حلب الشهباء.. إحدى أقدم المدن المأهولة في التاريخ
تعد محافظة حلب العاصمة الاقتصادية لسوريا، تقع شمالي سوريا وهي متاخمة لحدود جنوب تركيا، وتعد عاصمتها مدينة حلب أكثر مدن البلاد اكتظاظا بالسكان، ومن أقدم المدن المأهولة في التاريخ، إذ وقعت على مفترق طرق تجارية متعددة منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، فخضعت لسيطرة حضارات مختلفة بداية من الحثيين ثم الآشوريين والعرب فالمغول ثم المماليك والعثمانيين، الذين جعلوها المدينة الثالثة عندهم، وتركت جميع هذه الحضارات أثرا تراثيا في معالمها.
واضطلعت المدينة بدور حضاري بارز في المجالين العسكري والتجاري، وتفوقت بهما في كافة العصور والحضارات التي قامت في شمال بلاد الشام وما وراء النهرين منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. وتقول اليونسكو إن عمر حلب يتجاوز 12200 عام، أي أنها أقدم من مدينتي دمشق وأنطاكية.
وتعود أهمية حلب الإستراتيجية لكونها نقطة وصل رئيسة بين الشرق والغرب، كما ظلت طوال عهودها الغابرة مركزا سياسيا واقتصاديا ودينيا وحيويا مهما بسبب توسطها بين العالمين الشرقي والغربي.
وفضلا عن كون حلب نقطة التقاء حضاري وثقافي بين الشرق والغرب، كانت أيضا ملتقى للقوافل التجارية ومفتاحا للمبادلات التجارية بين الطرفين.
الموقع
تنقسم محافظة حلب بحسب التقسيم الإداري إلى 10 مدن أكبرها حلب، وثماني مناطق و40 ناحية وعشرات القرى، وتعد أهم مركز صناعي في سوريا، إضافة إلى أهميتها التجارية والزراعية، وتلقب مدينتها حلب بالشهباء، وهي من أقدم وأشهر مدن العالم.
تمتد مساحة المحافظة إلى 18 ألف كيلومتر ونصف كيلو متر مربع، بينما تبلغ مساحة عاصمتها (حلب) 190 كيلومترا مربعا، وتتميز بتنوع تضاريسها من سهول وتلال وأراض خصبة، إذ تقع وسط مفترق بين الفرات والبحر المتوسط.
وتتميز المنطقة بمناخ شبه قاري تصل فيه الرطوبة إلى 58%، وتحجب سلاسل الجبال القريبة من البحر المتوسط المناخ المتوسطي عنها، وتتراوح درجات الحرارة فيها بين 18 و20 درجة مئوية، وتهطل فيها الأمطار بين شهري أكتوبر/تشرين الأول ومارس/آذار بمتوسط 385 مليمترا.
السكان
يبلغ تعداد سكان المحافظة الأكثر اكتظاظا في سوريا أكثر من 4 ملايين نسمة حسب المركز السوري للإحصاء لعام 2011، وتعد المدينة من المدن ذات الغالبية السنية، وبها عدد من العلويين والمسيحيين، وتقطنها أعراق مختلفة من الأرمن الذين لجؤوا للمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، وكان عددهم حينها 50 ألفا، بالإضافة للأكراد الموجودين في ريف حلب وعدد من التركمان القاطنين بالقرى الشمالية.
التسمية
ذكرت حلب باسمها هذا لأول مرة عام 1800 قبل الميلاد في الكتابات المسمارية التي اكتشفت في مملكة إيبلا، وفي الألفية الثالثة قبل الميلاد كانت تسمى "أرمان" و"هليا"، وفي الكتابات الأشورية ذكرت باسم "خلابا وخلوان"، وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد ذكرت باسم "خرب" و"خلبو" و"حلبو".
وبعد انقسام مملكة الإسكندر المقدوني عرفت باسم "بيروا" على اسم مسقط رأس أبيه الإسكندر، وهو اسم يعني بالإغريقية "أرض النحاس"، وبقيت تعرف بهذا الاسم في العصور التي تلتها في اليونانية والرومانية والبيزنطية، وقيل إن من بنى المدينة اليوناني سلوقس الأول نيكتور.
