الأمير عبد القادر الجزائري.. قائد الثورة ضد الاستعمار الفرنسي
عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى، اشتهر باسم الأمير عبد القادر الجزائري، يعتبر من كبار رجال الدولة الجزائريين في التاريخ المعاصر ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ورائد مقاومتها ضد الاستعمار الفرنسي بين 1832 و1847.
هو قائد سياسي وعسكري مجاهد ومقاوم وشاعر، بايعه الجزائريون سنة 1832 أميرا لمقاومة المستعمر الفرنسي، مرت حياته بـ3 مراحل أساسية، الأولى قضاها في طلب العلم والتعرف على أوضاع البلدان العربية في طريق الحج، والثانية عاشها في الجهاد ومقاومة المستعمر، وقضى الثالثة أسيرا في فرنسا ثم مناضلا مغتربا في دمشق.
المولد والنشأة
ولد الأمير عبد القادر في 6 سبتمبر/أيلول 1808 بقرية القيطنة الواقعة على وادي الحمام قرب مدينة معسكر غرب الجزائر، والده محيي الدين بن مصطفى كان أحد مشايخ الطريقة القادرية الصوفية، كما كانت أمه السيدة بنت عبد القادر بن خدة أيضا ابنة أحد شيوخ الطريقة نفسها.
وحسب بعض المؤرخين، فإن عائلته تنتسب إلى الأدارسة الذين يمتد نسبهم إلى إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وتحديدا إلى إدريس الأكبر بن عبد الله المحصن بن حسن المثنى بن حسن السبط بن علي بن أبي طالب، وأم إدريس فاطمة الزهراء بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والعائلة التي ينتسب لها الأمير عبد القادر ينحدر منها أيضا حكام في المغرب العربي والأندلس، وكان لهذه الأصول تأثير عميق في تكوين شخصيته وساهمت في تحديد ملامحه قائدا روحيا وعسكريا.
تزوج سنة 1823 من ابنة عمه خيرة بنت أبي طالب.
الدراسة والتكوين
تلقى الأمير عبد القادر دروسه الأولى تحت إشراف والده في مسقط رأسه قرية القيطنة، وتمكن من ختم القرآن الكريم قبل أن يبلغ الـ11، إضافة إلى تعلمه مبادئ العلوم اللغوية والشرعية، ونال بذلك درجة الطالب، مما جعله يكلف بتحفيظ القرآن للأطفال وإلقاء الدروس والتفسير في الزاوية (مقر الطريقة القادرية).
سافر عام 1821 إلى مدينة أرزيو الساحلية التي تبعد 70 كيلومترا عن شمال مدينة معسكر، ثم إلى مدينة وهران حيث تتلمذ على عدد من شيوخ المنطقة مثل القاضي الشيخ أحمد بن الطاهر البطيوي والعالم الفقيه أحمد بن خوجة، وأخذ عنهم مبادئ العلوم الشرعية واللغوية والتاريخ والشعر، فصقلت ملكاته الأدبية والفقهية والشعرية في سن مبكرة.
بعد زواجه سافر عبد القادر بصحبة أبيه إلى البقاع المقدسة مرورا بتونس، ثم انتقل بحرا إلى الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة حيث عاين المعالم التاريخية وتعرف إلى بعض علمائها وشيوخها.
أبدى إعجابه بالإصلاحات والمنجزات التي تحققت في عهد والي مصر آنذاك محمد علي باشا، ثم توجه إلى البقاع المقدسة حيث أدى فريضة الحج، ومنها انتقل إلى بلاد الشام لتلقي العلم على يد شيوخ جامع الأمويين في دمشق.
من دمشق سافر إلى بغداد التي تعرف أيضا على معالمها التاريخية واختلط بعلمائها، ليعود مرة أخرى إلى البقاع المقدسة عبر دمشق ليحج، وبعدها رجع مع والده إلى الجزائر عبر القاهرة ثم إلى برقة ومنها إلى درنة وبنغازي فطرابلس ثم القيروان والكاف إلى أن وصلا إلى القيطنة في الغرب الجزائري ليتفرغ فيها عبد القادر للقراءة والتأمل.
رحلة الأمير في مختلف البلدان العربية والإسلامية أكسبته زادا معرفيا ودراية بالشعوب، وجعلته يتدبر حال الأمة وهو في العشرين من عمره.
التجربة السياسية
في 5 يوليو/تموز 1830 وقّع داي الجزائر وقائد الحملة الفرنسية المارشال دي برمون معاهدة الاستسلام التي بموجبها احتلت فرنسا الجزائر، وبدأ الجزائريون رحلة النضال ضد الاستعمار بأشكال شعبية منظمة وغير منظمة.
