شبه جزيرة القرم
شبه جزيرة متنازع عليها من قِبل روسيا وأوكرانيا منذ عام 2014م، تقع شرق القارة الأوروبية في شمال البحر الأسود إلى الجنوب من أوكرانيا، وتحيط بها المياه من جميع الجهات، ولا ترتبط بالبر القاري إلا من خلال شريط يبلغ 8 كيلومترات.
بدأ الاستيطان البشري فيها منذ ألف عام قبل الميلاد، وعلى مر التاريخ ازدهرت فيها الكثير من الحضارات، وسكنتها العديد من الشعوب مثل السكيثيين والهون والخزار والبلغاريين والتتار والعثمانيين والروس، ولا تزال تضم أعراقا ولغات وأديانا مختلفة.
تتمتع بموقع إستراتيجي مهم في البحر الأسود، وتمتلك مدخلا إلى مضيق البوسفور والبحر المتوسط، وتلفت الانتباه بمناظرها الخلابة وطبيعتها الفريدة من نوعها، وتزخر بثروة من المعالم التاريخية والثقافية؛ أهلتها لتكون مركز جذب سياحي محلي وعالمي في شمال البحر الأسود.
الموقع والجغرافيا
تقع شبه جزيرة القرم شرق القارة الأوروبية في شمال البحر الأسود إلى الجنوب من أوكرانيا، ويحيط بها البحر الأسود من الجنوب والغرب، ومضيق كيرتش من الشرق وبحر آزوف وخليج سيفاش من الشمال الشرقي.
وللقرم حدود بحرية مع رومانيا وبلغاريا وتركيا وجورجيا، ولا ترتبط بالبر القاري إلا من خلال شريط لا يتجاوز 8 كيلومترات، يربطها شمالا بأوكرانيا، ويفصلها عن روسيا من الشرق مضيق كيرش.
وتقدر مساحتها بـ26 ألف كيلومتر مربع، وتضم ثلاث مناطق رئيسية: المنطقة الأولى تضم الشمال والوسط، بما يشكل حوالي ثلاثة أرباعها، ويتكون من سهل مستو ينحدر بلطف من الجنوب إلى الشمال.
أما المنطقة الثانية فهي شبه جزيرة كيرتش، وهي تقع شرقا باتجاه منطقة كراي الروسية وتتألف من تلال منخفضة، بينما تمثل المنطقة الثالثة الأراضي الجبلية في الجنوب، وتتكون من جبال الألب التي تشكل ثلاث سلاسل موازية للساحل الجنوبي، وتعرف باسم جبال القرم، وتصل إلى ارتفاع 1545 مترا في جبل رومان- كوش.
وطبيعة أرض القرم في معظمها سهلية مستوية؛ إذ تبلغ نسبة السهول حوالي 72% من المساحة الكلية، أما المناطق الجبلية فتبلغ نسبتها 20%، وتتناثر البحيرات في سواحلها الشمالية والغربية، بما يقدر بـ8% من إجمالي مساحتها.
ويزيد عدد البحيرات المالحة عن 50 بحيرة، بالإضافة إلى العديد من البحيرات العذبة وكذلك الأنهار، ويعتبر نهر "سالجر" (Salgir) أطولها، بينما نهر "بلباك" (Belbek) أعمقها. وتكثر التعاريج بسواحلها الشمالية، وتتعدد الخلجان في جنوبها وغربها، حيث توجد الموانىء.
المناخ
تقع شبه جزيرة القرم على حدود الأحزمة المعتدلة وشبه الاستوائية، والتي توفر مناخا معتدلا وعددا كبيرا من الساعات المشمسة سنويا، والمناخ بشكل عام أكثر اعتدالا في المناطق الجنوبية، ومتوسط درجة الحرارة أعلى مما هو عليه في الشمال.
ويعد شهر يناير/كانون الثاني أبرد شهور السنة، ويبلغ متوسط درجات الحرارة فيه حوالي 1.4 درجة مئوية تحت الصفر، أما شهر يوليو/تموز فهو الأشد حرارة، ويقدر متوسط درجات الحرارة فيه بما يقارب 23 درجة مئوية.
