العلاقات التركية الإسرائيلية.. محطات من المد والجزر

العلاقات بين تركيا وإسرائيل من أكثر العلاقات تقلبا في منطقة الشرق الأوسط، إذ شهدت فترات من التعاون الوثيق مع مراحل من التوتر والصدام السياسي الحاد. فمنذ اعتراف أنقرة بإسرائيل عام 1949، شهدت العلاقات بين الطرفين تحولات جوهرية، تخللتها محطات بارزة من التعاون العسكري والاقتصادي، قابلتها أزمات دبلوماسية حادة نتيجة التباين في المواقف تجاه قضايا إقليمية، وفي مقدمتها السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، والتي شكّلت العامل الأكثر تأثيرا في مسار هذه العلاقة المتقلبة.
أول بلد إسلامي يعترف بإسرائيل
تعود العلاقات بين تركيا وإسرائيل إلى عام 1949، حين اعترفت أنقرة بإسرائيل بعد أقل من عام على إعلان قيامها، وذلك انطلاقا من منطق المصالح المشتركة ومراعاة مبادئ احترام سيادة الدول وحقوق الإنسان.
وفي يناير/كانون الثاني 1950، دشنت تركيا تمثيلها الدبلوماسي في تل أبيب بتعيين سيف الله إيسن أول مفوض دبلوماسي مسلم يقدم أوراق اعتماده للرئيس الإسرائيلي آنذاك حاييم وايزمان. وتطورت العلاقات سريعا، ووُقعت اتفاقيات تجارية مكّنت إسرائيل من استيراد نصف احتياجاتها من الحبوب من تركيا، في حين عبّرت تل أبيب عن الامتنان عبر تسمية غابة قرب حيفا باسم "أتاتورك"، على اسم مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية.
لكن العلاقات لم تخلُ من التوترات، ففي عام 1955، أبدت إسرائيل استياءها من انضمام تركيا إلى ما عرف بـ"حلف بغداد" إلى جانب العراق وإيران وباكستان وبريطانيا، معتبرة أن الحلف قد يزيد من التهديدات العربية لها.
وبلغت التوترات ذروتها عام 1956 إثر العدوان الثلاثي على مصر، فحينها نددت تركيا بدخول القوات الإسرائيلية إلى سيناء في 29 أكتوبر/تشرين الأول، وقررت في 26 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل إلى قائم بالأعمال، واستغرق الأمر سبع سنوات لعودة العلاقات إلى مستواها السابق.
في حرب يونيو/حزيران 1967، وقفت تركيا إلى جانب الدول العربية، ودعت إسرائيل للانسحاب من الأراضي التي احتلتها، بما في ذلك القدس الشرقية والضفة الغربية وسيناء والجولان السوري.
أما في سبعينيات القرن الـ20 فقد خيم الفتور على العلاقات الثنائية، لا سيما بعد موقف تركيا من حريق المسجد الأقصى عام 1969، إضافة لتصويتها في الأمم المتحدة عام 1975 لصالح قرار اعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، واعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا للفلسطينيين.
بين توتر وتراجع وتعاون عسكري
في الأول من يناير/كانون الثاني 1980، ارتقت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وإسرائيل إلى مستوى السفراء، غير أن هذا الزخم لم يدم طويلا؛ ففي 30 يوليو/تموز من العام ذاته، أعلنت إسرائيل ضم القدس الشرقية واعتبار المدينة عاصمة لها، ما دفع تركيا إلى الرد بإغلاق قنصليتها في القدس وتخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسي في تل أبيب إلى أدنى مستوى.
وشهد عام 1986 خطوة جزئية نحو استعادة العلاقات، ورُفع التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى القائم بالأعمال، إلا أن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، واعتراف تركيا بدولة فلسطين التي أعلنتها المنظمة في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، أعادا العلاقات إلى حالة من الجمود.
استمر هذا الجمود حتى عام 1992، حين أعيد التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى مستوى السفراء، وبدأ منحنى التوتر بالانخفاض، لا سيما بعد تصويت تركيا ضد مشروع قرار في الأمم المتحدة عام 1989 كان يستهدف حظر تمثيل إسرائيل.
ومع انطلاق عملية السلام في الشرق الأوسط عبر مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، شهدت العلاقات العربية الإسرائيلية عموما نوعا من الانفراج، انعكس جزئيا على العلاقات التركية الإسرائيلية.
وفي السياق ذاته، رفعت كل من إسرائيل وفلسطين عام 1991 مستوى تمثيلهما الدبلوماسي في أنقرة إلى مستوى السفارة، وتبع ذلك افتتاح تركيا قنصليتها العامة في القدس.
