المنصور سيف الدين قلاوون.. السلطان مؤسس المماليك البرجية

Al-Mansur Qalawun Mamluk Sultan of Egypt from the Bahrit dynasty
لا يعرف أصل المنصور سيف الدين قلاوون سوى أنه يعود إلى القبجاق وهي كازاخستان حاليا (شترستوك)

المنصور سيف الدين قلاوون أحد سلاطين المماليك البحرية، ورأس أسرة قلاوون التي حكمت مصر والشام قرابة قرن من الزمان، عرف بذكائه ودبلوماسيته التي أوصلته إلى السلطة من غير سفك للدماء.

أنشأ عصبة جديدة من المماليك الذين حكموا من بعد انتهاء حقبة المماليك الأتراك، وعرفوا باسم المماليك البرجية، عمل بدهاء على فك الارتباط بين المغول والصليبيين، وهو ما ضمن عدم تحالفهم ضده، توفي في ذي القعدة 689 هـ.

النشأة والتكوين.. جهالة استحالت معرفة عظيمة

كسائر سلاطين المماليك الذين مسّهم الرق بعد أن بيعوا في أسواق النخاسة؛ فإن المعلومات عن نشأتهم وتكوينهم شحيحة للغاية، فلا تُعرف مواليدهم على وجه الدقة، ولا يُعرف لهم نسب إلا نادرا، وقد كان المنصور سيف الدين قلاوون الألفي العلائي النجمي الصالحي من هؤلاء الذين لم تذكر كتب التاريخ شيئا معتبرا عن أوّليّتهم ومحاضن نشأتهم، باستثناء الحديث المقتضب عن أصله الذي يعود إلى القبجاق، وهم أهل كازاخستان حاليا.

أما نسبه اللاحق باسمه الألفي، فنسبته إلى المبلغ الذي بيع مقابله وهو ألف دينار، وقد كان مبلغا كبيرا آنذاك، وهو ما يشي ببعض صفاته الجسمانية والخلقية المميزة، وأما باقي النسب فهو الذي لحقه تبعا للأمير الذي اشتراه أو ألحقه بجملة مماليكه.

ومما يصدّق (في مرحلة لاحقة من حياته) تميّزَه الذي عرف به وهو في الأغلال تتناقله الأيادي الخشنة سَوما وبيعا؛ أنه كسر القاعدة التي بني عليها الحكم في دولة المماليك، حيث لا توريث للملك، بل الحكم لمن غلب، غير أن المنصور قلاوون ورّث ملكه لذريته الذين احتفظوا بالسلطنة أكثر من قرن.

قال عنه الذهبي إنه "كان من أحسن الناس صورة في صباه، وأبهاهم وأهيبهم في رجوليّته.. وكان على وجهه هيبة الملك، وعلى أكتافه حشمة السلطنة، وعليه سكينة ووقار".

التجربة السياسية.. صعود ناعم نحو السلطة

ترقى قلاوون سريعا في المناصب التي أتاحها قيام سلطنة المماليك، واستطاع بجدارة أن يثبت نفسه أميرا وقائدا في المماليك البحرية، وقد اكتوى من النار نفسها التي أصابت الظاهر بيبرس، إثر مقتل زعيمهم أقطاي، فغادر مصر في عهد أيبك، وعاد إليها في عهد زميله بيبرس.

وقد اعتمد الظاهر بيبرس عليه في كثير من المهمات السياسية والحربية، وتقرّب إليه فزوج ابنه الملك السعيد من ابنة قلاوون غازية خاتون، وقد كان واضحا في سلوكه التخطيط البعيد الذي اتسم به منذ الصغر.

ولما ضيّق الأمراء المماليك على الملك السعيد واضطروه إلى التنحي، لم يقدم له عمه وأبو زوجته سيف الدين قلاوون يدَ العون، بل سهّل له طريق التنحي.

عرض عليه الأمراء السلطة، لكنه أبى مفسحا المجال لأخي الملك السعيد بدر الدين سلامُش، وكان له من العمر آنذاك 7 سنين، وسعى قلاوون لأن يكون أتابكا له (قائد الجيش)، وقد هيأ له هذا المنصب الفرصة السانحة للتخلص من جميع منافسيه واحدا تلو آخر، ومن غير سفك للدماء غالبا، وساعده في ذلك صغر سن السلطان الجديد.

بل إن الأمير شمس الدين سُنقر الأشقر أحد أمراء المماليك الكبار (وكان قلاوون قد عينه حاكما على دمشق عندما كان أتابكا لسلامش لإبعاده عن طريقه نحو الحكم) خرج عليه معلنا استقلال بلاد الشام عن حكم قلاوون بعد أن خلع الأمراءُ المماليك سلامش؛ فأرسل إليه المنصور قلاوون جيشا أرغمه على الاستسلام، ثم عفا عنه وولاه على أنطاكية وما حولها.

ومن سياسته التي وطدت الحكم له ولذريته من بعده قرنا كاملا، أنه حينما شعر بضعف ولاء المماليك الظاهرية له (المماليك المنتسبين للملك الظاهر بيبرس) أنشأ عصبة جديدة من المماليك الشركس، وعمل على تربيتهم تربية خاصة، وأسكنهم في أبراج القلعة، فعرفوا منذ ذلك الوقت بالمماليك البرجية، وهم الذين أنهوا حكم سلالته بعد قرن من ذلك التاريخ.