وعندما صارت عاصمة لمملكة يمحاض الأمورية عام 1800 سميت بحلب (حلبا)، وقيل إنها كلمة معربة من أصلها السرياني الذي يعني "المدينة البيضاء" لشدة بياض صخرها وتربتها، وذكر آخرون أنها آرامية.
وقيل إن اسم "حلب" ينحدر من أصل سامي قديم قصد به وصف موقع معبد لإله العاصفة "حدد" في الشرق الأدنى، وقد اكتشف مكانه أواخر القرن العشرين، وما بقيت منه إلا آثار بسيطة مدفونة في قلعة حلب.
وذكر ياقوت الحموي أنه قيل إنها سميت بذلك لأن نبي الله إبراهيم عليه السلام كان "يحلب فيها غنمه ويتصدق به فيقول الفقراء: حلب حلب"، لكنه لم يرجح ذلك لأن نبي الله وأهل الشام حينها لم يكونوا عربا، ورجح أن أصلها عبراني أو سرياني، وهي لغات تشابه كلام العرب.
وفي الرواية نفسها تقريبا، علل سبب تسميتها بـ"حلب الشهباء" أنها في أصلها تعود لنبي الله إبراهيم، الذي كان يملك بقرة أسماها الشهباء لشدة بياضها، وكان يسكن حلب، ولما كان يحلبها كان الناس يتسابقون لشرب حليبها وهم يقولون "حلب الشهباء".
وقيل إن "شهباء" أصلها عربي، إذ تعني بالعربية "شديد البياض" ولمّا حاول العرب تفسير معنى حلب من السريانية أضافوا لها كلمة الشهباء للدلالة على بياض تربتها.
التاريخ
تعد حلب من أقدم المدن المأهولة في التاريخ، ومع ذلك يظل عمرها الدقيق مجهولا، ويقال إن سكانها الأوائل بنوا منازلهم على تل وسط المدينة الحديثة، لكن يصعب تحديد عمرها، خاصة وأنها كانت مأهولة باستمرار منذ القدم.
قبل الألفية الثالثة قبل الميلاد لم تكن حلب مدينة، إنما منطقة لها صلات بمملكة إبلا، ثم هدمت "أرمان" كما كان يطلق عليها الآكاديون مع مملكة إبلا في القرن 23 قبل الميلاد.
صارت فيما بعد عاصمة للدولة العمورية الواسعة "يمحاض" التي وجدت في القرنين الـ18 والـ19 قبل الميلاد، ومنذ ذلك التاريخ كانت لمدينة حلب أدوار مهمة في التاريخ الإنساني.
خضعت بعدها لحكم الحثيين ثم للمصريين وبعدها الميتانيين، قبل أن تعود لأيدي الحثيين، وحينها حصلت على استقلالها باعتبارها إمارة حثية، إذ كانت ذات أهمية مقدسة لوجود مركز عبادة إله العاصفة المقدس لديهم، إلى أن غزاها الآشوريين ثم سيطر عليها الفرس الأخمينيون.
ثم في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد احتلها السلوقيون وأسسوا مستعمرة مقدونية أطلقوا عليها اسم بيرية، وصارت من أهم المدن في الفترة الهلنستية ومركزا تجاريا بارزا بين البحر المتوسط وأراضي أقصى الشرق، وأطلق عليها قنصل فرنسا حينها "ملكة الشرق". ضمّت في القرن الأول قبل الميلاد إلى مقاطعة سوريا، وقيل إن الاستيطان اليهودي فيها بدأ حينها.
وفي العهد المسيحي أصبحت حلب أبرشية، وأقيمت فيها كاتدرائية ما زالت قائمة حتى اليوم، وصارت المدينة الثانية بعد أنطاكية وذكرت في العهد القديم باسم "حلبون"، وصارت مركزا لحركة القوافل خلال الحكم البيزنطي، قبل أن ينهبها الملك الفارسي الساساني خسرو الأول عام 540 ميلادي.
الفتح الإسلامي
فتحها المسلمون عام 636 للميلاد (16 للهجرة) على يد الصحابيين الجليلين أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، وحينها أعيد لها اسمها القديم "حلب"، وازدهرت في العهد الإسلامي، خاصة في الشأن الثقافي، وكانت من أهم المدن في الفترة الأموية.
