الوضع القائم (الستاتيكو).. اتفاق عثماني لتنظيم إدارة المقدسات في القدس

على مر العصور كانت القدس محط الأنظار ومركزا للصراعات، بسبب مكانتها الدينية واحتضانها كثيرا من المقدسات المتجذرة في التاريخ، لذلك كان لزاما أن يؤسس لاتفاق يخلق التوازن في المدينة وينظم إدارة الأماكن المقدسة فيها، وخاصة المسجد الأقصى المبارك وحائط البراق غربي المسجد، فأطلقت الدولة العثمانية ما عرف باتفاق الوضع القائم أو "الستاتيكو"، الذي تعرض لخروقات إسرائيلية عديدة منذ احتلال المدينة حتى يومنا هذا.
سبب إقرار الاتفاق
تعود أصول اتفاق الوضع القائم في القدس إلى العهد العثماني، وبالتحديد إلى القرن التاسع عشر. ووفق المؤرخين فإن تصاعد التوترات بين الطوائف المسيحية حول إدارة المواقع المقدسة آنذاك، دفع السلطان العثماني عبد المجيد الأول عام 1852 إلى إصدار مرسوم يحدد "الوضع القائم" للمقدسات، أي تنظيم إدارة الأماكن الدينية الرئيسة في المدينة، وذلك لمنع أي نزاعات أو تغييرات على هذه الأماكن أو الحق في إدارتها.
المواقع التي يشملها الاتفاق
يشمل اتفاق الوضع القائم 3 أماكن مقدسة في القدس تقع جميعها داخل البلدة القديمة وسور القدس، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك بمساحة 144 دونما (الدونم يعادل ألف متر مربع) والذي يعتبر أبرز الأماكن المقدسة عند المسلمين، وبعده حائط البراق الذي يعتبر جزءا من المسجد الأٌقصى وجداره الغربي، ويقدسه اليهود بسبب اعتقادهم أنه جزء من الهيكل المزعوم، إلى جانب كنيسة القيامة التي تعتبر أهم المواقع الدينية لدى المسيحيين وتحتضن قبر المسيح وفق اعتقادهم.
ولاحقاً، تم الاعتراف بهذا الاتفاق دوليا في مؤتمر باريس 1856 (في نهاية حرب القرم)، وكذلك في معاهدة برلين (بين القوى الأوروبية والعثمانيين). وتنص المادة 62 من هذه المعاهدة على أنه "لا يمكن إدخال أي تعديلات على الوضع الراهن في الأماكن المقدسة"، وقد وسّعت هذه المادة الترتيبات لتشمل كل الأماكن المقدسة وليس المسيحية فقط.
مصير الستاتيكو بعد النكسة
أعلن الاحتلال ظاهريا التزامه باتفاق الوضع القائم، بعد احتلاله شرقي القدس عام 1967 بما فيها البلدة القديمة والمقدسات الثلاث المذكورة في الاتفاق، وذلك خوفا من أي رد فعل دولي أو عربي.
وكان الاحتلال هدم بالكامل حارة المغاربة المقابلة لحائط البراق واستولى عليه وخصصه لطقوس وصلوات اليهود، وأطلق عليه اسم "حائط المبكى" أو "الجدار الغربي"، وقال إن الحائط سيظل مكانا للعبادة اليهودية فقط.
آنذاك، وتحديدا في يونيو/حزيران عام 1967 دخل الاحتلال الإسرائيلي بدباباته ومدرعاته إلى المسجد الأقصى، وأدى آلاف الجنود داخله النشيد الوطني الإسرائيلي، ورُفع علم إسرائيل فوق قبة الصخرة، ونفخ الحاخام (شلومو غورين) في البوق داخله، وهتف الجنود والضباط حينها الجملة الشهيرة "جبل الهيكل بأيدينا"، ووثقت كل تلك المشاهد عبر الصور ومقاطع الفيديو، لإحداث هزيمة نفسية للعرب والمسلمين، ورفع معنويات الإسرائيليين.
بعد ذلك، أعلن الاحتلال أن إدارة المسجد الأقصى ستظل بيد دائرة الأوقاف الإسلامية التابعة للأردن كما كانت من قبل، بينما يتولى الاحتلال الإشراف الأمني، ومن ضمنه السيطرة على أبواب المسجد.