ومع سقوط وهران سنة 1831 بدأت الفوضى والاضطرابات تعم حياة الجزائريين اليومية، مما دفع شيوخ وعلماء مدينة وهران إلى البحث عن شخصية تتولى زمام الأمور.
في البداية توجه الرأي إلى اختيار الشيخ محيي الدين والد عبد القادر، لما عُرف عنه من ورع وشجاعة وتاريخ نضالي، إذ سبق له أن قاد المقاومة الأولى ضد الفرنسيين سنة 1831 وشاركه فيها ابنه عبد القادر منذ أول الاشتباكات مع المحتلين.
تردد الشيخ محيي الدين ثم اعتذر نظرا لتقدمه في السن، ومع إلحاح العلماء وشيوخ المنطقة رشح ابنه عبد القادر لتولي قيادة المقاومة وترتيب شؤون المنطقة، وكان في تلك الفترة يحارب الفرنسيين بمنطقة تسمى حصن فيليب.
وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1832 اجتمع زعماء القبائل والعلماء في سهل غريس قرب مدينة معسكر، وتمت البيعة الأولى للأمير عبد القادر وأطلق عليه لقب "ناصر الدين"، ثم تلتها البيعة العامة يوم 4 فبراير/شباط 1833.
قاد الأمير المقاومة في رقعة شاسعة وجعل الغرب مركزا ومنطلقا لها نحو الوسط والشرق الجزائري، واستطاع تحقيق العديد من الانتصارات العسكرية والسياسية التي جعلت المستعمر الفرنسي يتعثر في سياسته التوسعية أمام استماتة المقاومة.
وعسكريا، أدرك الأمير عبد القادر أن المواجهة تتطلب إحداث جيش نظامي على نفقة الدولة، ولهذا أصدر بلاغا إلى المواطنين طالب فيه بضرورة التجنيد وتنظيم الجيش والمعسكرات في البلاد كافة، وتفاعلت معه قبائل المنطقة الغربية والجهة الوسطى.
تمكن عبد القادر الجزائري من تكوين جيش نظامي سرعان ما تكيف مع الظروف السائدة واستطاع أن يحرز انتصارات عسكرية عدة، أهمها معركة المقطع التي أطاحت بالجنرال تريزيل والحاكم العام ديرليون من منصبيهما، ومعركة مستغانم في 27 يوليو/تموز 1833 ضد قوات الجنرال ديميشال.
وخاض معارك أخرى مع المستعمر، منها معركة التافنة يوم 25 يناير/كانون الثاني 1836، ودارت في مدينة تلمسان ضد قوات الجنرال كلوزيل، ومعركة السكّاك في تلمسان ضد قوات الجنرال بيجو يوم 6 يوليو/تموز 1836.
وخاض عبد القادر الجزائري معركتين ضد قوات الجنرال فالي، الأولى معركة غابة كرازة بمنطقة عفرون في 27 أبريل/نيسان 1840، والأخرى معركة موزاية بمدينة البليدة في 12 مايو/أيار 1840.
اتبع الفرنسيون سياسة الأرض المحروقة في مواجهة مقاومة قوات الأمير عبد القادر، فعمدوا إلى كل الأساليب الوحشية في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، كما أحرقوا المدن والقرى المساندة له كليا، وهي السياسة التي أدت إلى سقوط مدنه ومراكزه العسكرية.
وخاض بسبب ذلك معارك عدة، منها معركة الزمالة يوم 16 مايو/أيار 1843 في منطقة جبال عمور، والتي باغت فيها قوات الجنرال دومال، ثم معركة جبل كركور في 23 سبتمبر/أيلول 1845 ضد قوات مونتنياك، تلتها مباشرة معركة وادي مرسي في 26 سبتمبر/أيلول 1845 ضد قوات الجنرال جيرو.
أما سياسيا فقد شكل الأمير حكومة ومجلس شورى، وهو ما اعتبره مؤرخون أولى خطوات وضع أسس الدولة الجزائرية الحديثة، وقد أجبر الفرنسيين على توقيع معاهدتي سلام تضمنتا اعترافا بسلطته على المنطقة الغربية للجزائر، وهما اتفاقيتا ديميشال في 26 فبراير/شباط 1834 والتافنة في 30 مايو/أيار 1837.
مثلت المعاهدتان نقطة انطلاق للأمير عبد القادر لبناء مشروعه الإصلاحي والمجتمعي، واعتمد في ذلك سياسات طويلة المدى لبناء مجتمع قوي قادر على مقاومة الاحتلال الفرنسي لسنوات عدة، فسعى إلى توحيد غرب الجزائر، وأولى التعليم أهمية خاصة، إذ أخذ في بناء المدارس والكتاتيب لمحو الأمية ونشر العلم، وجمع المخطوطات والكتب وتأمين حفظها في المساجد ومقرات الطرق الصوفية.