واستطاع المسلمون نشر اللغة العربية والإسلام بوقت قصير، إذ تعد اللغة السريانية غير بعيدة عن العربية، واستمرت السريانية حاضرة في العهد الأموي ثم العباسي، وفيه بلغت الحضارة الإسلامية في حلب أوجها فكريا وحضاريا وثقافيا، وتميزت حينها بألبستها وعمرانها ومساجدها.
وبلغت حلب "عصرها الذهبي" في فترة الدولة الحمدانية مطلع القرن العاشر الميلادي، حيث كانت عاصمة لها وقبلة لعلمائها وشعرائها، وشهدت المدينة حينئذ ازدهارا كبيرا في مجالات العلم والطب والأدب، ومنها أيضا قاد سيف الدولة الحمداني معاركه الكثيرة ضد الروم، وقد خلد تلك الفترة وما حفلت به من مآثر وأمجاد عدد من أبرز شعراء العرب، على رأسهم أبو الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني.
حاصرها البيزنطيون حصارا خانقا عام 962 ميلادي واحتلوها وأحرقوا مساجدها ودمروا بيوتها وقتّلوا سكانها، وارتكبوا فيها مجزرة كبيرة، وأسروا عددا كبيرا من نسائها وأطفالها. ولم ينجُ من بطشهم إلا من لجأ لقلعة حلب من العلويين والهاشميين والكتاب وأصحاب الأموال، وذلك قبل تسوير "المدينة القديمة"، ورغم حصارهم للقلعة إلا أنها استعصت عليهم فغادروا المدينة بعد أسابيع بعد أن سمع ملكهم نقفور الثاني بمؤامرة تحاك ضده في القسطنطينية.
أعقب تلك الفترة وضع مضطرب وحرب مستمرة أججتها الصراعات المحلية المستمرة حول السلطة، حتى صارت في القرن الثاني عشر مركزا للمقاومة الإسلامية ضد الحصار الصليبي عام 1124، وحينها برز عماد الدين زنكي الذي صمد أمام الحصار وصار ملكا عليها عام 1129.
تولى نور الدين الحكم خلفا لأبيه، وعند وفاته سيطر الأيوبيون عليها، وتحت حكمهم شهدت ازدهارا استثنائيا وعادت مكانتها التجارية باعتبارها مركزا بين أوروبا وآسيا، وأعادوا بناء قلعتها ووسعوا أسواقها وضواحيها، وأنشؤوا المدارس السنية لوقف انتشار المذهب الشيعي الذي نشره الحمدانيون.
هجوم مغولي متكرر
عام 1260 سيطر المغول على حلب وعاثوا فيها فسادا وقتلوا شعبها، لكن احتلالهم لم يطل، إذ أخرجهم المماليك وأعادوا المدينة للحكم الإسلامي، ثم أعلنوا انفصالها عن الدولة المملوكية المركزية.
عاد المغول مجددا وهاجموا حلب عام 1271 ميلادي بعدما استولوا على الأناضول وقضوا على التركمان، فعاد الظاهر بيبرس وواجه المغول وهزمهم وأخرجهم منها.
محاولات المغول الاستيلاء على المدينة لم تتوقف عند تلك المرة، إذ عادوا مرة ثالثة عام 1280 ميلادي، ودمرّوها وعاثوا فيها فسادا وهدموا جوامعها وأسواقها فأرهبوا سكانها الذين نزحوا هروبا من بطشهم إلى دمشق، فجهّز القائد المملوكي سيف الدين قلاوون جيشا مهولا ما إن رآه المغول حتى فروا إلى ما وراء نهر الفرات.
بقيت حلب تعاني إثر تفشي الطاعون فيها عام 1348، وبعدها عام 1400 هاجمها القائد المغولي تيمورلنك ودمرها وذبح كثيرا من سكانها، وقيل إنه أمر ببناء تلة من 20 ألفا من جماجم القتلى.
وبعد خروج المغول، بدأ المسلمون يعودون لها تدريجيا، وأنشأ المسيحيون حي "الجديدة" خارج حدود السور الشمالي للقلعة، وصارت منطقتهم نقطة الوصل بين تجار حلب وما خارجها، وساعدهم بذلك تمتعهم بحماية نسبية من الممالك الصليبية آنذاك في القدس وأنطاكية.
