لاهاي مدينة المحاكم الدولية

لاهاي تُلقب بمدينة السلام والعدالة الدولية (شترستوك)

مدينة هولندية ساحلية، هي ثالث أكبر مدينة في البلاد، وعاصمة مقاطعة جنوب هولندا، والمركز الإداري والسياسي في الدولة، ففيها يقع مقر الحكومة والبرلمان والوزارات والسفارات الأجنبية، وهي موطن العائلة المالكة منذ أربعة قرون.

وتلقب لاهاي بـ"مدينة السلام والعدالة الدولية"، إذ تستضيف مجموعة من المحاكم الدولية، بينها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، إضافة إلى مئات المنظمات الدولية الأخرى والمؤسسات المعرفية والوكالات الأوروبية، مثل المكتب الأوروبي للشرطة (اليوروبول) ووكالة العدل الأوروبية (يوروجست).

وتمتاز المدينة بتاريخها العريق إلى جانب التنوع الثقافي وجمال الطبيعة، فضلا عن استضافتها للمؤتمرات الدولية والمهرجانات الثقافية والعروض الفنية التي تمثل مختلف الأفكار والثقافات، وهو الأمر الذي يجعلها نقطة جذب للسياح من أنحاء العالم.

الموقع والجغرافيا

تقع مدينة لاهاي غربي هولندا، وهي مدينة ساحلية، تمتد نحو 11 كيلومترا على طول بحر الشمال، وتقع على أرض منبسطة، تتكون من شواطئ رملية واسعة، تنتهي إلى منطقة من الكثبان الرملية، وتضم مساحات شاسعة من الأراضي الخضراء والغابات.

تقدر مساحتها بنحو 100 كيلومتر مربع، وتتكون من 8 مناطق حضرية، تقسم إلى 44 حيّا، وتعد عاصمة مقاطعة جنوب هولندا، وجزءا من المنطقة الحضرية راندستاد، التي تشكل منطقة اقتصادية مهمة كثيفة السكان.

وتتمتع المدينة بصيف لطيف قصير يمتد ثلاثة أشهر، وشتاء طويل وبارد للغاية، وتتراوح درجات الحرارة السنوية عادة بين درجتين مئويتين و21 درجة مئوية، ونادرا ما تقل عن 5 درجات تحت الصفر أو تزيد عن 26 درجة مئوية.

الفناء الداخلي لأحد القصور بمدينة لاهاي الهولندية (شترستوك)

السكان

يبلغ عدد سكان لاهاي نحو 560 ألف نسمة، وفق أرقام موقع بلدية المدينة لعام 2023، وتعود جذور ما يزيد على نصفهم إلى أصول مهاجرة، تنتمي إلى مناطق مختلفة حول العالم، وتمثل أكثر من 100 مجموعة عرقية.

وتتبنى المدينة التراث الشعبي للمجموعات العرقية المختلفة، وتحتضن العديد من الفعاليات الثقافية التي تعكس هذا التنوع، والتي تتمثل في المهرجانات الموسيقية والفنية والمعارض الثقافية والاحتفالات الوطنية لمختلف الجاليات، وتعمل هذه الفعاليات على تعزيز الروابط بين الأعراق والثقافات المتباينة، وتساهم في تعزيز الحوار الثقافي والاندماج الاجتماعي بين سكان المدينة.

إعلان

مدينة السلام والعدالة الدولية

يعود تاريخ اهتمام لاهاي بالقانون والعدالة الدولية إلى فترة تاريخية مبكرة، حين أقنع القانوني الهولندي توبياس آسر الحكومة الهولندية بتنظيم العديد من المؤتمرات الدولية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ودعوة القوى الأوروبية إليها، بهدف وضع مدونة خاصة بالقانون الدولي.

وأدت تلك الجهود إلى استقبال لاهاي مؤتمرات عدة في القانون الدولي في السنوات 1893 و1894 و1900 و1904، وأسفرت تلك المؤتمرات عن العديد من المعاهدات المهمة.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، تحولت المدينة إلى عاصمة السلام والعدالة في العالم، إذ استضافت مؤتمر السلام الأول عام 1899 على مدى ثلاثة أشهر، وشاركت فيه مئات الوفود من 26 دولة، بهدف وضع معايير لحل النزاعات الدولية، وكان من أهم ثماره تأسيس محكمة التحكيم الدائمة.

