقة للاتحاد السوفياتي في إيصال وتسليم 24 منصة إطلاق صواريخ وأكثر من 40 صاروخا باليستيا و45 رأسا نوويا، إضافة إلى ما يقارب ألف عسكري وخبير لتدريب الجيش الكوبي على استعمال هذه الأسلحة.
احتدام المواجهة
في 14 أكتوبر/تشرين الثاني 1962 اهتزت الإدارة الأميركية على وقع معلومة استخباراتية من طائرة تجسس تفيد بوجود منصات إطلاق صواريخ سوفياتية في جزيرة كوبا.
في 22 أكتوبر/تشرين الثاني 1962 أعلن الرئيس الأميركي جون كينيدي في خطاب تلفزي عن الإجراءات التي اتخذها للردّ على الخطوة السوفياتية، وذلك بفرض حصار بحري على كوبا، وتفتيش السفن المتجهة إليها، وتسيير طلعات جوية استطلاعية فوق مواقع المنصات في كوبا.
وتحسبا لمواجهة عسكرية نووية باتت شبه أكيدة مع السوفيات، نصبت وزارة الدفاع الأميركية صواريخ أرض-جو حول العاصمة واشنطن كإجراء احتياطي، إضافة إلى أن التخوف الأميركي فاقمه تقرير عسكري واستخباراتي يفيد بأن المنصات السوفياتية المنصوبة على الأراضي الكوبية ستكون جاهزة للاستخدام في غضون أسبوع على أقصى تقدير.
أوصى وزير الدفاع روبرت مكنامرا، المدعوم بعدد هام من مستشاري الرئيس كينيدي، بشن هجوم استباقي على كوبا لتدمير المنصات السوفياتية، وهو ما كان سيُدخل العالم في حرب عالمية ثالثة غير مسبوقة، كان يمكن أن تستخدم فيها الأسلحة النووية على نطاق واسع، في حين أشار السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة أدلاي ستيفنسون إلى التسريع في النسق الدبلوماسي وفتح قناة اتصال مع الرئيسين السوفياتي والكوبي.
رد الرئيس السوفياتي لم يتأخر، ووصلت رسالته إلى نظيره الأميركي يوم 23 أكتوبر/تشرين الثاني 1962، معلنة مضي الاتحاد السوفياتي قدما في تسيير سفنه نحو كوبا، وأعلن أن بلاده غير معنية بالحصار الأميركي المفروض على كوبا. ولكن رغم هذا الخطاب الصارم، فإن السفن السوفياتية بدأت في التباطؤ للوصول إلى السواحل الكوبية.
كان يوم 24 أكتوبر/تشرين الثاني 1962 التاريخ الذي بموجبه يدخل الحصار البحري الأميركي على كوبا حيز التنفيذ، وعلى الرغم من ازدياد التوتر وحدّة التهديدات بين الجانبين الأميركي والسوفياتي، فإن 20 سفينة سوفياتية كانت تقترب من مجال الحصار عادت أدراجها إلى الخلف بعد أن بدت المواجهة حتمية بين القوتين.
انفراج الأزمة
في 26 أكتوبر/تشرين الثاني 1962 تلقى كينيدي رسالة من خروتشوف يعد فيها بإزالة مواقع إطلاق الصواريخ، إذا وافقت الولايات المتحدة على رفع الحصار ووعدت بعدم غزو كوبا، أعقبها برسالة ثانية يوم 27 أكتوبر/تشرين الثاني 1962 يقول فيها إن مواقع الإطلاق ستتم إزالتها فقط إذا أزالت الولايات المتحدة صواريخها في تركيا.
وفي 28 أكتوبر/تشرين الأول 1962، انتهت أزمة الصواريخ الكوبية بعدما توصّل الطرفان إلى اتفاق يقضي بإزالة الصواريخ السوفياتية ومنصات إطلاق من الأراضي الكوبية، شريطة تعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، وأن تتخلص تدريجيا من صواريخ "ثور" و"جوبيتر" المنصوبة في بريطانيا وكلٍّ من إيطاليا وتركيا.
وتنفيذا لشروط الاتفاق، وقع تفكيك المنصات والصواريخ السوفياتية ووُضعت على السفن من أجل إرسالها إلى الاتحاد السوفياتي في الفترة ما بين الخامس والتاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 1962، لينتهي بعد ذلك الحظر البحري على كوبا بشكل رسمي يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه.
وبعد قرابة 11 شهرا من الاتفاق، وتحديدا في سبتمبر/أيلول 1963، سُحبت صواريخ "جوبيتر" الأميركية من تركيا.
نتائج أزمة الصواريخ الكوبية
من الجانب الكوبي، ورغم استياء كاسترو من طريقة إنهاء الأزمة، فإنه حافظ على علاقات جيدة مع الاتحاد السوفياتي، الذي ظل يعتبر كوبا منطقة نفوذ له، وواصل تزويدها بالمعونات العسكرية.
أما من الجانب الأميركي فقد ضمنت كوبا تعهد الولايات المتحدة بعدم غزوها، رغم أن هذه الأخيرة استمرت في التضييق عليها وتمويل المعارضة.
بالنسبة لخروتشوف فقد أنقذ النظام الشيوعي في كوبا الذي أصبح يمثل امتدادا للاتحاد السوفياتي، ونجح في إزالة الترسانة الصاروخية من بريطانيا وإيطاليا وتركيا، والتي كانت تمثل تهديدا جديا لبلاده.
وفي الولايات المتحدة الأميركية تمكّن جون كينيدي من الوفاء بوعده الانتخابي بالوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي، وإزالة الخطر النووي المحدق ببلاده من كوبا.
بعد هذه الأزمة أيضا تم إنشاء خط ساخن (الهاتف الأحمر) يوفر اتصالا مباشرا بين البيت الأبيض والكرملين، كما تم توقيع معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية في الخامس من أغسطس/آب 1963.