ولا تزال دائرة الأوقاف تتولى إدارة المسجد من حيث الترميم والحراسة والسدانة والتنظيف وتنظيم أحوال المصلين، لكن في ظل صلاحيات مقيدة وتقييد متصاعد وصل إلى منع وعرقلة الترميم وتحييد دور الحراس، خصوصا أثناء اقتحامات المستوطنين.
أبرز مبادئ اتفاق الوضع القائم
يتضمن اتفاق الوضع القائم عدة مبادئ أساسية أبرزها:
- الإبقاء على الحالة الراهنة للمكان المقدس، إذ يتعين على جميع الأطراف الحفاظ على الوضع كما هو وعدم إدخال أي تغييرات، سواء كانت معمارية أو إدارية.
- احترام دور وحق الإدارات المحلية والهيئات الدينية التي كانت قائمة دون تدخل من الأطراف الأخرى، مثل دائرة الأوقاف الإسلامية والهيئات التي تدير الكنائس المختلفة.
- حظر أي تغييرات على الوظيفة الدينية للموقع، مثل حظر صلاة اليهود في مسجد المسلمين (المسجد الأقصى).
الخروقات التي طالت الاتفاق
أقدم الاحتلال الإسرائيلي على عدة تغييرات وخروقات في اتفاق الوضع القائم، واعتدى على حرمات الأماكن المقدسة في القدس، وهو ما أدى إلى توتر دائم في المدينة المقدسة، ومن أبرز هذه الخروقات:
- تغيير الوضع القائم في الأقصى
ومن أبرز التعديات الإسرائيلية منذ عام 1967، التي أدت إلى تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، اقتحامات المستوطنين المنظمة التي تتواصل يوميا -ما عدا الجمعة والسبت- منذ عام 2003، والتي تجري بحماية شرطة وقوات الاحتلال، وتطال معظم بقاع المسجد باستثناء صحن قبة الصخرة.
وشهدت هذه الاقتحامات تطورا لافتا عام 2024 على صعيد زيادة أعداد المقتحمين، وتقنين الصلاة العلنية الجماعية لليهود داخل المسجد، وتأدية معظم الطقوس اليهودية مثل السجود الملحمي وتقديم القرابين النباتية والنفخ في البوق.
وإضافة إلى ذلك رفع المستوطنون العلم الإسرائيلي مرارا داخل المسجد الأقصى، واقتحمه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون عام 2000، ما أشعل شرارة انتفاضة الأقصى.
واقتحمه بعده عدة نواب في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) ووزراء في الحكومة وعلى رأسهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي اقتحمه 6 مرات منذ توليه منصبه، ودعا لبناء كنيس داخله.
- المس بحرية العبادة للمسلمين في الأقصى
في السنوات الأخيرة الماضية، استطاع الاحتلال تطبيق التقسيم الزماني في المسجد الأقصى، وقيّد بشكل كبير دخول المصلين المسلمين إليه خلال ساعات اقتحام المستوطنين (صباحا وظهرا).
كما قيّد دخولهم بشكل ملحوظ منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023 أثناء صلاة الجمعة، حتى انخفضت أعداد المصلين بشكل ملحوظ، ومنع الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة من دخول المسجد بشكل شبه كليّ.
وأصدر الاحتلال بحق المصلين أوامر شفهية وخطية تبعدهم عن المسجد الأقصى لفترات تصل إلى 6 أشهر، وقد تجدد بعدها، كما قسم جزءا من المسجد مكانيا، ويتعلق الأمر بالمنطقة الشرقية في الأقصى قرب باب الرحمة، إذ يمنع على المسلمين الاقتراب منها تماما أثناء فترة الاقتحامات، ويسمح للمستوطنين بأداء الصلوات والطقوس فيها.