ثم استضافت مؤتمر السلام الثاني عام 1907، وبحلول عام 1913، افتُتح قصر السلام في لاهاي، ليكون مقر محكمة التحكيم الدائمة، ولاحقا محكمة العدل الدولية، التي تُعتبر الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة.

وفي بداية تسعينيات القرن العشرين، توجه اهتمام الدول بشكل أكبر نحو التعاون في مجال الأمن والقانون الجنائي الدولي، وفي أقل من عشر سنوات، تم إنشاء العديد من المنظمات الدولية الجديدة، أهمها المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا، والتي تأسست عام 1993، بغرض محاكمة الأفراد بتهمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في يوغوسلافيا السابقة.

وفي العام التالي تأسس المكتب الأوروبي للشرطة (اليوروبول)، ثم منظمة حظر الأسلحة الكيميائية عام 1997، والمحكمة الجنائية الدولية عام 2002، ومركز الذكاء الاصطناعي والروبوتات التابع لمعهد الأمم المتحدة لبحوث الجريمة والعدالة عام 2017، وكلها بات مقرها مدينة لاهاي.

ومع نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، غدت لاهاي، وفقا لموقع بلديتها الرسمي، مقرا لأكثر من 500 منظمة دولية مختلفة، يعمل فيها آلاف المتخصصين في القانون الدولي والحوكمة، ووفرت بيئة ملائمة للباحثين والمهنيين العاملين في مجال القانون الدولي، وفرصة للتفاعل وتبادل الأفكار والخبرات في هذا المجال.

مظاهرة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي للتنديد بالفظائع المرتكبة بحق الفلسطينيين (الأناضول)

الاقتصاد

لاهاي من أسس الاقتصاد الهولندي، إذ تساهم بفاعلية في الناتج القومي بفضل ازدهار مجموعة متنوعة من القطاعات الاقتصادية فيها، كونها مقر العديد من الشركات متعددة الجنسيات والشركات الناشئة في صناعات الطاقة والتمويل والقانون والسياسة والتكنولوجيا والأمن السيبراني.

ويشكل القطاع غير الربحي مرتكزا أساسيا في اقتصاد لاهاي، نظرا لمكانتها المرموقة في العدالة الدولية ودورها المهم في تعزيز اقتصاد المنطقة، إذ جذبت شركات ومنظمات دولية ساهمت في التنمية المحلية.

وقد كشفت تقارير أجرتها شركة "ديسيسو" الهولندية الخاصة بالأبحاث الاقتصادية عام 2019 أن القطاع غير الربحي الدولي في لاهاي ومحيطها وفر أكثر من 40 ألف وظيفة ذلك العام، بما فيها 22 ألف وظيفة في مدينة لاهاي وحدها، بنسبة تصل إلى 11% من إجمالي فرص العمل في المدينة.

إعلان

ويشمل ذلك الوظائف المباشرة، التي توفرها المنظمات الحكومية الدولية والمنظمات الأوروبية والمنظمات غير الحكومية والسفارات والقنصليات والمؤسسات الثقافية والمعرفية والمدارس الدولية ونوادي المغتربين.

إضافة إلى ذلك، يزيد هذا القطاع فرص العمل غير المباشرة، التي تقدمها الشركات المزودة للمنظمات الدولية بالسلع أو الخدمات، مثل الفنادق وقاعات المؤتمرات وشركات سيارات الأجرة والتنظيف والمطاعم.

ويعد قطاع التجارة من أبرز القطاعات التي يعتمد عليها اقتصاد لاهاي، فقد مثلت المدينة مركز جذب لشركات الصيرفة وقطاع خدمات المصارف والتأمين والمعارض والمؤتمرات والفعاليات الدولية.

والمدينة مركز لنشاط الأمن الدولي، وتُعرف بأنها منطقة رئيسية للأمن السيبراني في العالم، وتضم مقار مئات منظمات الأمن السيبراني الوطنية والدولية، مثل: المركز الأوروبي لمكافحة الجرائم الإلكترونية (يوروبول) ووكالة الاتصالات والمعلومات التابعة لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، والمركز الوطني للأمن السيبراني، ودلتا الأمن في لاهاي، التي توظف حوالي 15 ألف محترف، بحسب بيانات مركز لاهاي الدولي.

