تحرير الأسعار في الجزائر.. من الرابحون والخاسرون؟

الحكومة الجزائرية تقرر تحرير الأسعار المدعمة مقابل تحسين الأجور (الجزيرة)

الجزائر- بعد تردد لازم الحكومات الجزائرية المتعاقبة لسنوات طويلة، قررت الجزائر رسميا، من خلال مشروع قانون المالية 2022، مراجعة سياسة الدعم الاجتماعي، عبر تخصيص الأموال للأسر المحتاجة فقط، عن طريق تحويلات نقدية، بدل استفادة جميع المواطنين من دعم الأسعار لمواد واسعة الاستهلاك.

وبحسب المادة 187 من مشروع قانون المالية، المصادق عليه مؤخرا بمجلس الوزراء، فإنه سيتم استحداث جهاز وطني للتعويضات النقدية لصالح الأسر المؤهلة.

وأكدت الحكومة في تبريرها أن "غالبية الأجهزة المعممة للدعم مجحفة، حيث تخدم أساسا الطبقات الاجتماعية الميسورة، لذا وجب الانتقال نحو جهاز انتقائي موجه، لضمان العدالة الاجتماعية واستجابة لمطالب الطبقة السياسية".

ويخصص مشروع قانون المالية للسنة المقبلة مبلغ 1942 مليار دينار للتحويلات الاجتماعية (13 مليار دولار)، وهو ما يعادل خُمس ميزانية الدولة.

ويوجه منها لدعم العائلات تحديدا ميزانية بـ597 مليار دينار (4.36 مليارات دولار سنويا)، ما يمثل 31% من قيمة التحويلات الاجتماعية، تتوزع على دعم أسعار المواد الأساسية (الحبوب، والحليب، والسكر وزيت المائدة)، وأيضا الكهرباء والغاز والماء والتعويضات العائلية لدعم التعليم.

وتشير دراسة أكاديمية إلى أن 20% من الأسر الأغنى في الجزائر تستهلك في المتوسط 6 أضعاف منتجات الوقود التي تباع بأسعار مدعمة، و61% من الكهرباء، و58% من المياه، و18% من المنتجات الغذائية (الحبوب، والحليب، والزيت والسكر).

من جهة أخرى، ولاحتواء تداعيات تحرير الأسعار المدعمة، قرر مجلس الوزراء تحسين الأجور من خلال رفع قيمة النقطة الاستدلالية التي يتم عبرها احتساب الأجور في الوظيف العمومي (الوظائف العامة)، وتخفيض الضريبة على الدخل الإجمالي للعمال.

وفي غضون ذلك، يطرح مراقبون إشكالات تقنية، تتعلق أولا بصعوبة تحديد منصفٍ للفئات الهشة في الجزائر، بالنظر إلى تضخم حجم سوق العمل الموازي، كما يثير آخرون مخاوف من ردود فعل العمال وعدم التوازن بين تحسين الرواتب وتراجع القدرة الشرائية.

عبد القادر بريش يرى أن الدعم الموجه فيه فائدة للمحتاجين وسيوفر للخزينة نصف الفاتورة السنوية (الجزيرة)

عقلنة النفقات العمومية

وعن خلفيات الخيار الجديد، أكد الخبير المالي، عبد القادر برّيش، أن مراجعة الحكومة لسياسة الدعم المعمم يأتي تنفيذا لمخطط عملها المزكّى من البرلمان بغرفتيه.

وأوضح في تصريح للجزيرة نت أن كل الخبراء والمؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) أوصوا بضرورة التخلص من الدعم المعمم، الذي يكلف الجزائر فاتورة كبيرة سنويا.

واعتبر بريش -عضو لجنة المالية بالبرلمان- أن التوجه إلى سياسة الدعم الموجه من شأنه عقلنة النفقات العمومية، حيث تؤكد تقديرات إمكانية تقليص الفاتورة إلى النصف، سيتم توجيه فائضها إلى تحسين جودة المرافق العمومية والتعليم والصحة.

وأضاف أن تثمين النقطة الاستدلالية لعمال الوظيف العمومي من شأنه إحداث زيادة محسوسة في الأجور، مع مراجعة سلم الإخضاع للضريبة على الدخل الإجمالي.

وكشف أن المعدل الأدنى للمداخيل الخاضعة للضريبة الآن هو 20 ألف دينار جزائري شهريا (130 دولارا)، بدلا من 10 آلاف سابقا، بالإضافة إلى الإعفاء الكلي للأجور الأقل من 30 ألف دينار من الضريبة على الدخل الإجمالي.

واعترف بريش بأن الرواتب في الجزائر متدنية جدا، لكنها تتجه بالإجراءات المذكورة، تدريجيا وعلى المدى المتوسط، إلى مصاف الأجور بالمنطقة، عبر تطهير البيئة الاقتصادية بالرجوع إلى حقيقة التكاليف وقيمة الأسعار.