السكان
يبلغ عدد السكان الإجمالي حوالي مليوني نسمة؛ وفقا لإحصائيات عام 2023 بحسب مجلس الاتحاد الفيدرالي الروسي، أما التوزيع العرقي للسكان وفقا لإحصائية عام 2014؛ فإن الروس يشكلون أكبر عرقية تسكن الإقليم، وتبلغ نسبتهم 65.20% من العدد الكلي للسكان.
ويأتي ذوو الأصول الأوكرانية في المرتبة الثانية، وتبلغ نسبتهم 15.99% ويقدر تتار القرم "المسلمون" بحوالي 12.59%، وأما التتار فيشكلون 2.32%، بينما ينتمي حوالي 3.90% من السكان لعرقيات أخرى.
وقد كان التتار يشكلون غالبية سكان القرم في مطلع القرن العشرين، ولكن الحروب التي شهدتها المنطقة وسياسات جوزيف ستالين السكانية القائمة على النفي والتهجير حولت التتار إلى أقلية.
ومن جانب آخر؛ فقد زادت نسبة السكان من ذوي الأصول الروسية بشكل مضطرد، إذ أشارت إحصائية عام 2001 إلى أنهم كانوا يمثلون نحو 58% من السكان، بينما انخفض تواجد ذوي الأصول الأوكرانية منذ عام 2001، الذي كان يصل إلى 24%، أما التتار فقد أظهرت الإحصائية تقاربا في حجم تواجدهم.
وفقا للإحصائيات؛ فإن 77% من سكان القرم لغتهم الأم هي اللغة الروسية، و11.4% اللغة التتارية و10.1% اللغة الأوكرانية، واللغة الروسية هي اللغة الرسمية المستخدمة في المؤسسات الحكومية في شبه الجزيرة.
التسمية
كانت شبه الجزيرة تعرف باسم توريكا "Taurica" من قبل الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية، نسبة إلى قبائل التور "Taurians" إحدى القبائل السيميرية التي استوطنت القرم منذ عصور ما قبل التاريخ.
أما اسم "القرم" فقد أطلقه التتار على شبه الجزيرة إبان حكمهم، وهي كلمة تركية تعني "القلعة" أو "الحصن"، وقد يكون مشتقا من التضاريس الطبيعية الوعرة لشبه الجزيرة التي تشبه الحصن.
وبعد سقوط خانية القرم؛ وخضوع المنطقة لسيطرة الإمبراطورية الروسية، حاولت روسيا تغيير الاسم مرة أخرى إلى "توريكا"، ولكن بقي اسم "القرم" مستخدما بشكل غير رسمي.
التاريخ
بدأ الاستيطان البشري في شبه جزيرة القرم منذ حوالي ألف عام قبل الميلاد، وكانت قبائل مختلفة ترتادها عبر التاريخ، وخاصة من المناطق الداخلية من آسيا، ويُذكر أن السيميريين أول من استوطنها، وفي القرن السابع قبل الميلاد احتل السكيثيون منطقة السهوب، وأما شبه جزيرة "كيرش" فقد تعرضت لتأثير يوناني قوي.
وقد وقعت شبه جزيرة القرم تحت سيطرة اليونان والرومان لعدة قرون، ونشأت المستعمرات اليونانية الأولى في شبه جزيرة القرم في القرن السادس قبل الميلاد، وخلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد أنشأ الإغريق مستعمرات على طول سواحل القرم، كان أهمها في "تشيرسونيسوس" بالقرب من "سيفاستوبول" الحديثة، و"بانتيتابايوم" حيث تقع كيرش الآن.
ومع ذلك؛ لم تستطع المستعمرات اليونانية اختراق المناطق الداخلية، وواجهت مقاومة من السكثيين، ولم تتمكن من إقامة علاقات تجارية معهم إلا في وقت لاحق.
وقد خضعت المستعمرات الساحلية ما بين القرن الأول قبل الميلاد والرابع الميلادي للحكم الروماني، وفي هذه الفترة عاشت أيضا قبائل حياة بدوية مثل السرماتيين السكيثيين ومجموعات أخرى مختلفة.
وفي القرن الرابع الميلادي تعرضت القرم لهجمات من قبل قبائل القوط والهون القادمين من شمال أوروبا، وشارك السرماتيون في غارات قبائل الهون، وتراجع بعضهم إلى المناطق الجبلية والشواطئ، وعاشوا مع القوط في مناطق المرتفعات حتى القرن الثامن.