الحكم العثماني
في القرن الخامس عشر حكمها العثمانيون وأعادوا لها مكانتها فتنامت أهميتها حتى صارت ثالث أهم مدينة عثمانية بعد القسطنطينية والقاهرة ومركز ولاية حلب وعاصمة سوريا والمدينة الرئيسية للتجارة بين الشرق والغرب، ولمّا كانت السفارات الغربية واقعة في إسطنبول كانت المهام القنصلية الرئيسية تتم في حلب، وتعداد سكانها حينئذ 50 ألفا.
وأعاد العثمانيون بناء سوق حلب ووسعوه، وصار يستقبل الحرير الفارسي والفلفل الهندي، وصارت فيها قنصليات ومكاتب تجارية أوروبية، فصارت مكانا نشطا حيويا، إلى أن تم افتتاح قناة السويس التي أعادت دمشق للواجهة عاصمة لسوريا.
وبعد معاهدة لوزان وسايكس بيكو في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عزلت حلب عن أبرز الأقاليم المجاورة لها مثل العراق وتركيا والمدينة الساحلية إسكندرونة، التي زادت من عزلتها عام 1939 إذ حرمتها من مينائها الرئيسي.
ورغم ذلك استمرت في تطوير قطاع التصنيع حتى نافست العاصمة السورية دمشق، وزاد عدد سكانها مع بداية القرن العشرين وشهدت هجرات مكثفة.
عام 1920 بدأت مرحلة الانتداب الفرنسي، وقسمت سوريا إلى ولايات ليسهل التحكم بها وبالسوريين، ثم بعد ثلاثة أعوام اقترح إقامة "فيدرالية ولايات سوريا"، وحددت حلب عاصمة لها، لكن سرعان ما غيّرت إلى دمشق، وترأسها الحلبي صبحي بركات.
عام 1924 حُلّت الفيدرالية، وصارت حلب ودمشق ولاية واحدة، وتركت اللاذقية ولاية لوحدها (للعلويين) خوفا من النزعات الثورية، ثم بعدها بعام قامت الثورة السورية الكبرى في السويداء، فأعلن البرلمان الحلبي بالتزامن معها الانفصال عن دمشق.
خرجت ثورة من حلب بقيادة إبراهيم هنانو، وأحبطت المشروع الفرنسي بالاحتجاجات والمظاهرات وقطعت الطرق المؤدية إلى البرلمان يوم التصويت لمنع أعضائه من الوصول والتصويت على قرارهم المتوقع. وفي عام 1930 كانت حلب جزءا من الجمهورية السورية.
ما بعد الاستقلال
استقلت سوريا عن فرنسا عام 1936 وقامت حكومة الملك فيصل، وكانت حلب بعد الاستقلال لاعبا بارزا في الأحداث السياسية، وكان أول رئيس حكومة وطنية الحلبي سعد الله الجابري تبعه ناظم القدسي ومعروف الدواليبي.
ويعد أمين الحافظ الحلبي الوحيد الذي تقلد منصب رئيس الجمهورية بدعم من حزب البعث في 27 يوليو/تموز 1963.
ونشأت في حلب عدة حركات منها "حزب الشعب" بقيادة رشدي كيخيا وناظم القدسي عام 1948، وحركة "الإخوان المسلمون" في سوريا عام 1937.
حلب والثورة
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 حضرت حلب في المشهد السوري، إذ خرجت أول مظاهرة حاشدة ضد نظام بشار الأسد بحي الصاخور يوم 12 أغسطس/آب 2011 في جمعة أطلق عليها الناشطون اسم "لن نركع إلا لله"، ثم توالى تباعا خروج السوريين في مظاهرات مناوئة للنظام.
في منتصف يوليو/تموز 2012 سيطر الجيش السوري الحر على نحو 70% من المدينة تشمل أكثر من ثلاثين حيا تشكل النصف الشرقي من حلب، وبعضها يقع في الجزء القديم والتاريخي من المدينة.
