كيف انعكست أزمة الدولار وانهيار الليرة على العمل داخل مرافئ لبنان؟

مرفأ بيروت عقب الانفجار الذي كان مركزه وهز العاصمة اللبنانية مطلع أغسطس/آب 2020 (الجزيرة)

لم تترك آثار انهيار الليرة قطاعا حيويا في لبنان، نتيجة تحكم الدولار بمعظم مفاصلها. وكلما تعمّقت الأزمة في هذا البلد -الذي يستورد نحو 85% من مجمل استهلاكه وفق التقديرات الاقتصادية- تظهر الفجوات في قطاعٍ تلو الآخر، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل اللبنانيين، بعد أن خسرت العملة الوطنية نحو 90% من قيمتها في أقل من عامين.

وآخر فصول الأزمة المالية، كانت الصرخة التي أطلقها عمال ومتعهدو مرفأ بيروت، الذين ينالون أتعابهم وفق سعر الصرف الرسمي (1507 ليرات)، بينما قاربت تداولات الدولار الواحد بالسوق السوداء سقف 15 ألف ليرة.

جرس الإنذار

قبل نحو شهرٍ، نفذ متعهدو مرفأ بيروت إضرابا تحذيريا لمطالبة إدارة المرفأ باحتساب جزء من أتعابهم بالدولار، من دون أن يلقى صدى. وقبل أيام، لوّحوا بالإضراب المفتوح، عبر كتابٍ توجهوا به للإدارة ووزارة الأشغال، فجددوا مطلبهم بتعديل البدل الذي يتقاضونه لتشغيل آلياتهم، و"الذي لم يعد يتناسب مع كلفة الصيانة وارتفاع أسعار قطع الغيار التي تُدفع نقدا بالدولار"، وفق الكتاب.

لكن، سرعان ما علق هذا الإضراب أيضًا، بعد أن نال متعهدو المرفأ وعدًا من وزير الأشغال في حكومة تصريف الأعمال ميشال نجار، برفع مطلبهم لرئاسة مجلس الوزراء، بناءً على دراسة أعدوها، وأرفقوها بحججٍ تظهر أنّ 50% من تكاليف تشغيلهم يحتاج للدولار "الطازج" (النقدي)، تُدفع من إدارة المرفأ أو الوكيل البحري، وأن 50% أخرى تُدفع على سعر صرف الدولار، لدى منصة مصرف لبنان المركزي (المتعلقة بالإجراءات الاستثنائية بشأن السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية)، أي 3900 ليرة، وفق ما أوضح جوزيف عواد، رئيس تجمع متعهدي الشحن والتفريغ في مرفأ بيروت، للجزيرة نت.

ولم يأخذ المتعهدون وعدًا بمهلة زمنية معينة لتنفيذ مطالبهم، غير أن عواد حذّر من تداعيات كبيرة على دورة العمل بالمرفأ، إذا لم تُؤخذ مطالبهم على محمل الجدّ.

آثار الانفجار الذي طال ميناء العاصمة اللبنانية مطلع أغسطس/آب 2020 (الجزيرة)

ولكن، كيف انعكست أزمة الدولار على العمل داخل المرافئ؟

يجيب عواد أن انعكاسات الانهيار المالي على مرفأ بيروت، تمثلت في انخفاض قيمة رواتب العمال والمتعهدين عقب تدهور قيمة العملة، إذ يبلغ معدل أجورهم نحو مليون و500 ألف ليرة (أي ما كان يوازي ألف دولار)، وصارت حاليًا توازي نحو 120 دولارا.

وتوجد في مرفأ بيروت 16 شركة للمتعهدين تُشغل نحو 250 عاملا، يعملون في ظروف صعبة بعد انفجار المرفأ، على نقل البضائع وشحنها وتفريغها -في منطقة البضائع العامة- ولا سيما الحبوب والسيارات والحديد، وفق عواد، ما قد يعكس شللا كبيرا إذا علقوا عملهم، خصوصا أن مهمات المتعهدين تشكل شريان حركة، نتيجة الاحتكاك المباشر مع البواخر التي ترسو على الميناء.

