ستراتفور: التجسس الاقتصادي سلاح المستقبل في يد الأنظمة الشمولية

رغم أن الولايات المتحدة ما زالت أقوى دولة بالعالم، فإن تفوقها تراجع على امتداد 30 عاما

Chinese and U.S. flags flutter near The Bund in Shanghai
في عالم متعدد الأقطاب باتت الولايات المتحدة تواجه تحديات عديدة بينها احتدام المنافسة الاقتصادية (رويترز)

أدت التحولات الجيوسياسية العالمية والتطورات التكنولوجية إلى زيادة أنشطة التجسس الاقتصادي. فما أبرز الدول التي تمارس هذه الأنشطة؟ ومن هي الدول المستهدفة؟

في تقرير نشره موقع "ستراتفور" (Stratfor) الأميركي، يقول الكاتب بين ويست إنه على الرغم من أن الولايات المتحدة ما زالت أقوى دولة في العالم، فإن تفوقها على بقية الدول تراجع على امتداد 30 عاما منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.

وتواجه الولايات المتحدة المزيد من التحديات مع انتقال النظام السياسي الدولي من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب. ويعني العالم متعدد الأقطاب احتدام المنافسة الاقتصادية، كما يعني أيضا أن الدول الأقل قوة سيكون لديها المزيد من الخيارات عندما يتعلق الأمر بخلق التوازن السياسي والاقتصادي مع الدول الكبرى، والمزيد من الحوافز والفرص للانخراط في أنشطة التجسس الاقتصادي.

ويرى الكاتب أن إنشاء التحالفات والحفاظ عليها في عالم أكثر تعقيدا يعني أن البلدان "الصغرى" يمكن أن تفلت من عواقب التجاوزات الاقتصادية في ظل رغبة الدول الكبرى في الحفاظ على التحالفات الإستراتيجية.

ومن شأن رقمنة الاقتصاد وانتشار أدوات وأساليب التجسس الإلكتروني تقليلُ الحواجز التي تحول دون قيام أجهزة الاستخبارات والجهات غير الحكومية بأنشطة تجسس اقتصادي، وبالتالي انتشار هذه الأنشطة على نطاق أوسع عالميا. لكن من هي الدول التي تقوم بمثل هذه الممارسات؟ حسب التقرير الأميركي.

موقع ستراتفور: فيتنام ضمن مجموعة دول تسعى لمنافسة الصين في الصناعات منخفضة التكلفة، وممارسة أنشطة التجسس الاقتصادي (الفرنسية)

الصين

بحسب اعتقاد ستراتفور، تسعى الصين إلى منافسة الولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة في قطاعات التكنولوجيا والأدوية والزراعة، لكن قطاع صناعة أشباه الموصلات يعدّ مثالا جيدا لفهم طبيعة أنشطة التجسس الاقتصادي.

وتعد الصين أكبر مستهلك لمنتجات أشباه الموصلات مثل المعالجات الدقيقة ورقائق الذاكرة، حيث تستورد نحو 60% من الإنتاج العالمي، قبل أن تصدّر معظمها في شكل أجهزة إلكترونية.

ورغم أن صناعة أشباه الموصلات في الصين تطورت بسرعة في الأعوام الأخيرة بفضل الاستثمارات التي تقدر بمليارات الدولارات، فإنها ما زالت تعتمد على الاستيراد من دول أكثر تقدما في هذا المجال مثل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان، يقول التقرير.

وحسب الكاتب، فإن الجهود التي تبذلها الصين من أجل احتلال الصدارة العالمية في مجال صناعة أشباه الموصلات من شأنه أن يؤثر على الشركات الأميركية والتايوانية واليابانية والكورية الجنوبية خلال الأعوام  القادمة.

واعتبارا من عام 2018، خصصت الصين 72 مليار دولار لتحقيق أهداف خطة "صنع في الصين 2025" لدعم قطاع صناعة أشباه الموصلات، ويرتكز جزء من الخطة على توظيف المهندسين التايوانيين، مع تقديم حوافز مالية ومكافآت لمن يجلب تقنيات جديدة من شركات منافسة.

ويشير موقع ستراتفور إلى أنه في عام 2020 فرضت محكمة تايوانية غرامة على "الشركة المتحدة للإلكترونيات الدقيقة" "يو إم سي" (UMC) بمبلغ 36 مليون دولار بعد أن اتهمتها شركة "ميكرون تكنولوجي" (Micron Technology) الأميركية لصناعة الرقائق بسرقة أسرار تجارية استفادت منها شركة "فوجيان جينهوا" (Fujian Jinhua) المملوكة للحكومة الصينية.