شكلت الأحياء الشرقية -التي تصنف فقيرة مقارنة بالأحياء الغربية الواقعة تحت سيطرة النظام- هدفا دائما لقصف جوي ومدفعي استمر بين عامي 2012 و2014، وفي بداية 2014 بدأت قوات النظام السوري بقصف حلب بالبراميل المتفجرة، مما دفع حينها نصف مليون من سكانها إلى النزوح.
ومنذ الأسابيع الأولى للتدخل العسكري الروسي في سوريا مطلع سبتمبر/أيلول 2015 كان نظام الأسد واضحا في إعلانه أن استعادة حلب هي هدفه الأول، ليبدأ بعدها بشهر حملة كبيرة لاستعادة السيطرة على كامل المدينة.
في يوليو/تموز 2016 سيطرت قوات النظام على طريق الكاستيلو لتصبح حلب أكثر المناطق المحاصرة من حيث كثافة السكان في مساحة لا تتجاوز ثلاثين كيلومترا مربعا.
وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أطلقت "غرفة عمليات الفتح المبين"، وهي فصيل معارض للحكومة السورية، عملية "ردع العدوان"، وقالت إنها تهدف إلى توجيه "ضربة استباقية لقوات النظام السوري"، وتعدّ أول اختراق لخطوط التماس بين الطرفين في محافظة إدلب منذ الاتفاق "التركي الروسي" لوقف إطلاق النار في مارس/آذار 2020.
واستطاعت المعارضة السورية في الأيام الأولى من المعركة السيطرة على مدينة حلب ومواقع إستراتيجية مهمة فيها، منها مقرّ الفوج 46، وبلدة خان العسل ومركز البحوث العملية وقلعة حلب والجامع الأموي، إضافة إلى محافظة إدلب بالكامل.
الاقتصاد
تعد مدينة حلب المدينة الثانية بعد العاصمة دمشق، والعاصمة الاقتصادية لسوريا، عرفت واشتهرت بصناعاتها العريقة المعروفة منذ القدم كصناعات النسيج والقطن وحياكة الحرير وصناعة صابون الغار، الذي يعد من الأجود في العالم، وصناعات زيت الزيتون والصناعات الغذائية.
كما تشتهر حلب بأنواع كثيرة من المنتجات والصناعات التقليدية كصناعة الجلود والصوف والفواكه المجففة، والنقش على الزجاج والنحاس.
وتعد المدينة مركزا تجاريا في مجال الزراعة، إذ تنتج القمح والقطن والشعير والخضروات والفواكه والمكسرات والسمسم، وتختص بالفستق الحلبي، الذي تشتهر به وتصدره عالميا. إضافة إلى الصناعات الحديثة المتطورة بكل أنواعها.
وتطورت هذه الصناعات في العصر الحديث لتشمل الأجهزة الكهربائية بأنواعها والمعدات والآلات الصناعية وصناعة هياكل السيارات وقطع الغيار والسيراميك والملابس الجاهزة والبلاستيك والصناعات الكيميائية.
معالم
لأهميتها التاريخية الكبيرة فقد صنفت منظمة اليونسكو مدينة حلب ضمن المدن التاريخية لاحتوائها على أكثر من 150 من عيون الآثار التاريخية لمختلف الحضارات الإنسانية التي عاشت في المدينة وتعاقبت على حكمها حتى اليوم، منذ عصور ما قبل التاريخ إلى الحكم الإسلامي.
ثم في عام 1986 سجلت "حلب القديمة" بالسجلات الأثرية وعدت من المعالم التي لا يجوز هدمها أو تغيير معالمها أو مواصفاتها إلا بإذن من الجهات الأثرية العالمية.
وقد اشتهرت مدينة حلب بأسواقها المتنوعة التي سميت بأسماء الحرف والصناعات، مثل سوق العطارين وسوق الحدادين وسوق النحاسين، وتعد أسواقها الشرقية واحدة من أطول الأسواق الأثرية المسقوفة بالعالم إذ تمتد لمساحة تزيد عن 15 كيلومترا، كما عرفت أيضا بمساجدها وكنائسها، ومن أهم مساجدها وجوامعها الجامع الكبير الذي بني في العهد الأموي.