في النصف الأول من تسعينيات القرن الـ20، دخلت العلاقات الثنائية مرحلة التعاون الأمني والعسكري، ووُقّعت اتفاقية للتدريب الأمني عام 1994، تلتها اتفاقية للتدريب العسكري في 1996، إلى جانب اتفاقيات في مجالات الصناعات الدفاعية والتجارة الحرة. وبلغ مستوى التعاون ذروته عام 1998، مع تنفيذ مناورات بحرية مشتركة في البحر الأبيض المتوسط جمعت بين القوات التركية والإسرائيلية والأميركية.
توتر متصاعد ومواجهات دبلوماسية
ساهمت سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون -التي أثرت على جهود السلام في المنطقة- في تقويض التحسن النسبي الذي شهدته العلاقات التركية الإسرائيلية عقب انطلاق عملية السلام في الشرق الأوسط.
وبلغ التصعيد ذروته بزيارة شارون إلى المسجد الأقصى عام 2000، والتي أشعلت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وقد أدت سياساته القمعية بحق الفلسطينيين إلى توتر حاد في العلاقات مع أنقرة.
بعد فترة من الجمود، بدأت بعض التحركات لتحسين العلاقات، إذ زار كل من وزير الخارجية التركي آنذاك عبد الله غل، ورئيس الوزراء حينها رجب طيب أردوغان إسرائيل وفلسطين عام 2005، بفارق أربعة أشهر بين الزيارتين، في محاولة لإعادة ضبط المسار الدبلوماسي.
لكن سرعان ما عادت العلاقات إلى مسار التدهور، حين أدانت تركيا بشدة الهجوم الإسرائيلي على لبنان في يوليو/تموز 2006، ثم على قطاع غزة في ديسمبر/كانون الأول 2008.
وفي منتدى دافوس الاقتصادي عام 2009، انفجرت مشادة كلامية غير مسبوقة بين أردوغان والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، الذي حاول تبرير العدوان على غزة. ورد أردوغان بحدة قائلا "إن ارتفاع صوتك ناجم عن الشعور بالذنب.. أنتم تعرفون جيدا كيف تقتلون.. رأيت كيف قتلتم الأطفال على الشاطئ"، مضيفا "انتهى دافوس بالنسبة لي"، ثم غادر القاعة، حينها لقي موقفه صدى كبيرا لدى الرأي العام العالمي، وخاصة في العالم العربي.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2009، زادت حدة التوتر بعد أن وجهت إسرائيل مذكرة احتجاج رسمية إلى أنقرة بسبب عرض المسلسل التركي "صرخة حجر"، الذي اتهمته إسرائيل بالتحريض ضدها.
ثم تصاعدت الأزمة في يناير/كانون الثاني 2010 عندما استدعت الخارجية الإسرائيلية السفير التركي للاحتجاج على عرض مسلسل "وادي الذئاب"، بدعوى أنه يتضمن إساءات لإسرائيل. وأثارت طريقة الاستدعاء غضب أنقرة، إذ تم إجلاس السفير على كرسي منخفض، ما اعتبرته "فظاظة دبلوماسية".
نقطة الانهيار.. سفينة مرمرة
شكّلت حادثة الاعتداء على سفينة "مافي مرمرة" يوم 31 مايو/أيار 2010 نقطة الانهيار الأبرز في مسار العلاقات التركية الإسرائيلية. فقد هاجمت القوات الإسرائيلية "أسطول الحرية"، الذي كان متجها إلى قطاع غزة بهدف كسر الحصار المفروض عليه.
أسفر الهجوم عن مقتل 9 مواطنين أتراك، ولاحقا توفي جريح آخر بسبب إصابته البالغة، ما أثار غضبا شعبيا ورسميا واسعا في تركيا. وردا على ذلك، استدعت أنقرة سفيرها من تل أبيب، وطالبت باعتذار رسمي، وتعويضات لعائلات الضحايا، ورفع الحصار عن غزة.
ومع تجاهل إسرائيل تلك المطالب، اتخذت تركيا خطوات تصعيدية، شملت خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي إلى القائم بالأعمال، وتعليق كافة الاتفاقيات العسكرية الثنائية.
وفي تحول مفاجئ، قدّم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 22 مارس/آذار 2013، أثناء اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان، اعتذارا رسميا باسم حكومته عن الهجوم، وهو ما قبله أردوغان باسم الشعب التركي.
وبعد مفاوضات مطولة، أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم في 27 يونيو/حزيران 2016 عن توصل الجانبين إلى تفاهم بشأن تطبيع العلاقات، تم توقيعه في العاصمة الإيطالية روما.
وبموجب الاتفاق، وافقت إسرائيل على دفع 20 مليون دولار تعويضا لأسر ضحايا الهجوم، وهو ما صادق عليه البرلمان التركي في 20 أغسطس/آب من العام ذاته، وجرى تنفيذ الدفعة المالية في سبتمبر/أيلول 2016.
وأرسلت تركيا في يوليو/تموز 2016 سفينة مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة محملة بـ11 ألف طن من المواد الغذائية والطبية، في محاولة لتخفيف آثار الحصار.