وتحتضن المدينة مقار العديد من شركات النفط الكبرى، وتشتهر بالطباعة والنشر والإلكترونيات والصناعات الغذائية وإنتاج السيراميك والأثاث والزجاج والعديد من السلع الاستهلاكية الفاخرة.

مدينة لاهاي أصبحت في القرنين الـ17 والـ18 مركزا للدبلوماسية الأوروبية (شترستوك)

التاريخ

يعود تاريخ المدينة إلى العصور الوسطى، حين اتخذها كونتات (نبلاء وأشراف) هولندا منطقة صيد، بفضل غاباتها التي تحتل مساحات شاسعة، لذلك عُرفت آنذاك باسم سياج الكونتات، وكان مقر إقامتهم بالقرب من بركة هوف، التي أصبحت لاحقا تمثل مركز المدينة.

وفي عام 1248، بنى الكونت وليام الثاني في الموقع نفسه قلعة، ثم أضاف مجموعة مبان أخرى، منها قاعة الفرسان، التي شيدت عام 1280، وشكل الموقع ما يُعرف بمجمع بيننهوف، الذي بات المقر الرئيسي لكونتات هولندا في حينها، ولاحقا مقر البرلمان الهولندي.

وفي القرنين الثالث عشر والرابع عشر، نشأت منطقة تجارية حول المجمع، وظل العمران يتوسع حوله بالتدريج حتى تحولت المنطقة إلى قرية، وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر احتلت إسبانيا لاهاي وباقي الأراضي الهولندية، واندلعت حرب استمرت نحو ثمانين عاما، حتى تم طرد الإسبان نهائيا من هولندا، ولكن في تلك الحقبة تعرضت لاهاي مرارا للنهب والتحريق.

وفي عام 1559، اتخذ الحاكم الهولندي وليام الأول لاهاي، التي يطلق عليها محليا دي هاجي، عاصمة لحكمه، وأسس في بيننهوف مع نهاية القرن السادس عشر مجموعة من الهيئات الحكومية، أهمها مجلس الولايات العامة.

وأنشأ ابنه ووريث عرشه موريس عام 1616 شبكة من القنوات حول المدينة، شكلت حدودها حتى منتصف القرن التاسع عشر، وفي تلك الفترة، شُيدت العديد من القصور على الجانب الشرقي من بيننهوف، وأخذت المدينة بالتمدد في عدة اتجاهات لا سيما جنوبا وغربا.

وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، أصبحت لاهاي مركزا للدبلوماسية الأوروبية، إذ تم إبرام العديد من المعاهدات الدولية فيها، وفي عام 1795، خضعت وغيرها من المدن الهولندية للحكم الفرنسي، وفي العام 1806، سلم نابليون بونابرت حكم هولندا إلى أخيه لويس، وحصلت لاهاي حينها على ميثاق مدينة، لكن مقر الحكومة نُقل إلى أمستردام.

ومع منتصف القرن التاسع عشر، استعادت لاهاي أهميتها السياسية، ورغم بقاء أمستردام عاصمة للبلاد، إلا أن لاهاي باتت مقر العائلة المالكة، وموطن العديد من السفارات الأجنبية.

واستمرت المدينة بالتوسع التدريجي حتى مطلع القرن العشرين، حين حدثت طفرة سكانية فيها بفعل الثورة الصناعية، التي جذبت أعدادا هائلة من المهاجرين إلى المدينة، الأمر الذي أدى إلى نموها وتوسعها بشكل كبير.

إعلان

وأثناء الحرب العالمية الثانية، احتلت ألمانيا هولندا، وأصبحت لاهاي مركز الحكم الألماني في البلاد، وفي عام 1945، وبينما أرادت القوات البريطانية ضرب أهداف ألمانية في لاهاي، دمرت 3 آلاف منزل في المدينة وأودت بحياة مئات الضحايا، ومع نهاية الحرب، انسحبت القوات الألمانية من عموم هولندا، بما في ذلك مدينة لاهاي.

