اللاعنف في وجه العنصرية.. "حركة الحقوق المدنية" التي غيرت مستقبل السود في الولايات المتحدة

في منتصف القرن العشرين كان زمن العبودية قد ولى في الولايات المتحدة الأميركية، ومع ذلك لم يعامل القانون الأميركيين من أصل أفريقي على قدم المساواة مع مواطنيهم البيض.

فإذا رفضت امرأة سوداء التخلي عن مقعدها لرجل أبيض في حافلة مكتظة سيكون مصيرها الاعتقال "وفقا للقانون"، وإذا تجرأ صبي أسود ومازح امرأة بيضاء فلن يتوانى أقاربها عن قتله بوحشية وتشويه جثته، لأنهم يعلمون أن العدالة لن تلاحقهم.

أحداث كهذه كانت شرارة لانطلاق واحدة من أنجح الحركات المدنية في التاريخ؛ ونتحدث هنا عن "حركة الحقوق المدنية الأميركية"، التي استمرت نحو 14 عاما، ونجحت في فرض تغييرات جذرية في الدستور الأميركي.

الحديث عن حركة الحقوق المدنية تلك يستدعي العودة بالزمن قليلا إلى الوراء، وتحديدا إلى منتصف القرن 19، عندما قسمت الولايات المتحدة إلى شمال وجنوب، واندلعت الحرب الأهلية التي مهدت لإلغاء العبودية.

البداية.. الحرب الأهلية وإلغاء العبودية

امتدت الحرب الأهلية الأميركية على مدار 4 سنوات، وكبدت الولايات المتحدة خسائر بشرية هائلة. ولكي نفهم أسباب تلك الحرب يجب أن نلقي نظرة سريعة أولا على اقتصاد البلاد في تلك المرحلة، حيث اختلفت مصادر الدخل بشكل كبير بين الشمال والجنوب.

إعلان

فقد اعتمدت الولايات الشمالية في اقتصادها بشكل أساسي على الصناعة، وازدهرت هناك أنظمة البنوك والتأمين، كما استثمر سكان الشمال في وسائل النقل، بما فيها القوارب البخارية والسكك الحديدية، بالإضافة إلى الصحف والمجلات والتلغراف، أما اعتمادهم على الزراعة فكان محدودا على عكس سكان الجنوب.

ففي الولايات الجنوبية كانت الزراعة مصدر الدخل الأساسي لمعظم الجنوبيين البيض، الذين اعتمدوا على العبيد في زراعة مساحات واسعة من القطن، وبدا ذلك بالنسبة لهم خيارا تجاريا صائبا؛ ففي خمسينيات القرن 19 ارتفعت أسعار القطن (كما ارتفعت أسعار العبيد الذين يقومون بزراعته وحصاده)، ومع حلول عام 1860 كانت ثروة سكان الجنوب تعادل ضعف ثروة سكان الشمال.

في ذلك الوقت، كان معظم الشماليين مؤيدين لإلغاء العبودية، وهو أمر رفضه الجنوبيون بشدة، كونه يهدد مصالحهم الاقتصادية، وتصاعد التوتر بين الشمال والجنوب عندما فاز أبراهام لينكولن (المناهض للعبودية) بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني 1860.

بعد شهر واحد فقط من فوز لينكولن، أعلنت ولاية كارولينا الجنوبية انفصالها عن الولايات المتحدة، وخلال شهرين انفصلت 6 ولايات جنوبية أخرى، فانقسمت الولايات المتحدة إلى "ولايات الاتحاد في الشمال" و"الولايات الكونفدرالية في الجنوب"، لتندلع بذلك حرب أهلية صنفت على أنها الأكثر دموية في تاريخ الولايات المتحدة.

استمرت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب حتى عام 1865، وخلالها شكل الانفصاليون قوة ضمت 11 ولاية جنوبية منفصلة (من أصل 34 ولاية كانت موجودة آنذاك)، وراح ضحية الحرب نحو 750 ألف جندي من الطرفين، وعدد غير محدد من المدنيين، وانتهت باستسلام الولايات الكونفدرالية وانتصار الشمال بقيادة لينكولن.

قوانين "جيم كرو" هل تحرر العبيد حقا؟

إعلان

بعد انتصار الاتحاد في الحرب الأهلية، ألغيت العبودية بشكل رسمي في جميع الولايات، ولم يعش أبراهام لينكولن طويلا ليشهد نتائج الانتصار، فقد تم اغتياله في أبريل/نيسان 1865، في مسرح "فورد" في واشنطن، من قبل أحد الممثلين المتعاطفين مع الكونفدرالية المهزومة.