وفي إطار استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة، أعلن المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 عن تعيين إيتان نائيه سفيرا لإسرائيل في أنقرة. ومن جهتها عينت تركيا كمال أوكم، مستشار الشؤون الخارجية لرئاسة الوزراء، سفيرا لدى إسرائيل.
الآذان وتجدد الأزمات
دخلت العلاقات التركية الإسرائيلية مجددا في نفق التوتر في مايو/أيار 2017، إثر تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أكد فيها رفض بلاده أي محاولة لمنع رفع الأذان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واصفا مجرد النقاش في الموضوع بالأمر المخجل.
وفي كلمة ألقاها أثناء فعالية نُظمت في مدينة إسطنبول عن الأوضاع في مدينة القدس، قارن أردوغان السياسات الإسرائيلية بسياسات الفصل العنصري، متسائلا عن الفرق بين ما تفعله الحكومة الإسرائيلية الآن وما كان يُمارَس ضد السود سابقا في الولايات المتحدة الأميركية، أو ما جرى في ظل نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا؟".
ردا على ذلك استدعت وزارة الخارجية الإسرائيلية السفير التركي لدى تل أبيب كمال أوكم، وطالبته بتقديم إيضاحات حول تصريحات الرئيس التركي.
ووفقا للإذاعة الإسرائيلية، فقد تم أيضا نقل رسائل إلى تركيا هدفها منع اندلاع أزمة سياسية جديدة، ونقلت الإذاعة عن مصدر إسرائيلي قوله "تصريحات أردوغان كانت شديدة اللهجة وتستحق الاستنكار، وردت عليها وزارة الخارجية بالمثل"، معتبرا أن "الأمر انتهى عند هذا الحد".
من الانفراج إلى القطيعة
شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية في الفترة بين عامي 2020 و2024 سلسلة من التحولات العميقة، على خلفية تطورات إقليمية ودولية متسارعة.
فبعد سنوات من الجمود، بدأت بوادر انفراج في مارس/آذار 2022 بزيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى أنقرة، وهي أول زيارة من نوعها منذ 14 عاما، التقى فيها بأردوغان، تبعتها في أغسطس/آب خطوة لافتة تمثلت في إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة وتبادل السفراء، في خطوة فسرت حينها بأنها محاولة لتجاوز سنوات من التوتر.
لاحقا، وفي أغسطس/آب من العام ذاته، أُعلن عن استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة وتبادل السفراء، في خطوة وُصفت حينها بأنها محاولة جدية لتطبيع العلاقات بعد سنوات من التوتر والقطيعة.
وفي سبتمبر/أيلول 2023، التقى أردوغان ونتنياهو في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو أول لقاء بينهما منذ فترة طويلة، وقد أسهم في تعزيز مسار التقارب الثنائي.
لكن هذا الزخم لم يدم طويلا. فقد شكّل اندلاع عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما تبعها من تصعيد عسكري إسرائيلي واسع على غزة نقطة تحول حاسمة أعادت العلاقات إلى مربع التوتر.
حينها سحبت إسرائيل دبلوماسييها من أنقرة، وردت تركيا باستدعاء سفيرها للتشاور، احتجاجا على مواصلة العمليات العسكرية ورفض إسرائيل الدعوات لوقف إطلاق النار.
وبعد أسابيع من اندلاع الحرب، أطلق أردوغان تصريحات تساند حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتبرئها من تهمة "الإرهاب"، ووصف بالمقابل إسرائيل بأنها تمارس عدوانا وإجراما، وتوعد بمحاكمتها دوليا.
في مارس/آذار 2024، بلغت الأزمة ذروتها مع تصريحات اتهم فيها أردوغان إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، وندد بالدعم الغربي لها.
وتصاعد التوتر في مايو/أيار 2024، عندما أعلنت تركيا تعليق خطط للتعاون مع إسرائيل في مجال الطاقة، كما ألغى وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار زيارة كانت مقررة لإسرائيل، بعد أن كانت أنقرة تعتزم مناقشة خطط للتعاون مع إسرائيل للتنقيب المشترك عن الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط وإمكانية وضع خطط لتصدير الغاز إلى أوروبا عبر تركيا.
وفي خطوة تصعيدية تقدمت أنقرة في أغسطس/آب 2024 بطلب رسمي للانضمام إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، مؤكدة نيتها تقديم أدلة على ما وصفته بـ"التطهير العرقي وجرائم الحرب" في غزة، وفق تصريحات رئيس اللجنة القانونية في البرلمان التركي.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أعلن أردوغان أن بلاده قطعت التجارة والعلاقات مع إسرائيل بشكل كامل، مؤكدا أن بلاده "تقف مع فلسطين حتى النهاية". كما شنت الأجهزة الأمنية التركية حملات ضد خلايا يُشتبه في ارتباطها بجهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي (الموساد)، وتم القبض على عدد من الأشخاص بتهم تتعلق بالتجسس.