المقر الرئيسي للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (شترستوك)

المعالم البارزة

تجمع لاهاي بين التاريخ العريق والتنوع الثقافي والطبيعة الخلابة، فهي تضم معالم تاريخية تعود للعصور الوسطى، تحمل أنماطا معمارية متنوعة، كما تزخر بالمتاحف والمعارض الفنية، وتميز بجمال الطبيعة وتنوع مظاهرها بين الشواطئ الممتدة والغابات الشاسعة والحدائق والمتنزهات.

لذلك تضم المدينة العديد من المعالم البارزة والمتنوعة، والتي تمثل مصدر جذب سياحي، أشهرها:

  • قاعة الفرسان

تُعد المبنى الرئيسي لمجمع بيننهوف، وتحتل مركز الصدارة في الفناء الكبير للمجمع، بُنيت عام 1280، على النمط القوطي، وتتميز بأبراج مزدوجة، وتحتوي على قاعة مقببة كبيرة يبلغ طولها 30 مترا.

وقد استخدمت القاعة لأغراض مختلفة على مر السنين، إذ استخدمها كونتات هولندا في المناسبات الاحتفالية، ولاحقا استخدمت للتجارة والتدريب العسكري ومكتبا للسجلات العامة، ثم أصبحت مقرا للبرلمان الهولندي، وفيها تقام استقبالات رسمية وحفلات عشاء ومؤتمرات.

  • قصر السلام

وُضع حجر الأساس له أثناء مؤتمر السلام الثاني عام 1907، ومول بناءه رجل الأعمال الأميركي أندرو كارنيجي، الذي تبرع بما لا يقل عن 1.5 مليون دولار، وتم تزيين القصر من الداخل بزخارف وأعمال فنية ومنحوتات ولوحات سقفية، ومن الخارج أحيط بحدائق تشتمل على مجموعة واسعة من الأعمال الفنية، التي تعكس فكرة السلام.

دُشن المبنى عام 1913، وأصبح مقرا لمحكمة التحكيم الدائمة، ولاحقا مقر محكمة العدل الدولية وأكاديمية لاهاي للقانون الدولي، إضافة إلى مكتبة ضخمة في مجال القانون الدولي والسلام.

A general view of the exterior of the Peace Palace, seat of the International Court of Justice in The Hague, the Netherlands April 12, 2006.
قصر السلام أصبح مقرا لمحكمة العدل الدولية وأكاديمية لاهاي للقانون الدولي (رويترز)
  • قصر نورتايندة

هو أحد القصور الرسمية الثلاثة للعائلة المالكة الهولندية، كان عبارة عن مزرعة يعود تاريخها إلى العصور الوسطى، وفي عام 1640، وسع الأمير فريدريك هندريك المنزل وزينه، وبعد سقوط حكم نابليون بونابرت عام 1813، تم تعديل المبنى، الذي أصبح قصرا ملكيا رسميا.

  • الكنيسة الكبرى (كنيسة القديس يعقوب)

تقع وسط لاهاي، وهي واحدة من أقدم المعالم التاريخية في المدينة، ويُعتقد أنها أُقيمت في موضع كنيسة خشبية تعود للقرن الثالث عشر، وفي القرن الخامس عشر، تم توسيعها وبناء برج سداسي فيها.

  • متحف موريتشويس

يقع في وسط مدينة لاهاي، وقد تم تشييده في القرن السابع عشر لاستضافة الضيوف رفيعي المستوى، ثم تحول إلى متحف لفنون القرنين السابع عشر والثامن عشر.

يحتوي المتحف على حوالي 800 عمل فني لمجموعة واسعة من الفنانين، أشهرها لوحة "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" للفنان الهولندي يوهانس فيرمير، و"طائر الحسون " للفنان الهولندي كاريل فابريتيوس.

  • منتزه مادورودام (هولندا الصغرى)

افتتح عام 1952، ويعد من أبرز معالم لاهاي السياحية، ويضم نماذج مصغرة لمجموعة واسعة من المدن والمعالم الهولندية الشهيرة.

المصدر: الجزيرة + مواقع إلكترونية

إعلان