حقبة الحكم التركي
بعد اختفاء هيمنة قبائل الهون، بدأت القبائل التركية المختلفة في الاستقرار على أطراف الأنهار مثل نهر الكوبان ونهر آزوف ونهر الدون، وكانت المستعمرات على سواحل القرم تحت سيطرة الإمبراطورية البيزنطية، ونحو القرن السابع الميلادي بدأت المناطق الداخلية من شبه جزيرة القرم تخضع لحكم الخزر الأتراك.
وخلال تلك الحقبة كان القوط محصورين في المناطق الجبلية، وقد أنشأوا إدارة مستقلة في مدنهم، وقام الخزر تدريجيا بالاستيلاء على مراكزهم وتأسيس إدارتهم الخاصة، وتمت سيطرتهم بشكل كامل على شبه الجزيرة في القرن الثامن.
وبعد انهيار دولة الخزر ظلت في القرم دولة صغيرة من بقاياهم تسمى "خانية الخزر" واستقر البشناق "البوسنيون" في مناطق السهوب حتى شبه جزيرة القرم، وكانت الموانئ على الساحل الشرقي في أيدي قبائل القفجاق التركية.
وفي عام 1239م بدأت هيمنة دولة المغول القفجاق أو ما تعرف بخانية "القبيلة الذهبية" حيث سيطروا على القرم؛ باستثناء بعض مدن الساحل، وبدأ ينتشر الإسلام تدريجيا بين سكان القرم في تلك الآونة، حيث كان للتجار المماليك القادمين إلى المنطقة مسجد يدعى "مسجد السلطان بيبرس".
كما ازدهرت التجارة بين موانئ الأناضول وشبه جزيرة القرم، وخاصة مدينة سوداق، التي أصبحت سوقا للبضائع القادمة من الشمال والجنوب.
وفي القرن الثالث عشر أنشأت جمهورية جنوة بؤرا استيطانية تجارية على طول الساحل، حيث تمكنت في النهاية من السيطرة على تجارة البحر الأسود، وأصبحت مدينة "كفة" مركز مستعمرة جنوة، وانتقلت إدارتها إلى أيديهم، وأبرمت جنوة اتفاقية مع خانات القبيلة الذهبية عام 1380م، بموجبها تم الاعتراف بتبعية "بالاكلافا" إلى "سوداق" لجنوة.
وعقب تفكك دولة القبيلة الذهبية تأسست دولة "خانات تتار القرم" عام 1430، وازداد انتشار الإسلام بين السكان التتار في المناطق الداخلية لشبه جزيرة القرم تحت حكم "أوز بيك" الذي اعتنق الإسلام.
وفي عام 1475 استولى العثمانيون على مستعمرات جنوة على طول الساحل، وأخذوا خانية القرم تحت حمايتهم، وكانت السواحل الممتدة من كيرتش إلى بالاكلافا في شبه الجزيرة تحت السيطرة المباشرة للإمبراطورية العثمانية، وكانت الأجزاء الداخلية من هذا المكان مملوكة لخانات القرم.
وازدهرت المدن والبلدات في شبه جزيرة القرم والجزء الخاضع لسيطرة العثمانيين بمرور الوقت، وزيّنت بالتحف التاريخية، واكتسبت سمة المركز التركي الإسلامي النموذجي، وسيطر الأسلوب والتأثير العثمانيان تدريجيا على النشاط العام في القرم.
وبسبب التمدد الروسي باتجاه الدولة العثمانية، خاض كلاهما سلسلة من الحروب للسيطرة على منطقة البحر الأسود، ومن أبرز تلك الصراعات، الحرب التي امتدت بين العامين 1768 و1774م، والتي اختتمت بمعاهدة "كوجوك كيناركا" عام 1774م، وبموجبها أنشئت دولة تتار القرم المستقلة.
حقبة الحكم الروسي
بقيت القرم تُحكم من قبل خانات تتار القرم نحو 4 عقود، حتى عام 1783م حيث سقطت على يد الإمبراطورة كاترين الثانية ملكة روسيا، وأصبحت أرضا روسية.
وبين عامي 1853 و1856م قامت حرب شرسة بين روسيا والإمبراطورية العثمانية، وشاركت فيها القوات الأنجلو-فرنسية ضد الروس، وسقط في تلك المواجهات أكثر من نصف مليون قتيل، وأعادت هذه الحرب تشكيل أوروبا ومهدت الطريق للحرب العالمية الأولى.
