رمضان ليس كغيره ومضاربة بالأسواق.. كيف أطاح غياب الرقابة بقدرة اللبنانيين الشرائية؟

الطقوس الرمضانية بلبنان انقلبت رأسا على عقب؛ فصار شراء الحلويات والمكسرات -مثلا- حكرا على بعض الفئات.

الأسواق في رمضان - الجزيرة
أسعار بعض السلع الغذائية الأساسية سجلت ارتفاعا بنسبة 350% (الجزيرة)

خلف المسجد المنصوري الكبير في طرابلس (شمالي لبنان) تواظب 3 سيدات منذ عقود على الجلوس عند حائط قديم، وحولهن الأعشاب الخضراء، ويقمن بتنقيتها وتنظيفها وفرمها.

ومن مناطقهن الريفية البعيدة يحملن بضائعهن، ويتكبدن المسافات الطويلة، ويقاومن التعب والظمأ في شهر رمضان، سعيًا لزرقٍ لا يتجاوز معدله اليومي 30 ألف ليرة (2.5 دولار).

تجليات الفقر

تجمع فاطمة الصليبي (58 عاما) محصولها الأخضر من ضيعتها، وتبيعه عند "حائط رزقنا" -كما تسميه- منذ 25 عاما، لتؤمن قوت أولادها السبعة؛ لكن أرباحها لم تعد تكفي لشراء الأرز والعدس وعبوة الزيت، وفق قولها.

أما نزهة محمد (48 عاما)، فتقول وهي -تحفر الكوسا- "تخيلوا أن الكيلو منها أصبح بـ8 آلاف ليرة بعد أن كان بألف، وصار على الفقراء أن يدخروا لسعر الحبّة الواحدة".

تبتسم حلوم حامد (70 عاما) -وهي تعمل عند الحائط منذ 50 عاما- لتقول "تتحدثا عن الخضار بينما الوقوف عند برادات اللحوم المثلجة صار حلما، بعد أن ارتفع سعر الكيلو من 6 آلاف إلى 20 ألف ليرة".

وبعد أن كان شهر رمضان مناسبة سنوية ينتظرها أهالي طرابلس وبعض المناطق اللبنانية لممارسة عاداته، يأتي هذا العام مثقلًا بالمعاناة والهموم والعوز، وهو ما يظهر جليًّا على ملامح العابرين بالأسواق، بعد أن صاروا يصارعون لشراء حاجتهم الأساسية.

وأمام بسطةٍ لبيع التوت، كان يقف أحمد صيداوي (50 عاما)، ويستغرب أن سعر الكيلو قفز من 5 آلاف إلى 25 ألف ليرة، وقال "رمضان ليس كما عهدناه، فلم أعد قادرا على أن أشتري لأولادي برمضان حتى الحلوى الطبيعية".

وهكذا انقلبت الطقوس الرمضانية بلبنان رأسًا على عقب، فصار -مثلا- شراء الحلويات والمكسرات حكرًا على بعض الفئات، حسب ما يشير إليه وليد القاضي (69 عاما)، وهو أحد العاملين بالسوق، وقال للجزيرة نت "لم نعش مثل أيامنا السوداء حتى أيام الحرب الأهلية، وأشعر بحزن الناس لدى سؤالهم عن سعر أي سلعة".

وليد القاضي.. لم نعش كأيامنا السوداء حتى بالحرب الأهلية (الجزيرة)
وليد القاضي: لم نعش كأيامنا السوداء هذه حتى في الحرب الأهلية (الجزيرة)

فوضى الأسعار

سجلت أسعار بعض السلع الغذائية الأساسية، من الخضار والفاكهة والحبوب واللحوم والزيوت، ومشتقات الحليب والألبان، ارتفاعًا بنسبة 350% في الفترة الممتدة من ديسمبر/كانون الأول 2020 حتى أبريل/نيسان 2021، حسب دراسة نشرها مرصد الأزمة بالجامعة الأميركية في بيروت بتاريخ 19 أبريل/نيسان الجاري.

وسبق أن كشف المرصد عن أن الكلفة الشهرية لإفطار أساسي لأسرة مؤلفة من 5 أفراد تقدّر بمليون و800 ألف ليرة، أي ما يعادل أكثر من مرتين ونصف المرة الحد الأدنى للأجور (675 ألف ليرة)، مما يجعل نحو 42% من الأسر بلبنان -ممن لا تتعدّى مداخيلها مليون و200 ألف ليرة شهريًا- تعاني من أجل تأمين قوتها بالحدّ الأدنى المطلوب.

ويعدّ هذا الواقع امتدادًا لتداعيات تدهور قيمة العملة الوطنية، بعد أن استقرت عقودا على سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات مقابل الدولار، إذ بدأت منذ خريف 2019 تسجل انهيارًا دراماتيكيًا، واستقرت شهورا عند معدل 9 آلاف ليرة، ثم كسر انهيارها حاجز 10 آلاف ليرة مع نهاية فبراير/شباط 2021، إلى أن لامست في أيام معدودة سقف 15 ألف ليرة، لتتراوح معدلاتها أخيرًا بين 12 و13 ألف ليرة.