التجربة العسكرية.. سيف الدين الذي يحارب بسيفين

لم تتوقف أمواج الجيش المغولي العاتية من ضربها المدمر للممالك والدول منذ أن خرجت من السهوب الشرقية لآسيا مطالع القرن الـ13 م (القرن الـ7 هـ)، طامحة وطامعة في الاستيلاء على البر والبحر، حتى وجدت من يقف في وجه هذا المد العاتي من المماليك على يد السلطان المظفر قطز وقائد جيشه الظاهر بيبرس في معركة عين جالوت الفاصلة، ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف المماليك كذلك عن ضرب الوجود المغولي الطامع في ممالك الإسلام وصولا إلى مصر قاعدة الحكم المملوكي.

وقد كان من نصيب السلطان أبي المعالي سيف الدين قلاوون أن يجالد المغول في عدد من المعارك الفاصلة، كان على رأسها معركة حمص الثانية في رجب 680 هـ، والتي جرت وقائعها بالقرب من مسجد خالد بن الوليد في مدينة حمص ممتدة شمالا حتى الرستن.

كانت أعداد المسلمين تناهز 40 ألفا، وكان المغول يعدون الضعف من هذا العدد على أقل تقدير، حيث انضمت لهم قوات أرمينية قادمة من آسيا الصغرى، كان الظاهر بيبرس قد أذاقها الويلات قبل سنوات قليلة في معركته الأخيرة مع المغول.

وقد وصف ابن كثير في تاريخه رحى المعركة الطاحنة بقوله "واقتتل الجنود من الطرفين قتالا عظيما لم يُرَ مثله من أعصار متطاولة".

وانتهت المعركة الطاحنة بانتصار السلطان قلاوون وجيشه انتصارا كبيرا، وقد أسفر النزال عن مقتلة كبيرة في صفوف المغول، وإصابة قائدهم إصابة بالغة توفي متأثرا بها بعد عام واحد.

لم يكن المنصور قلاوون يقاتل بسيف واحد، فقد كان على جبهة الصليبيين يقاتل على صعيدين؛ النزال المباشر والدبلوماسية الذكية.

وقد ورث من أسلافه ميراثا سياسيا متميزا في ترتيب العلاقة مع الممالك الصليبية المتناثرة على الساحل الشامي، فعندما سمع بجيوش المغول تعاود الكرة لاقتحام ما فشلوا في اقتحامه سابقا، أرسل إلى أمراء عكا الصليبيين يحثهم على تجديد الهدنة التي عقدها سلفه الظاهر بيبرس معهم تجنبا لإطباق العدوين الصليبيين والمغول على جيشه في آن واحد.

وقد عمل على فك هذا الارتباط بين الطرفين بإعادة بعض الحصون والأراضي التي كان قد استولى عليها للصليبيين، كما قدم ضمانات لنصارى عكا بزيارة كنيسة الناصرة، وقد ألزمهم في مقابل ذلك بأمرين؛ الأول: أن ينذروه بفسخ الهدنة قبل شهرين من قدوم حملات صليبية من أوروبا، والثاني: إبلاغه عن أي تحركات يرصدونها تنبئ بتحرك المغول المترصدين له في الشرق.

وقد بلغ عدد الهدن التي عقدها قلاوون في سني حكمه مع الصليبيين في الساحل نحو 7 هدن، كرست فكرة فك الارتباط بينهم وبين المغول، وقد آتت هذه السياسة ثمارها المرجوة.

غير أنه ما إن أمن المغول بعد معركة حمص الثانية حتى واصل جهاده ضد الصليبيين منتصف مدة حكمه؛ فاستولى على حصن المرقب (بالقرب من بانياس السورية) واسترد اللاذقية، وفتح طرابلس التي كان قد هيأها له سلفه الظاهر بيبرس، ثم تلتها بيروت وجبلة، ولم يبق على خط الساحل الشامي من مماليك للنصارى سوى عكا وصيدا وعثليت (جنوب حيفا) وجبيل التي أقر عليها حاكمها الصليبي مقابل مبلغ من المال.

وكان قلاوون تجهز لفتح عكا، غير أن المنية قد حالت بينه وبين هذه المعركة التي خاضها ابنه الأشرف خليل من بعده.

وفاته

عزم السلطان سيف الدين قلاوون في سنة وفاته على الحج، غير أن أنباء وصلته عن اعتداءات قام بها صليبيو عكا على تجار مسلمين داخل أسوار المدينة، ناقضين بذلك الهدنة بين الطرفين؛ أقعدته عن عزمه، فرأى أن يقدم الغزو على الحج.

ثم أخذ يُعِدّ العُدّة ويجهز العساكر لضرب الصليبيين، فخرج من القاهرة إلى المخيم الذي أقامه باتجاه الشرق صوب عكا متوعكا، ولا يزال على هذه الحال حتى توفي في السادس من ذي القعدة 689 هـ، ودفن في مدرسته التي أقامها (في القاهرة القديمة حاليا في منطقة بين القصرين شارع المعز لدين الله الفاطمي)، وكانت مدة حكمه 11 عاما و3 أشهر.

المصدر : مواقع إلكترونية