وكان مرفأ بيروت قد شهد في 4 أغسطس/آب 2020 انفجارا هائلا، لمئات أطنان نيترات الأمونيوم، أسقط أكثر من 200 قتيل و6 آلاف جريح، وشرّد نحو 100 ألف عائلة، وخلّف أضرارا مادية تجاوزت تقديراتها 5 مليارات دولار.

لذا، يُذكر عواد أنه بعد انفجار المرفأ، أجّل المتعهدون مطالبهم حرصًا على "الأمن الغذائي والقومي"، لتأمين الإغاثات والمساعدات الخارجية من قمح وحبوب ومواد غذائية، فقاموا بتشغيل المرفأ "من تحت الرماد"، وفق تعبيره، بعد أسبوع واحد من الانفجار فقط، بينما كانت الأرصفة مدمرة.

ويلفت عواد إلى أن انفجار المرفأ كبّد المتعهدين خسائر تقدّر قيمتها بـ8 ملايين دولار، إثر دمار شامل لحق بنحو 40 آلية، من أصل 65 آلية تعمل بالميناء تابعة لشركاتهم، وحاليا لا يعمل أكثر من 23 آلية فقط.

"دولار" الصيانة

وبعد 8 أشهر من الانفجار، وتهاوي الليرة لمستويات قياسية، وجد المتعهدون والعمال أنهم غير قادرين على الاستمرار بعملهم، بحسب عواد، لأن الصيانة وقطع الغيار، يجري استيرادها بنسبة 100%، وتحتاج نقدا للدولار، إذ لا يقبل التجار أن يتقاضوا بدلها بالليرة أو الشيكات المصرفية.

وقال رئيس تجمع المتعهدين إنهم يعجزون عن تأمين الدولار من السوق السوداء، وبالتالي يضطرون لوقف عمل الآليات التي يصيبها أي عطل "لأنها تصبح معرضة لحوادث ضخمة، وقيمة صيانته وتصليحها تقدر بآلاف الدولارات".

ويعطي عواد مثالا على ذلك بالكابلات التي تحتاج لصيانة دورية، إذ يبلغ سعر الواحد مثلا نحو 3 آلاف دولار، كانت توازي قبل الأزمة نحو 4.5 ملايين ليرة، وصارت توازي حاليا نحو 40 مليون ليرة.

امتدادات الأزمة

وتوجد لدى لبنان 5 مرافئ رسمية، أكبرها مرفأ بيروت، إلى جانب كل من صيدا وصور وطرابلس وجونية، إضافة إلى مرافئ متخصصة -مثل شكا والجيه- المعنية بتفريغ أنواع من السلع كالوقود.

عمال مرفأ طرابلس - الجزيرة
عمال أمام سفينة شحن في مرفأ طرابلس شمال لبنان (الجزيرة)

لكن مرفأ بيروت -الذي افتتح عام 1894- يستقبل ويصدّر البضائع بالتعاون مع نحو 300 مرفأ عالمي، وهو أهم مرفأ لبناني، وكان يشكل أهم موانئ الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، نظرًا لموقعه الإستراتيجي، وتمثل البضائع التي تدخل إليه نحو 70% من حجم البضائع التي تدخل لبنان، وفق التقديرات الرسمية.

ومع ذلك، امتدت أزمة المتعهدين لمختلف المرافئ اللبنانية، ومن بينها مرفأ طرابلس (شمالي البلاد)، الذي جرى التوجه لتكليفه بأدوار بديلة بعد انفجار مرفأ بيروت، تأمينا لاستمرارية بعض العمليات التجارية من استيراد وتصدير.