وعقب ثورة 1917م انهارت الإمبراطورية الروسية، ما شجع تتار شبه جزيرة القرم للإعلان عن قيام جمهورية ديمقراطية مستقلة، وجدت القرم نفسها لفترة وجيزة دولة ذات سيادة.
وهذا الأمر لم يدم طويلا، فسرعان ما تم جرها إلى الحرب الأهلية الروسية التي نشبت بين العامين 1918 و1920م، وكانت القرم بمثابة المعقل الأخير للقوات البيضاء (المناهضة للبلشفية)، وأدت هزيمتهم إلى نهاية دولة القرم المستقلة، وباتت عام 1921م "جمهورية القرم الاشتراكية السوفياتية" التابعة للاتحاد السوفياتي، وتتمتع بالحكم الذاتي.
وفي أثناء حكم جوزيف ستالين قمعت الأقليات العرقية، وقد قُتل آنذاك عشرات الآلاف من تتار القرم. وأثناء الحرب العالمية الثانية احتل النازيون شبه جزيرة القرم في أوائل عام 1940م، ولكن ما لبثوا أن طُردوا منها.
وعقب الحرب العالمية الثانية يوم 20 يونيو/حزيران 1946م أصدر مجلس السوفيات الأعلى قرارا بإلغاء جمهورية القرم ذات الاستقلال الذاتي، ورحّل ما تبقى من تتار القرم (حوالي 200 ألف شخص) قسرا إلى سيبيريا وآسيا الوسطى، وخلت شبه الجزيرة من أي وجود للتتار الذين شكلوا العنصر الأساسي لشبه الجزيرة، إذ اتهموا بتعاونهم مع النازيين خلال الحرب.
وتبعا لذلك؛ تم تغيير التركيب الديمغرافي والتاريخي، من خلال جلب الروس والأوكران، كما غُيِّرت 80٪ من أسماء المدن والقرى والبلدات إلى أسماء روسية، وتم تخفيض وضع القرم من جمهورية تتمتع بالحكم الذاتي إلى إقليم من جمهورية روسيا الاشتراكية الاتحادية السوفياتية.
وظلت القرم جزءا من روسيا حتى عام 1954م، حين أهداها الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف إلى جمهورية أوكرانيا السوفياتية آنذاك، بهدف تعزيز الوحدة بين الروس والأوكرانيين.
وعندما أعلن ميخائيل غورباتشوف -آخر زعيم للاتحاد السوفياتي- برنامجه الإصلاحي عام 1988م، بدأ تتار القرم بالعودة إلى بلادهم ولكن بدون حقوق.
حقبة النزاع الروسي الأوكراني
على إثر انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991م أصبحت شبه جزيرة القرم جمهورية مستقلة تابعة لأوكرانيا، وعقد التتار مؤتمرهم الأول، حيث تم تأسيس المجلس الأعلى لتتار القرم ممثلا للشعب التتري، وبالمقابل سعى سياسيون روس في القرم إلى توثيق علاقات شبه الجزيرة مع روسيا وإلى تثبيت سيادتها.
ومن جهة أخرى؛ اتسمت العلاقة بين كييف وشبه جزيرة القرم بالتعقيد، حيث شكّل الروس غالبية السكان في شبه الجزيرة، وأدت حركة استقلال قصيرة العمر في عام 1994م إلى إلغاء منصب رئيس الجمهورية ذات الحكم الذاتي، وزاد نفوذ موسكو في القرم من تعقيد الأمور، خاصة ما يتعلق بأسطول البحر الأسود الروسي وقاعدته في سيفاستوبول.
وعندما أصبح فيكتور يانوكوفيتش (الموالي لروسيا) رئيسا لأوكرانيا عام 2010م، مدد عقد إيجار روسيا للميناء في سيفاستوبول حتى عام 2042م، وسمحت الاتفاقية لروسيا بوضع ما يقارب 25 ألف جندي في سيفاستوبول، والحفاظ على قاعدتين جويتين في شبه جزيرة القرم، وذلك مقابل تخفيضات في أسعار الغاز الروسي.
ونتيجة لذلك، وعلى خلفية إرجاء يانوكوفيتش توقيع اتفاقية التجارة الحرة والشراكة مع الاتحاد الأوروبي؛ اندلعت احتجاجات شعبية في العاصمة كييف يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2013م، واقترنت بأحداث شغب وعنف.
