بعد أزمات البنوك العالمية.. هل بات التمويل الإسلامي البديل الأقوى لسعر الفائدة؟

التمويل الإسلامي يعد بديلا وحلا عبر أدواته المختلفة لآلية سعر الفائدة (شترستوك)

بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، ارتفعت أصوات غربية بضرورة اللجوء لقواعد الاقتصاد والتمويل الإسلامي من أجل الخروج من الأزمات المالية التي تصنعها آلية سعر الفائدة كقاعدة للتمويل والمعاملات المالية.

وبالفعل، اتخِذت بعض الخطوات من قبل دول ومؤسسات غربية تجاه الاقتصاد والتمويل الإسلامي، مثل تلك التي اتخذتها فرنسا بالسماح بعمل البنوك الإسلامية، وكذلك تدريس الاقتصاد والتمويل الإسلامي في مراحل الدراسة الجامعية وما بعد الجامعية.

ولكن هذه الخطوات لم تكن كافية لتمكين قواعد الاقتصاد والتمويل الإسلامية بشكل يسمح بحصاد نتائج التجربة، خاصة في ظل ضآلة قيمة التعاملات الخاصة بالتمويل الإسلامي مقارنة بالتمويل التقليدي، فلا تزال حصة التمويل الإسلامي لا تتجاوز 1% من إجمالي التمويل العالمي.

والجدير ذكره أن قيمة أصول التمويل الإسلامي على مستوى العالم تقدر بنحو 2.9 تريليون دولار، من خلال 1407 مؤسسات مالية، منتشرة في 131 دولة، وتنمو أصول التمويل الإسلامي سنويا بمعدل يصل إلى 3%، وهو ما يعطيها فرصا للنمو بشكل جيد.

أزمة البنوك عام 2023

ولكن في ظل استمرار العمل وفق آلية سعر الفائدة كقاعدة للتمويل، وجد العالم نفسه في مارس/آذار 2023 أمام ظاهرة انهيار بنوك كبرى في أميركا والغرب؛ مما أعاد إلى الأذهان حالة الهلع التي انتابت الأفراد والمؤسسات والدول التي حدثت عام 2008.

فالإعلان عن إفلاس بنك "سيليكون فالي" في أميركا، وما تبعه من قرب انهيار 4 بنوك أخرى في الولايات المتحدة، ثم انتقال العدوى إلى أوروبا، خاصة في واحد من أكبر البنوك الألمانية "دويتشه بنك"؛ كان كفيلا بحدوث انهيار كبير، لولا تدخل الحكومة الأميركية، وإعلانها ضمان كامل الودائع، وليس فقط الوقوف عند حدود ضمان 250 ألف دولار كحد أقصى، وكذلك قيام البنوك الكبرى بضخ سيولة لصالح البنوك المنهارة، وباقي البنوك التي كانت على وشك الانهيار بنحو 30 مليار دولار.

ويتمثل توصيف الأزمة في البنوك المنهارة بشكل رئيسي في أمرين -وإن كان كلاهما يعود للاعتماد على آلية سعر الفائدة للتمويل- والسبب الأول يرجع إلى سوء إدارة المخاطر التمويلية، التي اعتمدت على الاستحواذ على سندات طويلة الأجل ذات سعر فائدة منخفض لا يتجاوز 1.5% في أحسن الأحوال، بينما هناك سعر فائدة جديد قلب موازين التعاملات المالية؛ فمن جهة أصدرت الحكومات سندات لفترة 10 سنوات وبسعر فائدة يصل إلى 3.5% أو يزيد.

والأمر الثاني يتعلق بأسعار الفائدة التي أعلنها المجلس الفدرالي الأميركي، التي تراوحت مؤخرا بين 4.75 و5%؛ مما دفع المودعين في تلك البنوك المنهارة للسعي لسحب ودائعهم في أقصر وقت للاستفادة من أسعار الفائدة في بنوك أخرى.

وأصل الداء أن السياسة النقدية الأميركية لجأت في ظل أزمة كورونا إلى ما يعرف بالتيسير الكمي، حيث تم ضخ نحو 5 تريليونات دولار لتنشيط الطلب والخروج من حالة الركود، فأدى ذلك إلى زيادة معدلات التضخم، لتصل إلى 10% في أميركا، وهو معدل لم يتحقق منذ 40 عاما.

فكان العلاج -أمام صانع السياسة الاقتصادية بأميركا- رفع سعر الفائدة، من معدلات تتراوح بين صفر و0.25%، إلى أن اقترب مؤخرا إلى 5%، وكانت لهذه السياسة -بجوار عوامل أخرى- آثارها السلبية في إحداث موجة تضخم عالمية، اكتوت بها الاقتصادات المتقدمة والنامية على السواء.

الأزمة من منظور التمويل الإسلامي

يعد تحريم الربا من القواعد الرئيسية التي يقوم عليها التمويل الإسلامي، ويأتي سعر الفائدة على القروض كأحد صور الربا، سواء كانت تلك القروض من أو إلى الأفراد أو المؤسسات أو الدول، والقاعدة الشرعية أو الفقهية التي يعتمد عليها التمويل الإسلامي هي "كل قرض جر نفعا فهو ربا".

وظهرت حقيقة تعامل البنوك في قضية القروض أو التمويل؛ فالبنوك هنا دورها الوساطة المالية، وليس الاستثمار كما يرى البعض، والصورة واضحة في سبب أزمة بنك "سيليكون فالي" وغيره من البنوك المنهارة.