ودخلت الولايات المتحدة بعد ذلك مرحلة تُعرف تاريخيا باسم "مرحلة إعادة الإعمار"، التي شهدت العديد من التعديلات الدستورية (منها التعديل 15 الذي ألغى القيود العنصرية على التصويت).

وعلى الرغم من أن العبودية ألغيت في الولايات المتحدة، وأصبح بإمكان الأميركيين من أصل أفريقي دخول مضمار السياسة عن طريق استخدام حقهم في التصويت، فإن ذلك لم يكن يعني بالضرورة أنهم أصبحوا متساوين مع البيض.

فقد ابتكرت قوانين تشريعية عرفت باسم "قوانين جيم كرو" التي فرضت "فصلا عنصريا" بين السود والبيض، وطبعا كان الجنوب مصدر تلك التشريعات التي ابتكرها الديمقراطيون البيض الجنوبيون لحرمان الأميركيين الأفارقة من المكاسب الاقتصادية والسياسية التي جنوها في بدايات مرحلة إعادة الإعمار.

ومنذ بداية عام 1870، فرضت قوانين "جيم كرو" فصلا عنصريا بين السود والبيض في الأماكن العامة (بما في ذلك المواصلات)، كما تم فصل التعليم أيضا؛ فلا يحق لأطفال الأميركيين الأفارقة ارتياد مدارس البيض، وأصبح الزواج بين الأعراق غير قانوني، كما فُرض على السود اجتياز اختبارات محو الأمية قبل أن يحق لهم التصويت، ولم يتم تطبيق هذه القوانين في الجنوب فقط، بل تأثرت بها كذلك ولايات أخرى.

"منفصل لكنه متساو"

واتخذت قوانين الفصل العنصري تلك شرعية كبيرة في قضية عرفت باسم "بليسي ضد فيرغسون"؛ فقد استقل رجل مختلط الأعراق يدعى "بليسي" عربة قطار مخصصة للبيض فقط في ولاية لويزيانا، وبذلك وجهت إليه اتهامات بأنه ينتهك القانون.

إعلان

وجادل محاموه بأن هذا القانون غير دستوري، ومن ثم يجب أن يحكم القاضي "جون فيرغسون" لصالح بليسي في هذه القضية، لكن فيرغسون أصدر آنذاك قرارا تاريخيا باسم المحكمة العليا الأميركية عام 1891، مفاده أن قوانين الفصل العنصري (أي قوانين جيم كرو) لا تنتهك الدستور طالما أن المرافق المخصصة لكل عرق متساوية في الجودة (مع أنها لم تكن كذلك).

ومن هنا برز مبدأ "منفصل لكنه متساو" في الولايات المتحدة، الذي أكسب شرعية لقوانين الفصل العنصري، وسمح بتبنيها وانتشارها في العديد من الولايات.

حركة الحقوق المدنية (1954-1968)

في أواخر القرن 19 وبدايات القرن العشرين، قام الأميركيون الأفارقة بالعديد من المحاولات للحصول على كامل حقوقهم المدنية، وإلغاء قوانين "جيم كرو" العنصرية، إلا أن النجاح لم يكن حليفا لأي من تلك المحاولات، ولم يبدأ التغيير الحقيقي إلا عام 1954 مع بداية حركة الحقوق المدنية.

لا يوجد قائد واحد لحركة الحقوق المدنية (على الرغم من أن مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس من أبرز وجوه هذه الحركة)، كما لا يوجد حدث بعينه كان السبب في نجاحها، فقد تميزت تلك الحركة بكونها جهدا مشتركا أسهم في نجاحه تكاتف الأميركيين من أصل أفريقي.

كما مرت تلك الحركة بعدد من الأحداث التي تعد مفصلية في تاريخها منذ بدايتها في عام 1954، وحتى تحقيق كامل مكاسبها ونجاحها في إلغاء قوانين الفصل العنصري عام 1968.

براون ضد مجلس التعليم في توبيكا

كان أول المكاسب التي حققتها حركة الحقوق المدنية استصدار قرار من المحكمة العليا الأميركية مفاده أن الفصل العنصري القائم على مبدأ "منفصل لكنه متساو" غير دستوري.

بدأت القصة عندما رفضت إحدى المدارس الابتدائية في توبيكا (عاصمة ولاية كنساس) تسجيل ابنة أوليفر براون، وطلبت المدرسة من براون (وهو من السكان السود المحليين) إرسال ابنته إلى مدرسة منفصلة خاصة بالسود، على الرغم من أن تلك المدرسة أبعد وتتطلب استقلال الحافلة يوميا.