وبعد مظاهرات استمرت لأسابيع، اضطر يانوكوفيتش لمغادرة البلاد في 22 فبراير/شباط 2014م، ليتسلم السلطة من بعده سياسيون موالون للغرب.
عند ذلك تحركت روسيا، وقام مسلحون بملابس عسكرية روسية باحتلال منشآت مهمة في القرم (البرلمان وبعض المطارات)، كما تم تنظيم استفتاء يوم 16 مارس/ آذار 2014م، انتهى بإعلان الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا، ووقع بوتين في 18 مارس /آذار من العام نفسه معاهدة ضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي.
ولكن أوكرانيا والدول الغربية قررت أن الاستفتاء غير شرعي، ولم يعترف سوى عدد قليل من البلدان بشرعية الضم الروسي، وأكدت الأمم المتحدة مرارا أن شبه جزيرة القرم لا تزال جزءا لا يتجزأ من أوكرانيا.
وصنّفت روسيا في نظر القانون الدولي على أنها "قوة محتلة" في شبه جزيرة القرم، ولم يُنظر إلى موسكو على أنها تتمتع بأي مطالب قانونية فيها.
وأعاد هذا الوضع الى الأذهان حقيقة أن ترسيم الحدود بين الشرق والغرب لم ينجز بعد، وذَكّر بأيام الحرب الباردة التي انتهت عمليا بتحطيم جدار برلين عام 1989م.
وفي أيار/مايو 2018 افتتحت روسيا جسرا (جسر القرم) يمتد عبر مضيق كيرتش، مما يوفر رابطا مباشرا بين روسيا وشبه جزيرة القرم، ويمثل الجسر الجانب الأكثر وضوحا للقوة الروسية في البحار حول شبه جزيرة القرم.
ورافق افتتاح الجسر زيادة كبيرة في النشاط البحري الروسي، واحتجزت السفن الروسية بشكل روتيني السفن التجارية المتجهة إلى الموانئ الأوكرانية على بحر آزوف.
الأهمية الإستراتيجية
ظلت القرم لعقود طويلة وطنا لقبائل البدو من آسيا الوسطى، ودار صراع لقرون عدة بين قوى مختلفة من بينها سكان البندقية والرومان والبيزنطيون والعثمانيون والروس للسيطرة عليها، وذلك بسبب أهميتها الإستراتيجية المتمثلة بتحكمها في البحر الأسود، وامتلاكها مدخلا على مضيق البوسفور والبحر المتوسط.
وكانت قيادة هتلر إبان الحرب العالمية الثانية تعلق آمالا كبيرة على القرم بصفتها رأس جسر هام للتوغل إلى آسيا والشرق الأوسط، وكانت شبه جزيرة القرم آنذاك جزءا من أراضي جمهورية روسيا.
وتمثل شبه جزيرة القرم أهمية كبيرة للأمن الروسي الإستراتيجي؛ كونها تحتوي على ميناء "سيفاستوبول" الذي يُعد منذ عصر القياصرة الروس مقر أسطول البحر الأسود الروسي، وهو أكبر أسطول بحري لروسيا؛ ورمز قوتها البحرية.
كما يمثل الميناء قاعدة للانطلاق إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، والتي كانت تشكل هاجسا للحكام الروس على مر التاريخ، وكذلك تؤمِّن التواصل مع القاعدة الروسية في ميناء طرطوس السوري عبر المضائق.
وبعد انضمام تركيا عام 1952م إلى حلف الناتو فقدت قاعدة سيفاستوبول الروسية جزءا من أهميتها؛ نظرا لاحتمال إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه السفن البحرية الروسية.
وقد اضطرت روسيا طوال أكثر من عقدين للقيام بمناورات سياسية لإبقاء أسطولها في سيفاستوبول، عن طريق عقد الاتفاقيات مع الحكومات الأوكرانية التي كانت تتغير من وقت إلى آخر، حتى استطاعت أخيرا ضم القرم لها عام 2014م.
الاقتصاد
تتوفر القرم على موارد طبيعية ومواد خام ووقود أحفوري، إضافة إلى الفحم الصلب والفحم الحجري، كما تحتوي شواطئها في المياه المجاورة للبحر الأسود وبحر آزوف على رواسب النفط والغاز الطبيعي والغاز المكثف، وكذلك تمتلك مخزونا من المنغنيز والحديد.