فهذه البنوك حصلت على أموال المودعين بأسعار فائدة متدنية، وأقرضتها عبر شراء السندات الحكومية أو غيرها طويلة الأجل بسعر فائدة أعلى من ذلك الذي تعطيه للمودعين، أو قامت بإقراض شركات التكنولوجيا الصغيرة والمتوسطة بأسعار فائدة أعلى مما تعطية للمودعين.

ولكن سوق سعر الفائدة شهدت متغيرا جديدا، لم تتوقعه إدارة المخاطر الخاصة بالتمويل داخل البنوك، حيث ارتفع سعر الفائدة؛ فكانت النتيجة قيام المودعين بسحب ودائعهم، من بنوك تعطي فائدة أقل إلى بنوك تعطي سعر فائدة أعلى، مما اضطر البنوك لبيع أصولها ذات العائد المنخفض بأسعار أقل من قيمتها للحصول على سيولة لتلبية رغبات المودعين بسحب أموالهم.

بل ذهبت إدارة تلك البنوك لزيادة رأسمالها، أو بيعها، ولكن كانت لهذه الخيارات آثار كارثية، حيث صدرت الأزمة إلى البورصات، فتراجعت أسهم البنوك والقطاع المالي بشكل كبير.

والخلاصة.. هي أن تجارة الديون -بين البنوك والأفراد والمؤسسات والحكومات- بواسطة أموال المودعين لم تعد صالحة للتكيف مع المتغيرات الاقتصادية التي تعيشها الأوضاع المحلية أو العالمية، ومن ثم يجب أن يعود الاقتصاد إلى التعامل بشكل صحيح مع أحد أهم عوامل الإنتاج في اقتصاد السوق، وهو رأس المال.

المخرج الإسلامي من الأزمة

يتعامل الاقتصاد الإسلامي مع المال وباقي مكونات النشاط الاقتصادي من خلال فلسفة مختلفة عن تلك السائدة في النظم الاقتصادية الرأسمالية أو الاشتراكية، سواء من حيث دور المال وكيفية إدارته في النشاط الاقتصادي، أو من خلال التوازن بين رأس المال والعناصر الأخرى من العمل أو الأرض أو التنظيم والإدارة.

فرأس المال ليست له حصانة عن باقي عوامل الإنتاج الأخرى، فهو يتحمل المخاطرة في النشاط الاقتصادي، نظير قاعدة "الغنم بالغرم" (من ينل نفع شيء يجب أن يتحمل ضرره)، وإذا تم اللجوء للقروض فلا يكون لها عائد، وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي "القرض الحسن".

ولكن طبيعة الأفراد تكون شحيحة في التعامل مع القرض الحسن، ولذلك فهو يأتي في نطاق ضيق، مقارنة بالأدوات الأخرى التي يقدمها التمويل الإسلامي لتمويل النشاط الاقتصادي، فتكون النتيجة الطبيعية هي دخول الأفراد والمؤسسات والدول في صيغ التمويل الإسلامي.

فتخيل لو أن مودعي بنك "سيليكون فالي" وغيره من البنوك المنهارة كانوا أصحاب أسهم في هذه البنوك، أو في الشركات التي تتعامل مع هذه البنوك، لكانت للأمر قراءة أخرى، ومآل آخر.

حيث سيتم البعد عن شراء السندات التي هي عين الربا، وسيتم توجه الأموال لتمويل شركات بشكل مباشر، ولن يتورط البنك في قبول ودائع لا يتم تشغيلها، وبالتالي سيتم تصحيح مسار حركة الاستثمار في ما ينفع الناس؛ من إنتاج سلع وخدمات حقيقية، وليس أسعار السندات والاقتصاد النقدي، الذي لا يحقق أي قيمة مضافة لحياة الناس، ولكن يساعد على تفاقم أزمة التضخم كما شهدنا في أميركا وباقي اقتصادات العالم.

فأزمة البنوك وكثير من المؤسسات المالية على مستوى العالم هي تجارة الديون، بيعا وشراء، وهو ما يفاقم الأوضاع المالية، وقد نهى الإسلام عن الاتجار في الديون، ووفر صيغا للتعاملات المالية في إطار النشاط الاقتصادي، مثل المشاركة، والمضاربة، والمزارعة، والاستصناع، وبيع السلع، والبيع الآجل، والإجارة، وغيرها.

ويجني العالم ثمارا مُرة من تجارة الديون، إذ يرتفع الفقر بسبب ارتفاع تكاليف الديون، ويقل العمل في الأنشطة الاقتصادية الحقيقية، فترتفع البطالة وينتشر الفقر، فقد بلغت قيمة الديون عالميا 303 تريليونات دولار، تمثل ديون الحكومات والشركات والأفراد، وذلك حسب بيانات عام 2021، بينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي في العام نفسه 96.5 تريليون دولار.

ويبقى التمويل الإسلامي بديلا وحلا عبر أدواته المختلفة لآلية سعر الفائدة، ولكن الأمر مرتبط بتصور وفلسفة من يملكون زمام المال في العالم، حيث يمتلكون فلسفة مغايرة للمال غير تلك التي يقدمها الإسلام، ومن هنا وجب على المسلمين تقديم النموذج العملي بمساحات أكبر، ليجد فيه العالم مخرجا لأزماته المالية المتكررة.

المصدر : الجزيرة