الاستهلاك.. إفناء السلعة
الاستهلاك هو عملية استعمال سلعة أو خدمة بهدف إشباع حاجة عند الإنسان بشكل مباشر (استهلاك نهائي)، أو بغرض إنتاج سلعة أو خدمة أخرى (استهلاك وسيط). وينتج عن الاستهلاك إفناء فوري وكلي للسلعة (تناول الأطعمة مثلا) أو تدريجي وجزئي (استعمال جهاز إلكتروني معين مثلا).
ويعرَّف الاستهلاك أيضا بأنه الجزء من الدخل الذي ينفق في اقتناء السلع والخدمات من أجل إشباع حاجات معينة. إذ أن الدخل المكتسب إما أن ينفق في الاستهلاك أو يخصص من أجل الادخار.
الاستهلاك والإنتاج
كان الاستهلاك دائما ولا يزال هو الغاية النهائية للنشاط الاقتصادي، فلا يمكن الحديث عن إنتاج سلع أو خدمات في غياب أفراد مستعدين لاستهلاكها من أجل إشباع حاجاتهم.
ويبقى الاستهلاك والإنتاج نشاطين ومفهومين قرينين لا غناء لأحدهما عن الآخر، إذ أن الاستهلاك هو الباعث والمحفز على ممارسة أي نشاط إنتاجي، ولا استهلاك على العموم من دون سلع وخدمات يتعاون المجتمع على إنتاجها.
فمعظم الاستهلاك في المجتمعات الحديثة، وبخلاف المجتمعات البدائية التي كانت تعيش على الصيد والقنص والتقاط الثمار من الأشجار أو من الأرض، يستدعي تعريض الموارد الطبيعية أو الأولية لحد أدنى من التحويل الذي يحصل بفضل عمل الإنسان وعلمه، وذلك هو الإنتاج.
الاستهلاك والنمو
لطالما اقتصر اهتمام الفكر الاقتصادي (حتى ثلاثينيات القرن الماضي) على دراسة عملية الإنتاج باعتبارها المحدد الوحيد لسيرورة النمو الاقتصادي. إلا أن ظهور المدرسة الكينزية بالاقتصاد (نسبة إلى الاقتصادي البريطاني المشهور جون مينارد كينز) لفت اهتمام المفكرين الاقتصاديين إلى الاستهلاك كعامل يلعب دورا أساسيا في تحديد مستوى النشاط الاقتصادي.
ولقد كان هذا التحول الفكري الحاصل في علم الاقتصاد إفرازا طبيعيا للواقع الاقتصادي الذي استجد بعد أن خاضت البلدان الغربية (ومعها بقية الدول) تجربة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم انطلاقا من الولايات المتحدة عام 1929 والكساد الكبير الذي أعقبها.
إذ أن ما حدث عام 1929 كان بامتياز أزمة إفراط في الإنتاج ونقص في الاستهلاك، والسبب في ذلك راجع إلى حجم التفاوتات في الدخل التي وصلت مستويات قياسية وتكدس الثروة في يد حفنة من الأثرياء.
وقد أدى ذلك الوضع إلى انهيار النشاط الاقتصادي بسبب ضعف الاستهلاك الناتج بدوره عن ضعف الدخل الحقيقي (بعد تحييد أثر التضخم) للأفراد، وعجز الشركات والمتاجر بالتالي عن إيجاد مستهلكين لبضائعهم التي كانت تملأ المخازن حد التخمة.
وأمام انكماش الأسعار الناجم عن ضعف الطلب مقارنة بالعرض، لجأت الشركات إلى خفض إنتاجها وتسريح جزء كبير من قوتها العاملة، مما عمق من تأثير الأزمة.
ولقد أقدم بعض المنتجين (للحبوب على وجه الخصوص) بكل جرأة وتحلل من أي أخلاق دينية أو علمانية على رمي بعض محاصيلهم في البحر للحفاظ على الأسعار مرتفعة عند مستويات تحقق لهم أكبر ربح ممكن، انسجاما مع روح الرأسمالية التي يدينون بها.
وكان الكساد الضارب بآثاره (الفقر والبطالة والتشرد..) في الولايات المتحدة وأوروبا فرصة لإعادة التفكير في اليقينيات التي بناها علم الاقتصاد من قبل ومساءلتها على ضوء الواقع الجديد الذي لا تخطئه عين الملاحظ.
تدخل الدولة
فعمد كينز واقتصاديون آخرون إلى تحليل أسباب الأزمة، وتقديم نقد علمي وعقلاني لأفكار الليبرالية الجامحة (المتطرفة) التي تؤمن إيمانا أعمى بقدرة السوق على الوصول تلقائيا وبشكل عفوي إلى حالة التوازن، دونما حاجة إلى أي تدخل من الدولة عبر الرقابة أو الضبط أو التقنين أو التوجيه.
وكانت هذه الأفكار قد أطرت المشهد الاقتصادي وأداء السياسيين قبل اندلاع الأزمة. ولقد أعاد كينز إلى دائرة النقاش العمومي أهمية تدخل الدولة في الاقتصاد بشكل محدود ومحدد، دون أن يشاطر أفكار المذاهب الاشتراكية أو الشيوعية.
وركز كينز في مؤلفه المعروف بالنظرية العامة على الدور المنوط بالدولة في قلب الدورة الاقتصادية (حينما يكون الاقتصاد في حالة انكماش) من خلال نهج سياسة نقدية تيسيرية وسياسة إنفاقية توسعية بهدف الرفع من مستوى الطلب الإجمالي عبر دعم الاستهلاك والاستثمار.
ولقد أثبت نجاح الخطة الاقتصادية التي انتهجها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت بعد الأزمة صواب أفكار كينز في ذلك السياق التاريخي. حيث إن السياسات الاقتصادية الكينزية التي طبقت بالولايات المتحدة والتي كان هدفها الرفع من الطلب الإجمالي انتشلت الاقتصاد الأميركي من الكساد وأعادته إلى دورة النمو.