وقد اتخذت الولايات المتحدة إجراءات أكثر صرامة ضد الصين في قطاع أشباه الموصلات، حيث أدرجت شركة "تصنيع أشباه الموصلات الدولية" "إس إم آي سي" (SMIC) الصينية في القائمة السوداء عام 2020 ومنعتها من الوصول إلى بعض التقنيات الأميركية.

روسيا

يعتقد الكاتب أن روسيا تشكل بدورها تهديدا كبيرا للملكية الفكرية في قطاع التكنولوجيا، وذلك مع استمرارها في تعزيز قدراتها في هذا المجال.

وفي الواقع -يقول الكاتب- اعتمد الاقتصاد الروسي تاريخيا على قطاع الطاقة، وتقدر وزارة الموارد الطبيعية والبيئة أن الموارد الطبيعية (معظمها من النفط والغاز) تشكل 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وتشكل مبيعات الطاقة 80% من صادرات روسيا.

لكن انهيار أسعار النفط في 2020 وتزايد الشكوك بشأن اعتماد أوروبا على الواردات الروسية، جعل موسكو تدرك أهمية تنويع مواردها بعيدا عن الطاقة. وقد بدأت الحكومة الروسية تروّج بشكل كبير لأهمية الخدمات التكنولوجية باعتبارها صناعة مربحة ومتنامية، ولكن دون نجاح يذكر، يقول الكاتب.

ومع نهاية عام 2020، شكل قطاع تكنولوجيا المعلومات في روسيا 8% من سوق الأسهم، مقارنة بـ27% في الولايات المتحدة و17% في اليابان.

ويعتقد الكاتب أن ذلك سيجعل موسكو تعتمد على التجسس الاقتصادي لدعم قطاع تكنولوجيا المعلومات الذي يعيش وضعا صعبا في ظل العقوبات والضغط الديمغرافي وهجرة الأدمغة.

وفي شهر فبراير/شباط 2021، اتهمت السويد أحد مواطنيها، وهو مستشار تقني، بتمرير أسرار تجارية، منها شفرات خاصة بشركتي "سكانيا" (scania) و"فولفو" (volvo)، إلى دبلوماسي روسي مقابل عدة آلاف من الدولارات.

ويضيف الكاتب أن أنشطة التجسس الاقتصادي وسرقة التقنيات والأسرار التجارية لا تقتصر على الصين وروسيا، بل تشمل أي دولة تتوفر فيها الخصائص التالية:

  • الرقابة الحكومية: عندما تكون هناك حكومة تسيطر على مفاصل الاقتصاد في دولة استبدادية، يصبح من السهل ممارسة الرقابة على الأنشطة التجارية والقيام بأي أنشطة تعزز النمو الاقتصادي.
  • التحديات الاقتصادية: الدول التي يعتمد وجودها أو استقرارها على التطور السريع لاقتصادها، من غير المرجح أن تحترم المعايير الدولية التي تمنع مختلف أنشطة التجسس الاقتصادي.
  • التنافس السياسي: هناك بعض الأمثلة على عمليات تجسس بين الدول المتحالفة، لكن التوافق السياسي يشكل في الغالب عامل ردع ضد هذه الأنشطة. في المقابل، قد لا يكون هناك أي عائق أمام التجسس على بلد منافس.
  • القدرات الاستخبارية: الدول التي استخدمت في السابق قدراتها الاستخباراتية للتجسس في مجالات إستراتيجية وعسكرية، لديها فعليا القدرة على ممارسة أنشطة التجسس الاقتصادي.

دول على خط الصين

مع أخذ هذه الخصائص بعين الاعتبار، يحدد الكاتب قائمة الدول التي بإمكانها أن تسير على خطى الصين وروسيا، موضحا أن هذه القائمة ليست شاملة ولكنها تقدم أمثلة عن الدول التي يرجح أن تمارس التجسس الاقتصادي.

إيران

وفقا للكاتب، تنطبق الخصائص الأربع المذكورة على إيران، حيث يمثل المرشد آية الله علي خامنئي السلطة العليا في البلاد ولا يُتخذ أي قرار إلا بموافقته. كما تتمتع الأجهزة العسكرية والاستخباراتية بتأثير قوي على الاقتصاد.

وتتبع الشركة الوطنية للنفط والشركة الوطنية للبتروكيماويات مباشرة لوزارة البترول، وعلى غرار روسيا، يعتمد الاقتصاد الإيراني بشكل كبير على قطاع الطاقة.