ولوقوعها على مفترق طرق تجارية متعددة منذ الألفية الثانية قبل الميلاد بنيت فيها آثار حضارية مازالت قائمة رغم تهديدات القصف المستهدفة لها منذ اندلاع الثورة السورية.
وتعرف المدينة بأسوارها وأبوابها وقلاعها العظيمة، وعند الحديث عن "حلب القديمة"، لا بد من الحديث عن أبوابها، وأبرزها:
- باب الحديد: وسمي بذلك لأن المحال التي كانت بجانبه يصنع فيها الحديد، وما تزال قائمة والحدادون بجواره، وعرف أيضا بباب بنقوسا، وبناه قانصوه الغوري عام 1059 هجرية.
- باب أنطاكية: وهو الباب الذي دخل منه المسلمون لفتح حلب، ويعد أقدم أبواب حلب وأعرقها، ويصل بأنطاكية عاصمة سوريا حينها، وقد هدمه ملك الروم نقفور عام 351 هجرية، فعاد سيف الدولة بعد عامين وأعاد بناءه.
- باب النصر: وسمي سابقا بباب اليهود، إذ كانت محالهم من داخله ومقابرهم خارجه، فَكَرِه الملك الظاهر غازي اسمه هذا فهدمه وأعاد بناءه وسماه النصر.
- باب قنسرين: وهي كلمة عمورية تعني قن النسور، يتألف من أربعة أبواب، وقيل إن من بناه سيف الدولة الحمداني، ورممه المماليك من بعده.
- باب النيرب: ويصل إلى قرية النيرب التي سمي باسمها، ويقع بقرب جامع التوبة، وبناه الملك الأشرف برسباي، وبقي حتى ثلاثينيات القرن الماضي قبل أن يهدم وتزال آثاره.
- باب الأربعين: قيل إنه سمي بذلك لخروج 40 ألفا منه ولم يعودوا، وقيل لقربه من مسجد فيه 40 عابدا.
- بالإضافة لأبواب أخرى اندثرت مثل باب الأحمر والجنان، الذي كان مركزا لتحويل النقود وشحن البضائع، وباب دار العدل والسعادة والسلامة والصغير والعراق والفراديس والفرج والمقام.
الجامع الأموي الكبير
يعد الجامع الأموي من أكبر جوامع المدينة وأهم معالم الحضارة الإسلامية فيها. بناه الأمويون ويطلق عليه البعض "جامع زكريا"، إذ قيل إن بعضا من جسد نبي الله زكريا دفن فيه. يشبه المسجد في بنائه المعماري مسجد دمشق، وله 4 أبواب، الباب الشمالي القريب من مئذنته، والباب الغربي الموصول بشارع المساميرية، والباب الشرقي ويصل بسوق المناديل، والباب الجنوبي وينتهي إلى سوق النحاسين. ويتميز بصحنه الواسع ذي الأروقة الثلاثة، والمغطى ببلاط رخامي أصفر وأسود وضعه العثمانيون.
الخانات
تتميز أسواق حلب بمداخلها المقنطرة التي تعد الأطول في الشرق الأوسط، وتقع شمال الساحة الواقعة أمام المسجد الأموي، ومن أهم خاناتها "خان الحرير" الذي يعد أشهرها بالعصرين المملوكي والعثماني، يعود بناؤه إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر، وسمي باسمه نسبة إلى التجار الهنود الذين ينزلون فيه.
ومن الخانات الأخرى خان الجمرك، الذي بناه الوالي العثماني إبراهيم خان باشا عام 1574 ميلادية ويعد أجملها. وله بوابة كبيرة مزخرفة، وكان مقرا للفرنسيين والإنجليز والهولنديين. بالإضافة لخان الوزير الذي بني خلال الحكم العثماني عام 1683 ميلادية، ويقع بين قلعة حلب والجامع الأموي.
مدرسة فردوس
في المدينة عدة مدارس وقفية أثرية شهيرة بها منها مدرسة الشاذبختية والشعبانية والطرنطائية والظاهرية البرانية، وتعد مدرسة الفردوس من أجمل مباني حلب الوقفية وأكبرها، بنتها زوجة الملك الظاهر غازي ضيغة خاتون عام 1236 ميلادي.