النقابي مسعود بوديبة يطالب بزيادة الدعم الاجتماعي ورفع الأجور لتحسين معشية الجزائريين (الجزيرة)

سياسة الأجور

من جهة أخرى، يرى القيادي النقابي، مسعود بوديبة، أن سياسة الأجور في الجزائر فقدت معالم بنائها منذ أكثر من 20 سنة، من خلال اتساع الهوة بين واقع القدرة الشرائية والحد الأدنى للعيش ورواتب العمال والموظفين.

وقال إن "التراجعات المستمرة عن الحماية الاجتماعية والاستغلال الأبشع لسياسة الدعم بصفة مغرضة من طرف مالكي الثروة، وسياسة الأجور القائمة سحقت الطبقة المتوسطة قصرا إلى دائرة الفقر والاحتياج".

وكشف بوديبة للجزيرة نت أن دراسة "كونفدرالية النقابات الجزائرية" خلصت مؤخرا إلى أن الحد الأدنى للعيش يجب أن لا يقل شهريا عن 80 ألف دينار (540 دولارا)، مع العلم أن متوسط الأجور العمومية في حدود 45 ألف دينار، ما يؤكد برأيه، حتمية مراجعتها بصفة جذرية.

وعكس خيار الحكومة، دعا النقابي إلى دعم سياسة التحويلات الاجتماعية للتقليل من الفوارق الاجتماعية وسد الثغرات المعيشية اليومية للمواطن.

وشدد على أن دراسات دقيقة للخبراء الاجتماعيين بينت أن المشكلة لا تكمن في دعم المواد الاستهلاكية، وإنما في التوجه الليبرالي الذي يريد فرض نفسه على الدولة المجتمعية، في غياب سلطة القانون التي تحد من تغول مالكي الثروة، وبطرق لا تقدم للخزينة أي فائدة، بل بالعكس تجعلهم المستفيدين من ذلك، على حد تعبيره.

واعتبر كذلك أن المشكلة اليوم تتمثل في غياب سياسة اقتصادية منتجة وفعالة، إضافة إلى هشاشة النظام القانوني لتحصيل الجباية من مالكي الثروة والقطاع الاقتصادي الخاص.

وخلص في تقييمه إلى أن الحد من دعم المواد واسعة الاستهلاك سيضرّ بصفة مباشرة العمال الأجراء والمواطنين من ذوي الدخل المحدود، ليزيد من دائرة الفقر، مقابل تمكين أصحاب الثروات من الغنى الفاحش.

يزيد أقدال يرى أن غياب المعلومات المركزية الدقيقة يشكل عقبة تقنية أمام الدعم الانتقائي (الجزيرة)

غياب المعلومات

ومن جانبه، يعتقد خبير المعلوماتية والشركات الناشئة، يزيد أقدال، أن الإشكالية تبقى في تحديد من يستحق الدعم، لأن مؤسسات الدولة حاليا لا تملك المعلومات الدقيقة عن الجزائريين.

وأوضح أن الجهات المعنية مضطرة إلى أن تتعامل مؤقتا مع الواقع كما هو، حيث أن البطّال عندها هو من لا يملك عملا رسميا مصرحا به لدى مصالح الضمان الاجتماعي والضرائب.

وأكد في تصريح للجزيرة نت وجود ملايين المواطنين غير مصرح بهم، لكنهم يعيشون بمداخيل تفوق بكثير مرتبات الحكومة، ناهيك عن عشرات الآلاف من القطاع الخاص مصرح بهم بالحد الأدنى للأجور فقط، مع أن ما يجنونه أكبر بكثير.

وأشار كذلك إلى التجار الذين لا يكشفون عن أرقام أعمالهم الحقيقية، وبالتالي قد يدخلون مع الفئات المستحقة للدعم بخلاف الواقع.

وقال إن غياب معلومات مركزية دقيقة عن دخْل المواطنين وممتلكاتهم يشكل عائقا حقيقيا في استهداف المستحقين للدعم، وحتى ما توفر منها يبقى مغلوطا، لأن الأرقام تصبح دون معنى في غياب نظام معلوماتي للمراقبة والتدقيق.

وأشار خبير المعلوماتية إلى أن الدول تنشئ أنظمة تحليلية (Business intelligence) تعطي الصورة الحقيقية للوضع والتوقعات المستقبلية لتطور الأرقام، تسمح بالتوقع واتخاذ القرارات القبلية.

وختم بالقول إنه يجب تقبّل فترة انتقالية لتغيير شكل الدعم، والعمل الحقيقي بعد ذلك سيكون هو الوصول للمعلومة الحقيقية وذات المصداقية.

المصدر : الجزيرة