وتتمتع إيران أيضًا بخبرة كبيرة في عمليات التجسس خارج حدودها، وقد كان تركيزها ينصب لمدة طويلة على ملاحقة المنشقين والمعارضين في الخارج، لكن هناك أمثلة حديثة لأنشطة تجسس اقتصادي، وفق موقع ستراتفور.

وحسب الكاتب من المرجح أن تركز مجهوداتها خلال الفترة القادمة على أنشطة التجسس الاقتصادي.

فيتنام

على غرار الصين، يتمتع الحزب الشيوعي الفيتنامي بسيطرة كاملة على البلاد، ويتحكم في مفاصل الاقتصاد عبر الشركات المملوكة للدولة.

وتأسست شركة الاتصالات السلكية واللاسلكية الأكبر في البلاد "فيتيل" (Viettel) بأمر مباشر من رئيس الوزراء في عام 2009، وتضطلع بدور مهم على الصعيد العسكري، حسب ستراتفور.

وجعلت الحكومة الفيتنامية من التنمية الاقتصادية أولوية سياسية قصوى في الخطة الخمسية الأخيرة، مع التركيز بشكل خاص على قطاع التصنيع.

وأصبحت فيتنام من بين مجموعة من الدول التي تسعى إلى منافسة الصين في مجال الصناعات منخفضة التكلفة، وممارسة أنشطة التجسس الاقتصادي، وهو ما قد يعرضها للخطر، وفقا للكاتب.

Traders work on the floor of the Moscow Exchange in the capital Moscow, Russia, August 24, 2015. REUTERS/Sergei Karpukhin
مع نهاية عام 2020، شكل قطاع تكنولوجيا المعلومات في روسيا 8% من سوق الأسهم (رويترز)

لكن لا يبدو أن هذه المخاطر قد تمنع فيتنام من الاستمرار على هذا النهج، ويعتقد خبراء الأمن السيبراني أن مجموعة "إيه بي تي-32" (APT-32)، المرتبطة مباشرة بأجهزة الاستخبارات الفيتنامية، شنّت هجمات إلكترونية على الصين ردًا على الهجوم الصيني عام 2016 على شاشات عرض معلومات الرحلات الجوية في أكبر المطارات الفيتنامية.

وفي نهاية 2019، اتهمت شركة صناعة السيارات الألمانية "بي إم دبليو" (BMW) قراصنة فيتناميين بمحاولة اختراق شبكاتها، وأبلغت هيونداي (Hyundai) وتويوتا (TOYOTA) عن أنشطة مماثلة، وفق التقرير.

كوريا الشمالية

في هذا البلد الذي يحكمه أحد أكثر الأنظمة استبدادا في العالم، هناك علاقة قوية بين السياسة والاقتصاد، يقول التقرير.

وفي ظل عزلتها الاقتصادية، لا يبدو أن لدى بيونغ يانغ ما تخسره عبر ممارسة التجسس الاقتصادي، وقد أثبتت سابقا أنها تتمتع بقدرات عالية في مجال القرصنة السيبرانية.

ففي 2018، تم اختراق شركة "أوراسكوم" (Orascom) المصرية، واتجهت أصابع الاتهام إلى كوريا الشمالية، حيث إنها كانت قد تعاقدت مع أوراسكوم لتقديم خدمات الهاتف الجوال في البلاد، وكان لديها حافز للحصول على حقوق الملكية الفكرية.

ورغم أن كوريا الشمالية لديها القدرة على سرقة الأسرار التجارية وجميع المعطيات الأخرى وممارسة التجسس الاقتصادي، فإنه ليس من الواضح أنها تستطيع استغلال تلك الأسرار على نطاق واسع، وفقا للكاتب.

أبرز الدول المستهدفة

ستظل الدول التكنولوجية الرائدة، مثل الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ودول الاتحاد الأوروبي، أهدافا رئيسية لعمليات التجسس الاقتصادي، ومن المرجح أن تنضم دول أخرى إلى القائمة مع تنوع الاقتصادات وانتشار التكنولوجيا.

ويعتقد الكاتب أن التقدم الكبير الذي حققته الصين في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتعرف على الوجوه وتكنولوجيا البطاريات، يمكن أن يجعلها هدفا لهذا النوع من عمليات التجسس.

كما تعتبر الهند هدفا جذابا، حيث بلغ حجم قطاع تكنولوجيا المعلومات في البلاد حوالي 200 مليار دولار في عام 2019، مع وجود العديد من شركات التكنولوجيا الرائدة التي تنشئ مراكز أبحاث تركز على الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس في الهند، بينها غوغل (Google) وسامسونغ (Samsung) ومرسيدس (Mercedes).

المصدر : ستراتفور