وهكذا، فقدت الليرة تدريجيًا نحو 85% من قيمتها، وصار أكثر من نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر، وفق تقديرات البنك الدولي، واقتصر طموح اللبنانيين على تأمين البنزين وعبوات الزيت والحليب والحبوب والأدوية، وسط فوضى كبيرة بالأسعار، وشح السلع المدعومة؛ مما يؤدي يوميا إلى مواجهات بين المواطنين داخل المتاجر الغذائية؛ وهو ما يطرح تساؤلات -حسب  كثيرين- عن أدوار مشبوهة يلعبها بعض الساعين للاستثمار في الفوضى، عبر التلاعب والمضاربة بالأسواق.

أحمد صيداوي.. ليس رمضان كما عهدناه - الجزيرة
أحمد صيداوي: رمضان ليس كما عهدناه من قبل (الجزيرة)

غياب الرقابة

يربط رئيس جمعية حماية المستهلك بلبنان زهير برو الارتفاع الهستيري لأسعار المواد الأساسية وتفاوتها بين متجر وآخر بالاحتكار الذي يسيطر على الأسواق، ولأن معظم التجار يسعون للمضاربة كي توازي أسعار بضائعهم قيمة الدولار الفعلية بالسوق السوداء.

وحتى السلع غير المستوردة، فبعض الخضار والدواجن ومشتقات الحليب ارتفعت أسعارها نحو 7 أضعاف مقارنة مع السابق؛ "فاللحوم الطازجة مثلا، ضاعت بين المدعوم وغير المدعوم، فارتفع سعر كيلو الغنم من 25 ألف ليرة إلى 120 ألف ليرة، وكيلو البقر من 15 ألفا لنحو 75 ألفا".

وبدأ بعض التجار يفكرون في تحقيق أرباح توازي 100%، كما كانوا يفعلون قبل انهيار الليرة، فارتفعت الأسعار، مقارنة مع بداية الأزمة (خريف 2019)، إلى 600%، وفق ما يشير إليه برو للجزيرة نت.

ويُحمل رئيس جمعية حماية المستهلك الدولة مسؤولية الفوضى بالأسواق، "في ظل تقاعس القضاء والإدارات المعنية عن ضبط التفلت، فإن الاقتصاد اللبناني حرّ، وقوانينه تكرس مفهوم الاحتكار الكامل".

لكن مصدرا رسميا بوزارة الاقتصاد أكد للجزيرة نت أن الوزارة تقوم بواجبها لحماية المستهلكين، في حين تواجه مشكلة النقص بعدد المراقبين، إذ لديها 77 مراقبا يتحركون يوميًا، على نحو 22 ألف نقطة بيع، ويسطّرون محاضر الضبط بحق المخالفين، ثم تحيلهم للقضاء المختص.

أما أنواع المخالفات، فترتكز وفق المصدر حول 3 أمور: بيع السلع المدعومة بسعر غير مدعوم، واحتكار بعض السلع، وتفاوت هامش الربح بين التجار.

وقال إن المشكلة في شهر رمضان زيادة الطلب على اللحوم والخضار، وطالب المصدر البلديات بأن تؤازر الوزارة في مناطقها، لملاحقة المتلاعبين بالأسعار.

ارتفاع أسعار الحبوب والتوابل برمضان - الجزيرة
أسعار الحبوب والتوابل ارتفعت في رمضان (الجزيرة)

المضاربات والتهريب

وبينما يصف برو أداء وزارة الاقتصاد بـ"الترقيعي" وغير المجدي، يجد الخبير الاقتصادي سامي نادر أن المشكلة تكمن في تعدد سعر صرف الدولار، بين الرسمي (1507)، وسعر المنصة لدى المصارف (3900) وسعر السوق السوداء (حاليا نحو 12 ألفا و200 ليرة)، ليتحكم الأخير بالقيمة الفعلية لليرة، مما يفتح مجال المضاربات بين التجار.

أما العامل الأساسي لاستفحال الفوضى وعجز الناس عن إيجاد السلع بأسعار مدعومة، فيكمن -وفق حديث سامي نادر للجزيرة نت- في مسألة التهريب إلى سوريا عبر المعابر غير النظامية، مما يزيد نزيف الاحتياطي لدى المصرف المركزي، ويضاعف شح الدولار بالأسواق.

وقال إن "الدولة غائبة، بينما نتكبد شهريًا نحو 400 مليون دولار لكلفة الدعم الذي لا يصل للمواطنين، ولم يبق من احتياط مصرف لبنان المركزي سوى 16 مليار دولار، ستنفد قريبًا".

ويستهجن الخبير الاقتصادي سياسة الدعم التي أثبتت فشلها، وفق تعبيره، ولبنان لم يعد قادرا على تأمين السيولة لاستيراد حتى القمح والدواء.

ومع رفع البنك المركزي دعمه تدريجيًا عن عدد كبير من المواد الأساسية، يرى نادر أن رفع الدعم النهائي صار حتميًا وقريبا، في وقت لم يستفد فيه من الدعم سوى المهربين إلى الداخل السوري وكبار التجار المحتكرين ومن يقف وراءهم، ما عدا الفقراء".

ويشير نادر إلى أن دعم العائلات الأكثر فقرًا لن يتحقق إلا بمساعدات مالية مباشرة، ويبقى الحل الجذري بوضع حد لحالة الاستعصاء السياسية، والذهاب لتشكيل حكومة إنقاذية، لتتفاوض مع صندوق النقد الدولي، كمعبر إلزامي لإعادة ضخ السيولة بلبنان؛ و"إلا لن تكون هذه المرحلة سوى بداية لانهيار شامل، وتهاوي الليرة لمستويات لا قعر لها".

المصدر : الجزيرة