كما حارب الفساد الأخلاقي، فمنع الخمر والميسر والتدخين منعا باتا، واستطاع بناء جيش منظم، وأسس ورشات لصناعة الأسلحة، وبنى الحصون والقلاع.
دأب المستعمر الفرنسي على خرق معاهداته في أكثر من مناسبة، مما كان يدفع الأمير عبد القادر إلى استئناف الكفاح والمقاومة ضده، كما عمل الفرنسيون في الفترة الممتدة من 1844 إلى 1847 على وقف الدعم الذي كان يتلقاه من المغرب عن طريق تهديد السلطان المغربي مولاي عبد الرحمن بغزو بلاده، إذ اعتبروا قبوله دخول الأمير المملكة إعلان حرب على الإمبراطورية الفرنسية.
قصف الفرنسيون ميناءي الصويرة وطنجة صيف عام 1844، مما ساهم في إضعاف قواته، ولما بدأ عتاده وذخيرته ومؤونته في النفاد حد من حركته، ولم يبق أمامه خيار سوى وقف القتال حقنا لدماء من تبقى من المقاومين ومناصريه من الأهالي.
وفي 23 ديسمبر/كانون الأول 1847 لم يجد بدا من الاستسلام للقوات الفرنسية التي استغلت الهدنة لمحاصرته في منطقة "سيدي إبراهيم"، وحشدت جيشا كبيرا ضده عجز عن مقاومته، فوقّع الأمير عبد القادر "معاهدة الاستسلام" التي أوقفت القتال، وسميت هذه المعاهدة "لاموريسيير" نسبة إلى قائد الجيوش الفرنسية الجنرال لويس لاموريسيير الذي وقع على المعاهدة من الجانب الفرنسي.
وذهب بعض المؤرخين إلى روايات ثلاث بشأن أسباب استسلام الأمير عبد القادر للقوات الفرنسية، وهي:
- لجوء الأمير إلى الاستسلام حقنا للدماء.
- أن الضغط الفرنسي على المغرب وقصف الصويرة وطنجة دفعا إلى تراجع المغرب عن دعمه ومحاصرة الجيوش الفرنسية له.
- أن الأمير عبد القادر كان يعتبر معاهدة 23 ديسمبر/كانون الثاني 1847 "اتفاقية حرب" لا "اتفاقية استسلام".
وكان من شروط المعاهدة التي اشترطها الأمير تمكينه وأسرته من المغادرة إلى مكة والإسكندرية، وتخيير قادته وجنوده بين البقاء في الجزائر أو مرافقته إلى المنفى، لكن الفرنسيين تراجعوا بعد إمضاء المعاهدة واقتادوه بحرا إلى مدينة طولون الفرنسية حيث أودع السجن، ثم نقل إلى سجن مدينة "بو" في الجنوب الفرنسي ثم إلى آمبواز بإقليم اللوار.
ومع تولي نابليون الثالث إمبراطورية فرنسا سنة 1852 قرر إطلاق سراح الأمير بعد أن قضى قرابة 5 سنوات في السجون الفرنسية.
وفي الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1852 سافر الأمير إلى تركيا، ثم انتقل إلى سوريا سنة 1855، حيث استقر في مدينة دمشق، ودرَّس في مدرستي الأشرفية والحقيقية، ثم في المسجد الأموي.
بعد أحداث الفتنة بين المسلمين والمسيحيين التي شهدتها دمشق سنة 1860 احتضن في منزله أكثر من 15 ألف مسيحي، وهو موقف جعله محل إشادة عالمية.
المؤلفات
للأمير عبد القادر الجزائري الكثير من المؤلفات، أهمها:
- ذكرى العاقل وتنبيه الغافل.
- المقراض الحاد لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد.
- مذكرات الأمير عبد القادر.
- المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد.
التكريمات
دشن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ساحة باسم الأمير عبد القادر في العاصمة الروسية موسكو يوم 15 يونيو/حزيران 2023.
وخلال الاجتماع الأول للجنة الذاكرة الجزائرية الفرنسية حول فترة الاستعمار -الذي عقد في الجزائر يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023- تم الاتفاق على استرجاع كل الممتلكات التي ترمز إلى سيادة الدولة الخاصة بالأمير عبد القادر وقادة المقاومة.
الوفاة
توفي الأمير عبد القادر الجزائري في 24 مايو/أيار 1883 بمدينة دمر في ضواحي دمشق عن عمر ناهز 76 سنة، ودفن بجوار ضريح الشيخ محيي الدين بن عربي الأندلسي، ثم نقل رفاته إلى الجزائر سنة 1966 ودفن في "مربع الشهداء" بمقبرة العالية شرقي العاصمة.