تتميز بشكل باحتها المربعة والمزينة بأشكال هندسية وبوسطها بركة ماء مثمنة أيوبية، وفي 3 من زواياها أعمدة مزينة بتيجان مزخرفة، وفي واجهتها الشمالية إيوان خارجي مفتوح على الشارع، وفي أعلى منتهى مدخلها نصف كرة وثلاثة صفوف من المقرنصات وعلى جانبيها آيات قرآنية.
قلعة حلب
تعد قلعة حلب التي بنيت في القرن الـ13 من أهم معالمها التاريخية، ومن أهم القلاع في العالم، إذ تعد من أقدم القلاع في التاريخ، وتقع وسط المدينة على ارتفاع عشرات الأمتار عن مستوى بقية المدينة، وظلت للقلعة طوال الفترات التاريخية أهمية عسكرية وإستراتيجية كبيرة. وأدرجتها اليونسكو على لائحة التراث العالمي عام 1986.
يصعد الزوار للقلعة عبر جسر مدرج في وسطه بوابة مرتفعة، ويحيط بها سور شبه دائري عليه 6 أبراج بنيت في حضارات مختلفة، وداخل السور مدينة متكاملة فيها مبان ومساجد وقاعات ومخازن وساحات ومسرح وحوانيت وقصر، وعنيت القلعة بالعانية الكبيرة طوال التاريخ، منها ما كان في عهد السلطان الظاهر الغازي بن صلاح الدين الذي بنى البوابة الرئيسية وبعض المنشآت والجامع الكبير داخل القلعة.
وتطل عبر نوافذ أبراجها على الأسواق والمدارس الواقعة ضمن "المدينة القديمة" المسورة، وتداولتها الحضارات التي حكمت المنطقة بداية من مملكة يمحاض الأمورية والحيثية والآرامية والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطينية ثم الحضارات الإسلامية.
أخذت مكانتها حصنا على يد سلوقس نيكاتور الأول، ثم ظهرت أهميتها الدينية لما صارت تحت حكم الرومانيين عام 64 قبل الميلاد إذ بنوا فيها كثيرا من المعابد المخصصة لآلهتهم، ثم عاد البيزنطيون واستعملوها حصنا في مواجهة الغزو على المدينة، وكان السكان يلجؤون لها كلما تعرضت المدينة للهجوم.
لذا نالت اهتماما خاصا بالترميم من البيزنطيين قبل أن تفتح على يد الصحابيين أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، اللذين باشرا بإصلاحها إثر الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة حينها.
وتعرّضت القلعة لزلزال آخر في القرن الثاني عشر عام 1138 عدّ أحد أقوى الزلازل في التاريخ فتضررت كثيرا، فأعاد نور الدين زنكي بناء أسوارها وقلعتها، وحينها أخذت شكلها الحديث.
عام 1183 ميلادي فتحها صلاح الدين الأيوبي وعيّن ابنه واليا عليها، وبلغت حينها في عهده أوج ازدارها وتحصينها، لكنها دمرت وتضررت بشكل بالغ على يد المغول وعلى رأسهم هولاكو عام 1260 ميلادي. ثم عادت ورممت في العهد المملوكي والعثماني، قبل أن تهمل من حينها.
أعلام
خرج من رحم المدينة رموز وأعلام كثر، تميزوا معظمهم في الشعر والنثر والثقافة والآداب والدراسات الإسلامية، وبقيت منذ حينها مركزا للشعر العربي والفكر، ومن هؤلاء:
- البحتري
الوليد أبو عبادة، ولد عام 821 بمدينة منبج الواقعة بين نهر الفرات وحلب، بدأ نظم الشعر في السادسة عشرة من عمره وتتلمذ على يد أبي تمام الطائي، وصار أحد أشهر الشعراء العرب في العصر العباسي، ويقال لشعره "قلادات الذهب"، ولمّا سئل أبو العلاء المعري أي الثلاثة أشعر (يقصدون بين المتنبي وأبو تمام والبحتري)، فقال "المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري"، توفي عام 897 ميلادي.
