الأزمة الاقتصادية تهدد صحة اللبنانيين.. كيف تسبب شح الدولار بفقدان الأدوية؟

يقول رئيس لجنة الصحة البرلمانية النائب عاصم عراجي إن بعض المستوردين وكبار التجار والصيدليات يقومون بتخزين الدواء تحسبا لرفع الدعم عنه أو لتهريبه عبر المعابر غير الشرعية بعد أن صار الدواء في لبنان هو الأرخص بالمنطقة بفعل انهيار الليرة أمام الدولار

يربط المختصون تفاقم أزمة الدواء بطلب مصرف لبنان في مايو/أيار 2021 الحصول على أذونات مسبقة منه للفواتير الدوائية (الجزيرة)

يقف المواطن زهير عيش (48 عاما) داخل إحدى الصيدليات اللبنانية طالبا الحليب لطفلته البالغة 11 شهرا، فيأتيه الجواب "نعتذر، غير موجود".

يشكو زهير معاناته للجزيرة نت، وهو يستنزف ساعات يومه على حساب عمله بحثا عن حليب الرضع دون جدوى، فيما طفلته أصبحت تعاني من مشاكل صحية لعدم تقبلها تناول الحليب الذي تعده والدتها.

وقال إن مخزون عبوات حليب الرضع التي سبق أن اشتراها تحسبا لفقدانها من الأسواق قد نفدت، ويعبر عن سخطه "من دولة لا تكترث لإذلال مواطنيها في تأمين الدواء والمحروقات والغذاء" وفق تعبيره.

على بعد أمتار منه تسأل المواطنة إيمان عبد القادر عن نسخة من دواء الأعصاب الذي تحتاجه شهريا فلا تعثر عليه، وقالت للجزيرة نت إنها تتجول يوميا على الصيدليات للبحث عن دوائها، وتتساءل غاضبة "هل المطلوب أن نموت بحثا عن الدواء؟".

لكن الصيدلانية نور السنيور -التي تعمل في واحدة من أكبر الصيدليات اللبنانية- تلفت إلى أنهم يعانون من انقطاع عدد كبير من أصناف الأدوية حتى البديهية منها، كالمسكنات وأدوية الصداع والضغط والسكري وحليب الرضع، إضافة إلى انقطاع بعض أدوية الأمراض المزمنة والسرطانية بنسختيها الأصلية والبديلة (الجينيريك).

وقالت للجزيرة نت إنهم يرسلون لوائح طلبيات كبيرة لموزعي الأدوية فلا تصل كاملة "فحين نطلب مثلا 500 عبوة حليب للرضع تصلنا منها 20 عبوة فقط يتم بيعها بأقل من ساعة".

مواطنون يبحثون عن أدويتهم وحليب الرضع (الجزيرة)

الدواء و"المركزي"

تبدو هذه القصص عينة من بلوغ أزمة شح الدواء ذروتها بعد أن تحولت يوميات اللبنانيين إلى رحلة بحث دائمة عن المواد الأساسية كالمحروقات والأدوية.

كما انسحبت الأزمة على المستشفيات التي لجأت لسياسة التقنين ببعض الفحوصات المخبرية والعمليات الجراحية (غير الطارئة) بسبب النقص في أدوية البنج ومعظم المستلزمات الطبية.

وازداد الوضع تأزما بعد إعلان مصرف لبنان المركزي الأسبوع الفائت عدم قدرته على مواصلة دعم القطاع الصحي بالآلية الحالية -التي يوفر بموجبها 85% من دولار فاتورة استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية وفق سعر الصرف الرسمي (1507 ليرات)- ما لم يمس بالاحتياطي الإلزامي لديه، والذي يقدره بنحو 15 مليار دولار.

وخسرت العملة الوطنية أكثر من 85% من قيمتها بوتيرة دراماتيكية منذ خريف 2019، وسجل سعر صرف الدولار بالسوق السوداء -الذي يتحكم بالقيمة الفعلية لليرة- نحو 13 ألف ليرة مؤخرا.

