مصاريف مكتبي رئاسة الجمهورية والوزراء تثير اللغط حول ميزانية العراق 2021
العراق، المعتمد بشكل شبه مطلق على مبيعاته من النفط الخام في تمويل الميزانية العامة، رفعت حكومته مؤخرا مشروع ميزانية بقيمة غير مسبوقة، رغم تراجع أسعار النفط وكميات تصديره. واحتوت الميزانية على بنود نفقات لمكتبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء غير مسبوقة، مما أثار الاستغراب واللغط في الشارع العراقي الذي كان ينتظر ميزانية تقشفية تراعي مصلحة المواطن العادي، في ظل ظروف اقتصادية صعبة.
فجائحة كورونا ضربت اقتصادات العالم وكانت دول العالم الثالث -وبينها العراق- من الأكثر تضررا، حيث انخفضت أسعار النفط العالمية، كما اضطر العراق -استجابةً لاتفاق "أوبك بلس" (+OPEC)- لخفض كمية إنتاجه، وهو ما انعكس سلبا على إيرادات الميزانية العراقية.
شرارة الأزمة
بعد التأخير في إقرار موازنة 2021 وما أعقبها من تذمر في الشارع العراقي، جاءت مسودة الموازنة لتثير اللغط حول بعض فقراتها، إذ كان من المقرر أن تأتي تقشفية بتقليل الإنفاق، إلا أن العكس صدم كثيرين، خصوصا حجمها الذي بلغ 164 ترليون دينار (112 مليار دولار)، فهي الأعلى منذ 2003 بحسب النائبة في مجلس النواب هدى جار اللّه الغبشة التي وصفت الموازنة -في حديثها للجزيرة نت- بالانفلاقية غير المعقولة والمخيبة للتوقعات بنفقاتها التشغيلية المناقضة للمقتضيات الآنية.
من جهته، اعتبر مثنى السامرائي نائب رئيس اللجنة المالية في البرلمان، أن مسودة الموازنة جاءت مغايرة للورقة البيضاء للإصلاح الاقتصادي التي أطلقها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وأن حجمها مبالغ فيه.
تشغيليات خيالية
وكشف النائب رحيم الدراجي عن أن مسودة الموازنة حددت ما قيمته 6 مليارات و379 مليونا و500 ألف دينار (4.5 ملايين دولار)، مبلغا سنويا خصص للتنظيف والمستلزمات الخدمية لمكتب صندوق استرداد الأموال.
كما كشف النائب خالد الجشعمي عن تحديد نحو 14 مليار دينار (9.6 ملايين دولار) للمستلزمات الخدمية لمكتبي رئاستي الجمهورية والوزراء في الموازنة.
وزادت هذه الأرقام التي وُصفت بالكارثية من نفرة المواطن من الطبقة الحاكمة، بحسب تصريح الخبير الاقتصادي همام الشماع الذي أضاف قائلا: كأن الموازنة جاءت لسرقة الموظف والشعب.
دون مبرر
وأكّد الشماع -في حديث للجزيرة نت- على أن الأرقام الكارثية لبعض الفقرات الخدمية لا مبرر لها، وأن هناك نفقات في الموازنة يصل ناتج مجموعها إلى 14 مليار دينار، بينما يكتب الناتج الإجمالي 29 مليارا، ويتكرر الأمر في أكثر من فقرة مما يؤكد أنها ليست أخطاء مطبعية بل هي أرقام لا أصل لها، فضلا عن وجود فقرات تحت عنوان "برامج حكومية" رُصدت لها مبالغ خيالية دون تفاصيل، مما يخلق تساؤلا عن طبيعة تلك البرامج التي من حق المواطن معرفتها.
وأضاف أن سكوت الجهات المسؤولة في البرلمان عن المطالبة بتوضيح العديد من بنود الميزانية يعد تواطؤا، للاستفادة المشتركة من الأموال.
وبالعودة إلى الغبشة، فقد أكدت أن الموازنة المطروحة غير منصفة، إذ تأتي الأموال التشغيلية الخدمية متفوقة على موازنات واستحقاقات المحافظات المدمرة جراء الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية.
اعتراض
من جهتها وفي سعي للنأي بالموازنة عن الاتهامات، بيّنت عضوة لجنة التخطيط ودراسة البرنامج الحكومي النيابية النائبة ماجدة التميمي، أنه بالرغم من وجود نفقات غير مبررة في مسودة الميزانية فإن المطروح ليس نهائيا، بل هو قابل للمراجعة.
وأكدت التميمي للجزيرة نت أن المسودة مطروحة للمناقشة، وتم تسريبها عن طريق بعض الشخصيات لأغراض مختلفة تستفيد منها جهات معينة، قد تكون لتسقيط جهات أخرى تقف وراء وضع فقرات الموازنة التي لم تعتمد حتى الآن، وما حصل بالإجمال هو إساءة للحكومة أمام شعبها.