- مصطفى العقاد
مخرج ومنتج سينمائي، ولد في حلب عام 1935، وعرف بفيلم الرسالة الذي أنتجه وأخرجه عام 1976 بنسختين عربية وإنجليزية، أتبعه العقاد بفيلم "أسد الصحراء" عام 1981 وكان الفيلم الذي جسد السيرة النضالية للبطل عمر المختار، واغتيل في الأردن عام 2005.
- ابن يعيش النحوي
ولد أبو البقاء يعيش بن علي في حلب وعاش فيها، ويعرف بابن الصائغ، يعد من كبار علماء اللغة العربية، ذهب إلى الموصل وأقام فيها قليلا وتتلمذ على يد علمائها، ثم توجه إلى دمشق والتقى بأبي اليمن الكندي الذي أقر له بعلمه ومكانته، ثم عاد لحلب ودرّس بها وتوفي فيها عام 1184 ميلادي.
- بهاء الدين النحاس
أبو عبد الله النحاس الحلبي المصري، لقب بـ"حجة العرب" و"شيخ العربية بالديار المصرية" وعرف ببهاء الدين، كان نحويا من العصر المملوكي سكن مصر وأصله من حلب التي ولد فيها عام 627 هجرية وتتلمذ على يد علمائها أمثال ابن مالك، وغادرها بعد 30 عاما لما استولى المغول عليها.
- سليمان الحلبي
ولد سليمان بن محمد أمين الملقب بـ "الحلبي" عام 1777، بقرية كوكان في حلب. وهو طالب أزهري ينسب إليه اغتيال الجنرال "كليبر" قائد الحملة الفرنسية على مصر في عهد نابليون بونابرت.
أنزلت به أبشع العقوبات، ومازالت جمجمته محفوظة في أحد متاحف باريس لأكثر من قرنين، رغم المطالبات الشعبية العربية بإعادتها وما بقي من رفاته لدفنه بمسقط رأسه.
- سعد الله الجابري
سياسي سوري بارز، من عائلة حلبية كانت ذات نفوذ كبير في المجالين السياسي والاجتماعي، بعد مرحلته الثانوية ذهب لإسطنبول وأكمل تعليمه في الكلية الملكية السلطانية.
عمل مجندا لدى الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وبعدها عاد إلى حلب لإكمال مشروع الاستقلال بعد إقامة الحكومة العربية في سورية برئاسة الشريف حسين، وبدأ بعدها التوغل الفرنسي لتطبيق معاهدة سايكس بيكو فشارك في ثورة إبراهيم هنانو ضد الوجود الفرنسي. توفي عام 1947.
- محمد علي الصابوني
ولد الصابوني في حلب عام 1930، تعلم أولا على يد والده جميل الصابوني أحد كبار علماء حلب، ثم عند محمد سعيد الإدلبي ومحمد راغب الطباخ.
ابتعثته وزارة الأوقاف السورية ليدرس في الأزهر الشريف على نفقتها، وحصل على درجة التخصص "العالمية" في القضاء الشرعي عام 1954.
ثم عمل أستاذا في حلب وبعدها انتدب عام 1962 للتدريس بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وكلية التربية في مكة المكرمة قرابة ثلاثة عقود، وكان له درس يومي في المسجد الحرام.
عينته بعدها جامعة أم القرى باحثا علميا في مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، ثم عمل بعد ذلك في رابطة العالم الإسلامي مستشارا في هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
تولى رئاسة رابطة العلماء السوريين، وبلغ عدد مؤلفاته 57 كتابا، أبرزها "صفوة التفاسير" إضافة إلى "مختصر تفسير ابن كثير"، و"مختصر تفسير الطبري"، و"التبيان في علوم القرآن"، و"روائع البيان في تفسير آيات الأحكام"، و"قبس من نور القرآن". وتوفي عام 2021.
- عثمان طه
خطاط مصحف المدينة المنورة، ولد في ريف حلب عام 1934 وترعرع فيها وكبر، وتتلمذ في رحابها على مشايخ الخط العربي في حلب أمثال محمد المولوي ومحمد الخطيب وحسين التركي وعبد الجواد الخطاط وإبراهيم الرفاعي خطاط مدينة حلب. عينه مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف عام 1988 خطاطا وكاتبا لمصحف المدينة النبوية، وخط القرآن 10 مرات بالرسم العثماني وتميز بخطه الفريد.