وفي السياق، يشير نعمان ندور مدير القطع ومسؤول الدعم لدى مصرف لبنان إلى أنه مع بلوغ الوضع المالي مرحلة خطيرة "لا يمكن الاستمرار بسياسة الدعم العشوائية من دون المساس بالتوظيفات الإلزامية للمصارف التجارية لدى المركزي، وهذه مسألة مخالفة للقانون".

وقال ندور للجزيرة نت إن المركزي يطالب السلطات المعنية بإيجاد الحل وتحمل مسؤولياتها، خصوصا بعد ارتفاع تكلفة دعم استيراد الدواء والمستلزمات الطبية.

ففي العام 2020 -وفقا لندور- بلغ دعم القطاع الصحي أكثر من 100 مليون دولار من ضمن 5 مليارات دولار إجمالي تكلفة دعم المركزي لاستيراد القمح والأدوية والمحروقات والسلة الغذائية، فيما في أول 5 أشهر من عام 2021 وحده "بلغت قيمة فواتير الأدوية والمستلزمات الطبية وحدها مليارا و310 ملايين دولار، وهذا الارتفاع غير مقبول ويرتبط بمسألة تهريب الدواء".

إجراءات ترقيعية

بعد بيان المركزي أعلنت السلطات اللبنانية الاتفاق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على دفع فواتير مجمدة بقيمة 180 مليون دولار لمستوردي الأدوية بالدولار مقابل تسليم البضائع والمستلزمات الطبية للصيدليات والمستشفيات، وهذه التكلفة تغطي كميات تخدم لشهرين كحد أقصى.

وطوال الفترة السابقة كانت وزارة الصحة تطمئن اللبنانيين لجهة عدم رفع الدعم عن الأدوية، كما أن حكومة تصريف الأعمال ربطت رفع الدعم أو ترشيده بإقرار مشروع "البطاقة التمويلية" التي لم تجد بعد مصدرا لتمويلها.

وهذا التخبط بين المعنيين بالسلطات المالية والحكومية تجلى في طلب وزير الصحة بحكومة تصريف الأعمال حمد حسن رفع السرية المصرفية عن الحسابات المدعومة لشركات الأدوية توفيرا للشفافية.

واعتبر حسن في 1 يونيو/حزيران الحالي أن ثمة حلقة مفقودة، لأن فريق التفتيش الوزاري لا يستطيع "الحصول من حاكمية مصرف لبنان على فواتير أو "الجرد السنوي" لعامي 2020 و2021″.

داخل إحدى الصيدليات في العاصمة بيروت (الجزيرة)

تهريب وتخزين

يربط رئيس لجنة الصحة البرلمانية النائب عاصم عراجي انهيار القطاع الصحي بعاملي التخزين والتهريب.

وقال عراجي للجزيرة نت إن "بعض المستوردين وكبار التجار والصيدليات يقومون بتخزين الدواء تحسبا لرفع الدعم عنه أو لتهريبه عبر المعابر غير الشرعية بعد أن صار الدواء في لبنان هو الأرخص بالمنطقة بفعل انهيار الليرة أمام الدولار".

وهنا، يوضح نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة أنه في أول 4 أشهر من 2021 تجاوزت الكميات التي باعها المستوردون للصيدليات بأضعاف الفترة عينها في 2020، مما يعني أن حجم الاستيراد كان كافيا للمرضى اللبنانيين.

ويربط جبارة تفاقم أزمة الدواء أيضا بطلب مصرف لبنان في مايو/أيار 2021 الحصول على أذونات مسبقة منه للفواتير الدوائية، فتكدست كميات كبيرة بالمخازن دون القدرة على التصرف بها، بعد أن بلغ الدين لشركات الأدوية العالمية نحو 600 مليون دولار غير مدفوعة.

وأضاف أن المستوردين دفعوا تكلفة الشحنات للمصارف التجارية، لكن المركزي لم يقم بتحويلها للشركات في الخارج.

تقدر القيمة السنوية لاستيراد الدواء بـ1120 مليون دولار، وتوجد في لبنان 12 شركة لتصنيع الدواء مقابل 67 شركة لاستيراده

حلول وعوائق

تقدر القيمة السنوية لاستيراد الدواء بـ1120 مليون دولار وفق الدولية للمعلومات، وتوجد في لبنان 12 شركة لتصنيع الدواء مقابل 67 شركة لاستيراده، من بينها نحو 7 شركات تستورد 75% من كمية الدواء للبنان.