إعلان

رفع براون مع عشرات من السكان المحليين الآخرين قضية جماعية ضد مجلس التعليم في توبيكا، وقضت المحكمة لصالحهم، مقرة بأن المدارس المنفصلة غير متساوية في الجودة.

وتلت قضية براون العديد من القضايا الأخرى المشابهة التي حاربت قوانين "جيم كرو"، وشكلت محطات مهمة في تاريخ حركة الحقوق المدنية.

اللاعنف في مواجهة الفصل العنصري

على الرغم من العنف الذي تعرض له الأميركيون من أصل أفريقي من المجتمع الأبيض، فإنهم قرروا اللجوء إلى أساليب "اللاعنف" لنيل حقوقهم.

ففي عام 1955، قتل صبي أميركي من أصول أفريقية يدعى "إيميت تل" بوحشية ورميت جثته في النهر بعد أن تم تشويه وجهه واقتلاع عينيه. وكان ذنب تل (14 عاما) أنه مازح زوجة رجل أبيض في أحد المتاجر في ولاية مسيسيبي.

لم تحتفظ والدة تل بحزنها لنفسها، بل قررت حشد الآلاف لحضور جنازة ابنها ومشاهدة جثته المشوهة؛ وتعد تلك اللحظة انطلاقة لمرحلة جديدة من العمل المنظم والجاد.

فقد تأثرت الناشطة "روزا باركس" بمشهد جثة الصبي المقتول، وبعد أشهر من تلك الحادثة كانت تجلس في مقعد مخصص للركاب السود في إحدى حافلات مدينة مونتغمري، حين صعد رجل أبيض إلى الحافلة ولم يجد مكانا يجلس فيه، فطلب منها السائق أن تخلي مكانها مع 3 راكبين سود آخرين للرجل الأبيض، لكن باركس رفضت ذلك، وكان جزاؤها الاعتقال لارتكابها عملا يعد مناهضا للقانون.

اعتقال باركس كان حافزا لولادة جمعية "مونتغمري للتحسين"، التي ترأسها مارتن لوثر كينغ، وكان هدفها مقاطعة حافلات مونتغمري إلى أن يتم إلغاء الفصل العنصري داخلها.

وبالفعل استمرت تلك المقاطعة 381 يوما، وتكبد قطاع المواصلات كثيرا من الخسائر المادية (خاصة أن 75% من راكبي الحافلات في مونتغمري كانوا من السود)؛ وأثمرت المقاطعة استصدار قرار من المحكمة العليا يقضي بأن فصل مقاعد الحافلات على أساس العرق أمر غير دستوري.

إعلان

ومنذ ذلك الحين بدأ قادة المجتمع المدني يحصدون ثمار تكاتفهم وأخذوا تدريب المتظاهرين على سياسة "اللاعنف" في وجه العنصرية، وشملت التدريبات تعليم المنتسبين كيفية التظاهر والاعتصام السلمي وضبط النفس والهدوء في مواجهة الإهانات العنصرية.

اعتصامات 1958-1960

في السنوات التي تلت "مقاطعة مونتغمري" الشهيرة، شهدت الولايات المتحدة العديد من الأحداث التي شكلت تاريخ حركة الحقوق المدنية، مثل الأزمة التي عرفت باسم "ليتل روك ناين" عام 1957.

بدأت القصة عندما نجح 9 طلاب من أصل أفريقي في الحصول على حق الالتحاق بمدرسة "ليتل روك" الثانوية بسبب درجاتهم الممتازة، لكن الطلاب قوبلوا بالعنف والمضايقات الشديدة في المدرسة؛ لدرجة أن الرئيس الأميركي آنذاك دوايت أيزنهاور اضطر لإرسال وحدة من الحرس الوطني الفدرالي لحمايتهم، لكن الأمر انتهى بتخلي المدرسة عن سياسة الاندماج بعد نهاية العام الدراسي.

بعد هذه الحادثة، قاد الطلاب السود في الجامعات العديد من الحركات الاحتجاجية والاعتصامات الرافضة للفصل العنصري بين السود والبيض في طاولات الغداء في الجامعات، وفي الحدائق والشواطئ والمكتبات والمسارح وغيرها من المرافق العامة.

اعتقل العديد من المتظاهرين واتهموا بتخريب الممتلكات العامة، مع ذلك قادت جهودهم السلمية في عشرات المدن إلى إطلاق "لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية" لتشجيع جميع الطلاب على المشاركة في حركة الحقوق المدنية.

مسيرة إلى واشنطن

على الرغم من نجاح الحركة في استصدار العديد من القوانين التي تلغي سياسات الفصل العنصري في المرافق العامة، فإن تطبيق هذه القوانين لم يكن سهلا، فقد قوبل السود بالعنف عند محاولتهم ارتياد الأماكن المخصصة للبيض.