- الحفريات
منذ احتلال شرقي القدس يحفر الاحتلال في محيط المسجد الأقصى بحثا عن آثار مزعومة، وتمكن من إنشاء شبكة أنفاق وبنية تحتية كاملة حول المسجد وتحديدا أسفل الرواق الغربي. وقد أدى ذلك إلى الإضرار بأساسات المسجد الأقصى وتصدّع بعض معالمه، وانهيار بعض المنازل الفلسطينية والشوارع في بلدة سلوان جنوبي الأقصى.
كما أدى افتتاح الرواق الغربي عام 1996 إلى اندلاع هبّة النفق الفلسطينية.
- تقويض صلاحيات الأوقاف
رغم نص اتفاق الوضع القائم على حظر التدخل بالهيئات الدينية والإدارية في الأماكن المقدسة، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي قوّض بشكل كبير صلاحيات دائرة الأوقاف الإسلامية.
ويضيق الاحتلال على دائرة الأوقاف من خلال التحكم بفتح وإغلاق أبواب المسجد، واعتقال وإبعاد حراس الأقصى وعرقلتهم عن أداء أعمالهم، خصوصا مراقبة المستوطنين المقتحمين.
كما عرقل ومنع عمليات الترميم والإعمار داخل المسجد، عبر منع وتقنين دخول المواد اللازمة، وإيقاف عمليات الترميم، ورهنها بموافقة شرطة الاحتلال.
أبرز تبعات خرق اتفاق الوضع القائم
- فتح نفق باتجاه قبة الصخرة: عام 1982 كُشفت محاولة إسرائيلية لفتح نفق باتجاه قبة الصخرة المشرفة، وكان مفتي القدس سعد الدين العلمي من أبرز الشخصيات التي نبهت على ذلك الخطر. وأثارت محاولة فتح النفق حينها غضبا شعبيا واسعا، وتوترات ميدانية في القدس ومحيطها، وسلطت الضوء على خطورة الحفريات التي تحيق بالمسجد.
- مجزرة الأقصى الأولى: اندلعت في 8 أكتوبر/تشرين أول عام 1990 احتجاجا على محاولة منظمة أمناء الهيكل وضع حجر أساس الهيكل المزعوم داخل المسجد الأقصى، فقد ثار المصلون في المسجد فقتل الاحتلال منهم 21 وأصاب أكثر من 150، الأمر الذي أشعل مواجهات امتدت إلى كافة مناطق فلسطين المحتلة.
- هبة النفق: اندلعت في 25 سبتمبر/أيلول عام 1996 احتجاجا على افتتاح الاحتلال ما يعرف بنفق "الحشمونائيم" أسفل الرواق الغربي للمسجد الأقصى، وقد ارتكب الاحتلال مجزرة في الأقصى في يوم جمعة، وامتدت المواجهات إلى كافة أراضي فلسطين المحتلة كما حدث إبان مجزرة الأقصى الأولى.
- انتفاضة الأقصى الثانية: اندلعت في 28 سبتمبر/أيلول عام 2000 غضبا من اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية حينها أرييل شارون المسجد الأقصى برفقة حراسة مشددة، وارتكب الاحتلال بعدها مجزرة في رحاب المسجد أدت إلى استشهاد بعض المصلين وإصابة المئات، وأشعلت شرارة انتفاضة في فلسطين دامت 5 سنوات.
- هبّة الأسباط أو البوابات الإلكترونية: اندلعت في يوليو/تموز 2017 عام احتجاجا على تركيب الاحتلال بوابات إلكترونية عند باب الأسباط وباب المجلس، بعد تنفيذ 3 شبان من بلدة أم الفحم عملية إطلاق نارعلى شرطة الاحتلال عند باب حطة. وقوبل تركيب البوابات حينها باحتجاجات واعتصامات فلسطينية كبيرة استمرت نحو أسبوعين، وانتهت بإجبار الاحتلال على إزالة جميع البوابات.
- هبة باب الرحمة: اندلعت في فبراير/شباط عام 2019 غضبا من وضع شرطة الاحتلال أقفالا على أبواب مصلى باب الرحمة شرقي المسجد الأقصى، الأمر الذي أدى إلى تجمع آلاف الفلسطينين في المسجد وإقامة الصلوات جماعة أمام المصلى، واستطاعوا يوم الجمعة كسر الأقفال وفتح باب مصلى باب الرحمة.