الإبادة الجماعية.. من المغول إلى إسرائيل
سياسة قتل جماعي منظمة، تقوم بها حكومة أو جهة معينة ضد طائفة أو جماعة من الناس على أساس ديني أو عرقي أو قومي أو سياسي، صنفتها الأمم المتحدة عام 1948 في اتفاقية خاصة بها بأنها جريمة دولية.
وجاء مصطلح "الإبادة الجماعية" في أساسه لوصف أفعال النازية ضد يهود أوروبا ومحاولة أخذ حيّز في العقوبات المفروضة عليها، حتى أقرّت الأمم المتحدة المصطلح عام 1946، وعرفته بـ"ارتكاب جريمة قتل أو أذى أو إجراء بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية، لجماعة ما على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين".
ولكن المحكمة الدولية لم تنعقد لتطبيق هذه الاتفاقية لأول مرة إلا بعد صدورها بحوالي 5 عقود، وذلك من خلال العمليات القضائية التي أعقبت صراعات رواندا ثم البلقان.
ومن أشهر جرائم الإبادة الجماعية، مذبحة سربرنيتشا، ومذبحة صبرا وشاتيلا والإبادة الجماعية والتطهير العرقي في رواندا، وما قام به النازيون الألمان ضد اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.
يُذكر أن تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية تواجهه عدة مشاكل، منها ما يتعلق بتفسير معنى الإبادة الجماعية، ومنها ما يتعلق بالإرادة الدولية.
تعريف المصطلح
الإبادة هي القتل المتعمد الجماعي لمجموعة كاملة من الأشخاص، وهي من ضمن الجرائم ضد الإنسانية.
أما الإبادة الجماعية فيمكن تعريفها بأنها الفظاعات التي ترتكب أثناء العدوان، على أساس عرقي أو ديني. ويمكن تعريفها بحصر عناصرها، وهو ما حاولت المادة الثانية من اتفاقية 1948 الخاصة بمنع جريمة الإبادة الجماعية أن تقوم به.
نشأة المصطلح
ظهر مصطلح الإبادة الجماعية عام 1944 على يد المحامي اليهودي رافائيل ليمكين، وابتدعه بقصد توصيف السياسات النازية لـ"القتل المنظم" الذي طال اليهود في أوروبا حينها، ولجأ إلى وصفه عبر الجمع بين كلمة "جينو" (-geno) اليونانية التي تعني سلالة أو عرقا أو قبيلة، مع كلمة "سايد" (cide-) اللاتنية التي تعني القتل.
وحينما كان ليمكين يصوغ هذا المصطلح الجديد، كان يضع في اعتباره مفهوم "وضع خطة منظمة تتألف من إجراءات مختلفة تهدف إلى تدمير الأساسيات الضرورية لحياة مجموعات قومية، بهدف إبادة المجموعات نفسها".
وكان سعْي هذا المحامي اليهودي في أفق الإعداد لمحاكمة كبار قادة "الرايخ" الألماني على جرائمهم خلال الحرب العالمية الثانية.
وبالفعل، فقد وجهت المحكمة العسكرية الدولية في مدينة "نورمبرغ" المنعقدة بألمانيا سنة بعد ذلك، أي في العام 1945، اتهامات إلى كبار القادة النازيين بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية". واشتملت الاتهامات حينها على كلمة "الإبادة الجماعية"، ولكنها كانت كلمة وصفية فقط، ولم تكن مصطلحا قانونيا.
ثم بعد ذلك وعلى إثر الجهود المتواصلة التي قام بها ليمكين بنفسه مستحضرا "الهولوكوست" وعلى نطاق واسع، أقرت الأمم المتحدة اتفاقية تقضي بمنع جرائم الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها في 9 ديسمبر/كانون الأول 1948. واعتبرت هذه الاتفاقية "الإبادة الجماعية" بمثابة جريمة دولية تتعهد الدول الموقعة عليها "بمنعها والمعاقبة عليها".
ويبدو أن كل جهود ليمكين كانت فقط لتهيئ ذرائع لمحكمة "نورمبرغ" حتى تتمكن من إصدار أقصى العقوبات على قادة النازية. وهذا ما عبر عنه الكاتب المسرحي اليهودي الألماني "بيرتولد بريخت"، الذي مع أنه كان إبان حكم الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر فارا إلى الولايات المتحدة الأميركية من النازية، إلا أنه في مسرحيته الشهيرة "الصعود الذي لا يقاوم لآرتورو وي"، قد أشار إلى أن الأحكام كانت جاهزة قبل المحاكمة، واعتبرها "باطلة".
التعريف القانوني
ويعتبر قرار الأمم المتحدة الصادر بتاريخ 11 ديسمبر/كانون الأول 1946 أن الإبادة الجماعية هي "ارتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية، لجماعة ما على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين"، مثل:
- قتل أعضاء الجماعة.
- إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة.
- إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كليا أو جزئيا.
- فرض إجراءات تهدف إلى منع المواليد داخل الجماعة.
- نقل الأطفال بالإكراه من جماعة إلى أخرى.
وبدوره يعرف "نظام روما الأساسي" المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، الإبادة الجماعية بأنها "ارتكاب أفعال معينة على نطاق موسع، يتم تنفيذها بقصد القضاء على مجموعة، كليا أو جزئيا، بناء على هوية هذه المجموعة القومية أو الإثنية أو العنصرية أو الدينية".
ومع أن المصطلح لم يتم ابتداعه إلا من أجل هذه المحاكمة فيما بعد انتهاء الحرب، فإن التاريخ كثيرا ما شهد هذه الممارسة التي تعني جرائم القتل الجماعي المرتكبة بحق مجموعات معينة من البشر بقصد إنهاء وجودهم كليا، فكثيرا ما أباد المغول قبائل بأجمعها عند غزوها، وكذلك فعل غيرهم من الفرس والإغريق، وخصوصا الرومان.
وتنص الأطراف المتعاقدة في الاتفاقية على منع "الإبادة الجماعية، سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب". ولا يقتصر التجريم -وفق المادة الثالثة من الاتفاقية- على الإبادة الجماعية، وإنما يشمل كذلك التآمر على ارتكابها، والتحريض المباشر والعلني عليها، ومحاولة ارتكابها، والاشتراك فيها.
وكذلك فإن أحكام الاتفاقية تسري على الدول التي لم تصادق عليها وفق استشارة قانونية لمحكمة العدل الدولية في 28 مايو/أيار 1951. وقد تعزز ذلك بتقرير من الأمين العام للأمم المتحدة في 3 مايو/أيار 1993 اعتبر الاتفاقية جزءا من القانون العرفي، وقد صادق على ذلك مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة.
وفي عام 1998، حكم على مرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا بالسجن مدى الحياة، وبينهم جان كمباندا، الذي كان رئيس الوزراء في بداية عملية الإبادة، والذي اعترف بمسؤوليته عن إبادة المدنيين من عرقية التوتسي.
العقوبات
وعن العقوبات الواجبة التطبيق بحق مرتكبي الإبادة الجماعية، فإن المادة 77 من نظام روما الأساسي تنص على أنه للمحكمة أن توقع على الشخص المدان إحدى العقوبات التالية:
السجن لعدد محدد من السنوات لفترة أقصاها 30 سنة.
السجن المؤبد عندما تكون هذه العقوبة مبررة بالخطورة البالغة للجريمة وبالظروف الخاصة للشخص المدان.
وكذلك تنص المادة الرابعة من الاتفاقية على أنه "يعاقب مرتكبو الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، سواء كانوا حكاما دستوريين أو موظفين عامين أو أفرادا".
كما تنص جميع الاتفاقيات المتعلقة بـ"الإبادة الجماعية" على أنها "جرائم لا تخضع للتقادم، ومرتكبوها لا يستفيدون من الحصانة، إذ تتم ملاحقة كل شخص ارتكبها أو أمر بارتكابها دون النظر إلى منصبه، سواء كانوا حكاما أو موظفين عامين أو أفرادا غير مسؤولين، وفق المادة الرابعة والمادة الثالثة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية".
إسرائيل والإبادة الجماعية
منذ قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي في 15 مايو/أيار 1948 ارتكبت عددا من الجرائم والمجازر في حق الشعب الفلسطيني، كثير منها ينطبق عليها تعريف الإبادة الجماعية.
بل وحتى قبل هذا التاريخ عملت العصابات الصهيونية على إبادة وتقتيل وتهجير قرى وبلدات إسرائيلية كاملة، وأحلت محلها تجمعات لمستوطنين يهود خططت لتهجيرهم من عدة أنحاء من العالم.
ومن أبرز الأمثلة على جرائم الإبادة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية ما وقع في حرب 1948 وحرب 1967، وكذا مذابح صبرا وشاتيلا ودير ياسين والطنطورة ومذبحة خان يونس وكفر قاسم ومجزرة الحرم الإبراهيمي ومذبحة مخيم جنين.
كما أمعنت إسرائيل في الإبادة الجماعية للفلسطينيين في سلسلة من الاعتداءات التي ارتكبتها في قطاع غزة في سنوات 2008 و2009 و2012 و2014 و2021.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023 شن الجيش الإسرائيلي هجوما غير مسبوق على القطاع، استمر أكثر من 70 يوما، استشهد فيه نحو 20 ألفا وأصيب عشرات الآلاف، وارتكبت قوات الاحتلال عشرات المجازر في الأحياء السكنية وفي المدارس والمستشفيات.