كذلك تم استصدار مذكرات تمنع الأميركيين السود من التظاهر في بعض المناطق، مثل برمنغهام، حيث واجه السود حملات اعتقال جماعية بسبب نشاطهم السياسي السلمي، وكان مارتن لوثر كينغ من بين المعتقلين عام 1963.

إعلان

ومع اعتقال كثيرين، لم تهدأ حدة التظاهرات التي بدأ طلاب المدارس أيضا الانضمام إليها، لكن الشرطة قمعتهم بعنف وأطلقت عليهم الكلاب البوليسية، مما زاد حدة الغضب الشعبي واندلعت أعمال العنف والشغب في العديد من الولايات، ولم يهدئ حدتها إلا الإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين.

واستمر التصعيد إلى أن حشد قادة المجتمع المدني أكثر من 200 ألف شخص من جميع الأعراق للتوجه في مسيرة سلمية إلى العاصمة واشنطن في 28 أغسطس/آب 1963، بهدف فرض تشريعات تضمن المساواة الكاملة بين البيض والسود، وتمرير قانون جديد يضمن الحقوق المدنية الكاملة للسود اقترحته إدارة الرئيس الأميركي جون كيندي.

وكان مارتن لوثر كينغ من أبرز قادة هذه المسيرة، حيث ألقى فيها خطابه الشهير "لدي حلم"، والتقى كينغ بعد المسيرة الرئيس كيندي في البيت الأبيض، إذ أكد الرئيس أن إدارته ملتزمة بتمرير القانون، إلا أنه ليس متأكدا إذا كان الكونغرس سيسمح بذلك.

مالكولم إكس ينقل الحركة إلى مستوى آخر

كان كيندي على حق، فقد تمت معارضة قانون الحقوق المدنية في الكونغرس، وزاد الوضع تعقيدا عندما اغتيل كيندي في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963.

وفي عام 1964، اجتمع مالكولم إكس (الممثل الوطني "لأمة الإسلام) مع مارتن لوثر كينغ لمناقشة مستقبل حركة الحقوق المدنية، وأبدى كينغ استعداده لدعم خطة مالكولم لتقديم شكوى ضد الحكومة الأميركية رسميا أمام الأمم المتحدة بتهمة انتهاكات حقوق الإنسان ضد الأميركيين من أصل أفريقي، على الرغم من اختلاف الرجلين في النهج النضالي في وقت سابق.

فقد اعتمد مالكولم إكس على نقل كفاح الأميركيين الأفارقة إلى مستوى آخر، بعد أن تبين أن سياسة "اللاعنف" كانت غير مجدية، خاصة أن الشرطة تواجه المظاهرات السلمية بالقمع في العديد من الولايات.

ونظم مالكولم إكس حملات تدعم حق السود في الانتخاب، وألقى العديد من الخطب التي يحذر فيها الإدارة الأميركية من أن النشاط المسلح للسود سيتصاعد إذا لم يتم الاعتراف بحقوقهم بشكل كامل، وكان أشهرها خطاب "الاقتراع أو الرصاصة"، الذي قال فيه "هناك إستراتيجية جديدة قادمة؛ سنحمل قنابل مولوتوف هذا الشهر، وقنابل يدوية الشهر المقبل، وشيئا آخر الشهر الذي يليه. ستكون هناك بطاقات اقتراع للسود، أو سنستخدم الرصاص".

إعلان

مكاسب حركة الحقوق المدنية وخسائرها

بعد سلسلة من الاحتجاجات وأعمال الشغب التي عمت البلاد، أقرت إدارة الرئيس الأميركي الجديد ليندون جونسون قانون الحقوق المدنية عام 1964، كما أقر قانون حقوق التصويت عام 1965، الذي حظر اختبارات محو الأمية التي كانت مفروضة على الناخبين السود، كما أمّن مراقبين فدراليين لعملية الانتخاب في بعض الولايات.

وأخيرا تم إقرار قانون الإسكان العادل عام 1968 الذي يمنع التمييز في السكن على أساس العرق والجنس والدين والأصل القومي.

وبذلك حصل الأميركيون من أصل أفريقي على حقوق مدنية مماثلة لحقوق البيض في الولايات المتحدة، بعد سنوات من النضال التي شهدت مقتل كثيرين منهم واعتقالهم، واغتيال اثنين من أبرز قادتهم؛ هما: مالكولم إكس الذي اغتيل في مسيرة في 21 فبراير/شباط 1965، ومارتن لوثر كينغ الذي اغتيل في الرابع من أبريل/نيسان 1968.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية

إعلان