وحصة المناجم في تطوير الصناعة مرتفعة، والأنشطة الصناعية القائمة على الموارد الجوفية منتشرة على نطاق واسع، وتتركز الصناعات الثقيلة في مدينة كيرتش، وهي مركز تقليدي لتعدين خام الحديد بشكل كبير.
ويمثل الناتج الصناعي حوالي 18٪ من الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي، ويهيمن الغذاء والكيماويات وبناء السفن على هيكل الإنتاج الصناعي، كما تساهم الهيدروكربونات وتوليد الكهرباء بشكل كبير.
وأكبر المؤسسات الصناعية هي السفن الحربية والنفط والغاز والنبيذ والصودا، أما المشاريع الاستثمارية ذات رأس المال المرتفع، والتي يتم تنفيذها داخل المنطقة الاقتصادية الحرة، فهي في مجال هندسة الطاقة والنقل والمنتجعات الصحية والصناعات المتعلقة بها.
وتمثل الزراعة أكثر من 13٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وتلبي احتياجات السكان من معظم المواد الغذائية، وتعد زراعة الكروم أقدم الزراعات، وتشتهر المنطقة بأصناف العنب التي تستخدم في إنتاج النبيذ والخمور والعصائر عالية الجودة.
وتتخصص معظم الأعمال التجارية الزراعية في إنتاج الفواكه والزيوت الأساسية (الورد والخزامى والميرمية) وتربية الماشية.
وتشتمل أراضي القرم على المياه العذبة والمياه المعدنية، والطين المعدني الطبي في بحيرات الملح، بالإضافة إلى الثروة السمكية، حيث تم العثور على حوالي 184 نوعا من الأسماك في مياهها الإقليمية.
الثقافة والسياحة
منحت الجغرافيا والتاريخ والتنوع السكاني شبه جزيرة القرم صفة الفرادة، وتعد الوجهة السياحية المفضلة للأوكرانيين والروس، ولا سيما منتجع يالطا، الذي اشتهر باحتضانه اجتماعا تاريخيا لرئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت ورئيس الاتحاد السوفياتي جوزيف ستالين، إضافة لرئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، للتباحث بشأن مستقبل أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
وتلفت شبه جزيرة القرم الانتباه بمناظرها الخلابة، وطبيعتها الفريدة من نوعها، وتعد المنتجعات الصحية والترفيهية من أولويات التنمية فيها، وتعتمد في ذلك على اعتدال مناخها وهواء البحر والجبل، ومناظرها الطبيعية، وشواطئها الرملية الممتدة، واستخدام المياه المعدنية والطين العلاجي، وتعتبر بحيرة "ساكي" الطبية مستودعا شهيرا للطين العلاجي والمحلول الملحي.
وكذلك تشتمل شبه الجزيرة على ثراء تاريخي وتنوع ثقافي واسع، فهي تحمل آثار السكيثيين والهون والخزر وجنوة وتتار القرم العثمانيين والروس، وتتمتع بثروة من المعالم التاريخية والثقافية، التي أهّلتها لتكون مركز جذب في شمال البحر الأسود.
وتعد العاصمة "سيمفيروبول" مركز الحياة الثقافية، حيث يوجد العديد من المتاحف والكنائس والمساجد، بالإضافة إلى المتنزهات والحدائق.
أما شبه جزيرة "كيرتش" فهي البوابة البحرية للقرم، وواحدة من أقدم المدن في العالم، تحكي أطلال مدينة بانتابايوم القديمة عاصمة مملكة البوسفور، وجبل ميثراداتس وسط المدينة، والذي يحمل اسم الملك الذي حكم المنطقة منذ أكثر من ألفي عام.
وتحتفظ الحجارة الهائلة لقلعة جنوة في مدينة "سوداك" العاصمة الغربية لطريق الحرير العظيم؛ بذكريات قديمة عن الحكم اليوناني والإيطالي.
ويمثل قصر خان في باخشيساراي قطعة فريدة من التراث المعماري للعصور الوسطى، وهو المثال الوحيد لعمارة تتار القرم، ويحتوي أحد أفنيته على ينبوع الدموع، الذي حركت قصته الحزينة الأديب الروسي ألكسندر بوشكين لدرجة أنه كتب قصيدة سردية عنها.