أكبر منجم ليثيوم في أوروبا يجعل صربيا حائرة بين أوروبا وروسيا والصين
زاد مشروع إنشاء أكبر منجم ليثيوم في أوروبا بكلفة 2.55 مليار يورو (2.7 مليار دولار) من المخاوف الجيوسياسية في صربيا، وهو مشروع تنفذه مجموعة "ريو تينتو" الأنغلو-أسترالية، وتعتبره الحكومة مهما للبلاد الواقعة في البلقان لرفعها اقتصاديا وتقريبها من الاتحاد الأوروبي، وفق ما ذكرت وكالة بلومبيرغ.
وأصبح المنجم بالغ الأهمية بالنسبة للرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش، الذي يحاول التوفيق بين علاقة بلاده مع روسيا والصين من جهة ومع خطته للتقرب من الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، وفق الوكالة.
ولا تزال خطط "ريو تينتو" خاضعة للتصاريح النهائية، رغم أنها مدعومة من الحكومة الصربية، وزعماء الاتحاد الأوروبي الذين زاروا بلغراد في الأسابيع الأخيرة، فضلا عن المسؤولين الأميركيين.
وكانت "ريو تينتو" قد أعلنت في عام 2021، عن مشروعها لتطوير منجم لليثيوم في منطقة جادار في صربيا، والذي كان من المتوقع أن يكون واحدا من أكبر مناجم الليثيوم في العالم. ويهدف المشروع إلى استخراج الليثيوم، وهو معدن مهم يستخدم بشكل أساسي في صناعة البطاريات القابلة لإعادة الشحن، مثل بطاريات السيارات الكهربائية، وغيرها من التطبيقات التكنولوجية.
وأثارت خطط "ريو تينتو" لإنشاء المنجم جدلا واسعا في صربيا، حيث واجهت الشركة احتجاجات من السكان المحليين ومجموعات بيئية. وكانت الاعتراضات تتركز على المخاوف من تأثيرات بيئية محتملة على المنطقة، مثل تلوث المياه والتربة، التي قد تؤثر على الحياة الزراعية والطبيعة في المنطقة.
نحو الاتحاد الأوروبي
يرى فوسيتش أن المنجم يشكل مفتاحا لزيادة حظوظ صربيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتي تراجعت بسبب عدم اعتراف بلغراد بدولة كوسوفو، وهو شرط من شروط العضوية.
ويأمل الرئيس الصربي كذلك في الحصول على دفعة نحو الاتحاد الأوروبي من عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وقد تحدث الاثنان الأحد الماضي عبر الهاتف بحضور الرئيس التنفيذي لشركة تسلا لصناعة السيارات الكهربائية، إيلون ماسك، المهتم بمناجم الليثيوم.
لكن أحزاب المعارضة عبر الطيف السياسي الصربي والجماعات البيئية تحاول وقف المشروع، قائلة إن التلوث سيدمر المنطقة، وقال السفير الأميركي في صربيا، كريستوفر هيل، إن هذه المخاوف تتزايد بسبب حملة تضليل مدعومة من روسيا، لكن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، نفى ذلك.
ويبدو أن الدعم العام للمشروع من أمثال المستشار الألماني أولاف شولتس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لم ينجح إلا في تحفيز مقاومة المشروع، إذ يتهم المنتقدون فوسيتش وحكومته بالتضحية بالبيئة من أجل الربح.
ووفق بلومبيرغ، فإن الوعود بالازدهار الاقتصادي من إنتاج الليثيوم وفوائد سلسلة القيمة من الإنتاج المحلي للبطاريات والمركبات الكهربائية لم تنجح في تهدئة الكثير من المخاوف.
وقال فوسيتش، الذي قضى أسبوعا في القرى المحيطة بالمناجم في سبتمبر/أيلول الماضي في محاولة كسب القلوب والعقول، في مقابلة أجريت معه بمكتبه في بلغراد في 29 أكتوبر/تشرين الأول: "من الصعب للغاية بالنسبة لي أن أفهم الاحتجاجات المناهضة (لإنشاء المنجم)".
وتحتوي صربيا على 1.2 مليون طن من رواسب الليثيوم، وفقا لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية، وهي الأكبر في أوروبا بعد ألمانيا والتشيك.
وقالت شركة "ريو تينتو" إن المشروع يلتزم بأعلى معايير حماية البيئة بعد دراسة استمرت 6 سنوات ونصف، وستستحدث مرحلة البناء 3500 وظيفة، مع بقاء 1300 وظيفة، وأضافت الشركة أنه بمجرد تشغيل المنجم، يمكن أن يحقق عائدات سنوية تزيد على مليار يورو (1.06 مليار دولار).