وهنا، يربط مدير مرفأ طرابلس أحمد تامر بعض خلفيات الأزمة، بالانهيار المالي أيضا، الذي أرخى بظلاله على حركة المرافئ التي تشغل مجتمعةً آلاف العمال.

وقال للجزيرة نت إن إدارة المرافئ تسعى لتدارك الأزمة، ويقدم عُمالها تضحيات كثيرة، بينما رواتبهم فقدت قيمتها، ولحق بهم ظلم كبير لأنهم لا يحصلون على بدل ساعاتهم الإضافية.

ولأن تمويل المرافئ ذاتي ومستقل، وتحت إشراف وزارتي المال والأشغال، يشير تامر إلى أن الرسوم التي تستوفيها من الدولة هي بالليرة، ما يُعقّد ظروف العمل، بينما معظم مصاريف التشغيل والصيانة بالدولار، لافتا إلى أن الوكلاء البحريين يتقاضون بدل خدماتهم بالدولار، من الشركات الأجنبية "ما يدفعنا للرهان على استمرارية القطاعات".

ومنذ شهر أكتوبر/تشرين الأول 2019 وحتى نهاية 2020، استمر سعر صرف الدولار بالارتفاع، ثم استقر شهورًا بين 8 آلاف و9 آلاف ليرة، إلى أن كسر الانهيار الحاجز "النفسي" مطلع مارس/آذار 2021 ، فتدهورت العملة لـ10 آلاف ليرة مقابل الدولار، ثم انهارت في أيامٍ معدودات لمعدل 15 ألف ليرة، صعودًا وهبوطًا، مما أدى لتآكل القدرة الشرائية للبنانيين، وصار أكثر من نصف السكان دون خط الفقر، وفق تقديرات البنك الدولي.

لذا، يرى مدير مرفأ طرابلس أن قفزات الدولار المفاجئة منتصف مارس/آذار، أحدثت صدمة كبيرة لدى العاملين داخل المرافئ، والذين ما زالوا يفتشون عن سبل لخلق استمرارية عملهم قدر المستطاع "لأن لبنان كله يعاني من شح الورقة الخضراء".

استضعاف المستهلك

في المقابل، تشدد الصحفية المتخصصة بالشأن الاقتصادي، عزة الحاج حسن، على ضرورة الوصول لتسوية مع المتعهدين بمرفأ بيروت، لأن تعطيله سيشل البلاد تلقائيا، لكنها تخشى أن يدفع المستهلك، أي المواطن اللبناني، ثمن هذه التسوية.

وأشارت في تصريحها للجزيرة نت، إلى أن ثمة سلسلة مترابطة تصل آخر المطاف عند المستهلك النهائي، خاصة "عندما يزيد متعهد الصيانة تعرفته، فتتحملها إدارة المرفأ، لتُحصّلها من المستورد، الذي يرفع ثمن السلعة أو الخدمة على المستهلك".

وتعتبر عزة الحاج حسن أن لبنان ما زال يكتشف تداعيات انفلات سعر صرف الدولار، الأمر الذي سينعكس حتما على كثير من القطاعات، وتحديدا تلك التي تحتاج لمعدات وصيانة وقطع غيار وآليات، لأنها غير متوفرة بلبنان.

وترى أن ما يحدث بالمرفأ، مسار طبيعي لمجريات الأزمة، مقابل تكاليف عالية للبضائع المستوردة بالدولار، ما يحدث خللا في مختلف المرافق الحيوية.

ولأن السلطات الرسمية لا تضع حلولا بناءة للأزمة الاقتصادية، وفق الصحفية، فقد تلجأ مع متعهدي وعمال المرفأ للحل الذي تعتمده بمختلف القطاعات، أي زيارة التكاليف والأسعار على عاتق المواطن، الذي يتكبد من جيبه ثمن هذا الانهيار، وكل السياسات الاقتصادية الخاطئة.

المصدر : الجزيرة