أما على مستوى قطاع استيراد المستلزمات الطبية فإن لبنان يستورد 100% من هذه المستلزمات للمستشفيات، وتعمل 126 شركة لبنانية في استيرادها.

الصيدليات في لبنان تعاني من شح بالدواء (الجزيرة)

وفي آخر دراسة لمرصد الأزمة في الجامعة الأميركية ببيروت، فإن التخبط الحاصل في القطاع الصحي هو وليد السياسات السابقة التي جعلت تكلفة الفاتورة الدوائية بلبنان من الأعلى عالميا، حيث قدر الإنفاق على الدواء عام 2018 قبل الأزمة الاقتصادية بـ3.4% من الناتج المحلي الإجمالي، كما "يشكل الإنفاق على الأدوية الحصة الكبرى من مجمل الإنفاق على الصحة والتي تقدر بـ44% من المجموع، وهي من الأعلى عالميا".

ويعود ذلك -وفق المرصد- "لاعتماد لبنان على استيراد الدواء من الخارج بنسبة 81% من احتياجاته الدوائية، متجاهلا تطوير الإنتاج المحلي للدواء".

كيف يمكن الاستفادة من الصناعة المحلية للدواء؟

بدورها، تلفت نقيبة مصنعي الأدوية في لبنان كارول أبي كرم إلى أن ثمة 3 مصانع (من بين 12 مصنعا) تؤمن 100% من حاجة لبنان من الأمصال، وأن 9 مصانع أدوية لديها محفظة دوائية تغطي أهم الأدوية المزمنة والأكثر استهلاكا في السوق اللبناني، وتبلغ حصتها نحو 45% من حاجة السوق، وأن هذه المصانع قادرة على تغطية 100% من هذه الحاجة.

وقالت النقيبة في تصريح للجزيرة نت إن هذه المصانع تستورد المواد الأولية، في عملية مصرفية تخضع أيضا لأذونات المركزي.

وأوضحت أبي كرم أن المصانع المحلية تؤمن 23% من كمية استهلاك الدوائي في لبنان، وأن الطلب على أدويتها منذ مطلع 2021 ارتفع بنسبة 60% مقارنة بعامي 2019 و2020.

وتعتبر أن ثمة قرارات جريئة لا بد من اتخاذها لحل أزمة الدواء، ومنها:

  • أولا: توفير سياسة ترشيد معممة ليصار إلى دعم الأدوية المصنعة محليا وتحرير فواتيرها بطريقة سريعة، وإصلاح الخلل بين دعم الأدوية المستوردة بالكامل ودعم الأدوية المصنعة محليا فقط بموادها الأولية.
  • ثانيا: تعزيز دعم الدواء المحلي، لأنه يوفر على المركزي نحو ثلثي ما يتكبده على دعم الدواء المستورد، ليستعمل هذا الوفر لدعم الأدوية المستوردة شرط عدم توفر بديل لها بالصناعة الدوائية المحلية.
  • ثالثا: اتخاذ الدولة اللبنانية القرارات المعممة بالمثل في ظل رفض بعض الدول استيراد الأدوية من لبنان.

وتوضح أبي كرم أن لبنان كان يصدر سابقا أدوية بنحو 57 مليون دولار، لكنها تراجعت لحوالي 38 مليون دولار منذ 2019، والعام الجاري لم تتعد 5 ملايين دولار.

وترجع أبي كرم هبوط التصدير إلى تراجع قدرة الشركات اللبنانية على التنافس بالمنطقة، كما صارت الدول تشجع صناعتها المحلية للدواء.

وتعتبر أن الدول التي تريد توفير "الأمن الدوائي" لشعبها تضع يدها بيد القطاع الخاص المحلي عبر خطة قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد.

وتقول إن مصانع الدواء اللبنانية لديها "قدرة على تأمين الحاجة الكاملة لـ45% من السوق الدوائي شرط دعمها وتوفير التسهيلات لها".

المصدر : الجزيرة