الصين على الخط
لكن خطط التوقف والبدء كانت تثقل كاهل فوسيتش المهتم بالانضمام للاتحاد الأوروبي، وأصبحت البلاد أكثر انسجاما مع الصين.
وفي حين أن التكتل الأوروبي هو المستثمر الأكبر في صربيا، زادت الاستثمارات من قبل الصين، إذ تسيطر شركة "زيجين مايننغ" الصينية على سبيل المثال على مشروع ضخم لاستخراج النحاس والذهب.
وبموجب اتفاق بين شركة "ريو تينتو" وحكومة صربيا، سيساعد الليثيوم في إمداد صناعة السيارات في ألمانيا، وقد برزت الاحتجاجات المستمرة -التي تعد من أكبر الاحتجاجات خلال العقد الذي قضاه فوسيتش في السلطة- باعتبارها العقبة الأكبر. فقد أغلق المتظاهرون الجسور والطرق ونددوا بشركة "ريو تينتو" وزعموا أن الاتحاد الأوروبي يعامل صربيا وكأنها مستعمرة.
وقال سافو مانويلوفيتش، زعيم مجموعة كريني بروميني، إحدى مجموعات الاحتجاج إن "المشروع برمته كارثة كاملة"، وهو منزعج من السعي إلى الحصول على الليثيوم "لجعل أوروبا أكثر خضرة، في حين يتسبب في فوضى بيئية في حديقتها الخلفية في البلقان".
وكانت ثمة رحلة طويلة بالنسبة للاكتشاف الذي بدأه الجيولوجيون المحليون منذ ما يقارب من 3 عقود من الزمان عندما كانت صربيا تحت العقوبات بسبب الحروب التي أعقبت تفكك يوغوسلافيا.
ودفعت الاكتشافات المبكرة للمعادن التي تحتوي على الليثيوم والبوريات شركة "ريو تينتو" إلى إنشاء وحدة محلية تابعة لها في عام 2001.
وبحلول عام 2021، تعهدت ريو بتقديم 2.4 مليار دولار لاستخراج معدن الجاداريت الفريد (معدن يحتوي على الليثيوم)، الذي سمي على اسم وادي الجاداري الخصب حيث تم العثور على الرواسب، وقد زادت الكلفة منذ ذلك الحين.
مشاكل متزايدة
بحلول ذلك الوقت، كانت المشاكل تتزايد بالفعل، فكان الناشطون الصرب يدقون ناقوس الخطر بشأن التلوث المحتمل، وانتشرت المخاوف بشأن حمض الكبريتيك المستخدم في معالجة الخام وتلوث إمدادات المياه والهواء والتربة.
وتم تعليق المشروع في أوائل عام 2022 لنزع فتيل الاحتجاجات في الشوارع قبل الانتخابات، وبعد انتصارات متتالية، أعادت الحكومة العمل بتصاريح ريو في يوليو/تموز من العام الماضي، ثم واجهت غضبا جديدا.
وفقا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة "إن إس بي إم" في بلغراد في سبتمبر/أيلول، فإن ما يقارب من 60% من الناخبين الصرب يعارضون المشروع، ورُبعهم فقط يؤيدونه، وتأتي المعارضة من الليبراليين المؤيدين للغرب إلى القوميين اليمينيين، وحتى بعض أنصار حزب فوسيتش التقدمي.
وقال المدير الإداري لشركة "ريو تينتو" للمناجم، تشاد بلويت عبر البريد الإلكتروني: "على الرغم من حملة التضليل الواسعة النطاق التي تروج لمزاعم لا أساس لها من الصحة، فإن مشروع جادار لن يطلق حمض الكبريتيك في الهواء أو التربة أو الماء".
وقال فوسيتش إن النمو الاقتصادي القوي (من المتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4% هذا العام) وارتفاع الدخول وتراجع معدلات البطالة إلى مستويات قياسية ربما جعل الصرب أقل انفتاحا على الاستثمار، وقد صعد الرئيس وحلفاؤه الدوليون حملتهم للثناء على منافع المنجم، في حين عدّه البعض جزءا من الصراع بين الشرق والغرب.
وقال السفير الأميركي هيل إن روسيا استخدمت الجدل حول المنجم كفرصة "لدق إسفين" بين صربيا والغرب، وتحت قيادة فوسيتش، وتسعى صربيا إلى مغازلة القوى الغربية، في حين تحاول عدم حرق الجسور مع الرئيس فلاديمير بوتين وشركة غازبروم، التي تبيع الغاز إلى صربيا بخصم.