وتضيف التميمي في تعليقها على المسودة، أن فيها بنودا حددت لها مصاريف كبيرة غير ضرورية، لذلك تحتاج للمراجعة، آخذين بالاعتبار القوانين المشرَّعة بعد 2003، لتعديل الفقرات التي حمَّلت الموازنة أعباء مالية كبيرة، وأدت إلى عدم توزيع الثروة بشكل عادل.
وختمت حديثها بالقول "نُطمئن العراقيين بأننا نعمل على تعديل النفقات، وأنا أقرّ بأن المسودة يجوز تسميتها بموازنة الصدمة أو الرعب، لما ولدته من رعب لدى الفرد العراقي وفيها الكثير من التناقضات، لكنها ليست الصيغة النهائية وسنعمل على تعديلها".
الغموض
ويقول الكاتب والمحلل السياسي علي البيدر إن الغموض واختفاء بعض التفاصيل الخاصة بالنفقات ليس غريبا، فقد مُررت الكثير من الفقرات في الموازنات السابقة دون أي إيضاح، معتبرا أن الموازنة الجديدة تعد الأسوأ من هذه الناحية.
ولفت البيدر إلى أن ما تضمنته الموازنة من مبالغ الضيافة المخصصة في بعض الفقرات ليست وحدها الكارثة، بل الغموض في بعض العائدات التي تختفي دون معرفة الأسباب. وضرب مثالا على ذلك عوائد المشتقات النفطية التي تباع للمواطنين مباشرة، مثل بنزين السيارات والنفط الأبيض ووقود المولدات الكهربائية، وتصل وارداتها إلى 200 مليون دولار شهريا.
وبينما يرجّح محللون أن جهات حكومية متنفذة تقف وراء إعداد الموازنة، وهي التي تضع تلك الأرقام لاستحصال سيولة نقدية لأحزابها، بحسب تصريح الخبير السياسي الدكتور محمد الحياني للجزيرة نت.
التأثير السياسي
المشهد السياسي وخلافاته المتعاقبة يجني إخفاقاتها في الأغلب المواطن، ولربما موازنة هذا العام الأكثر تأثرا بالمناخ السياسي، فقد أكد الحياني أن الموازنة تخضع لهيمنة جهات متنفذة تعمل على وضع الأرقام الخيالية لتوظيفها انتخابيا مع قرب الانتخابات المبكرة.
ولم يذهب البيدر بعيدا عما صرّح به الحياني، موضحا أن إخفاقات الموازنة تستغلها بعض الجهات السياسية ورقة ضغط وابتزاز للجهات المتسببة والمستفيدة من فقرات الإنفاق الكبيرة، وهذه الخلافات هي السبب في استنزاف أموال الدولة وجرّها للاقتراض الداخلي والخارجي، وبالتالي لا أمل في الإصلاح.
كما يلقي الحياني باللوم على الأحزاب الحاكمة، ويرى أن هذه الأحزاب تحتاج الكثير من المال وتستخدم السلطة حتى يكون لها حظوظ في الانتخابات المقبلة.
وفي حديثه للجزيرة نت، فضّل الحياني تسمية الموازنة الأخيرة بالموازنة الانتخابية، لدعم الأحزاب الفاسدة وتزوير الانتخابات.
الحلول
لا تخلو أغلب المعضلات السياسية والاقتصادية من حلول ولو بشكل جزئي، خاصة في الظروف الطارئة، وما يحوط الموازنة من تعقيدات لا بد لها من مخارج.
فقد رأى الشماع أن ما يشوب المسودة من أخطاء وإثارة للشكوك لا يمنع من وجود حلول لمأزق عجزها المالي وإن لم يكن كليا، مشيرا إلى استغلال عائدات المشتقات النفطية وإدخال مبالغها إلى خزينة الدولة، مما يمكن اللجنة المالية من الاستفادة مما يقرب 24 تريلون دينار (16.5 مليار دولار) سنويا، إضافة إلى ضرورة استغلال الغاز المصاحب لاستخراج النفط بدل حرقه وإتلافه واستيراد بديل منه بمئات ملايين الدولارات من إيران.
وأضاف أن على الدولة جمع بدل الإيجار لقرابة ألف عقار حكومة تستولي عليها جهات متنفذة دون مقابل، وتتجنب الحكومة مواجهتها، وهو ما يكلف الدولة فقدان تريليون دينار (690 مليون دولار) سنويا. وغيرها من الإيرادات الرئيسية كالمنافذ التي يصل من وارداتها 10% فقط إلى خزينة الدولة.
وأعرب الشماع عن استغرابه لتجاهل الكثير من التقارير التي تم رفعها لتقليل النفقات وزيادة الإيرادات، وهي كثيرة ربما تسد العجز وتولد فائضا ماليا من الممكن استثماره لبناء منشآت ومعامل لتشغيل اليد العاملة وتقوية المنتج المحلي، ولكن تم تجاهل جميع التقارير لأسباب أغلبها مجهولة، وذكر أن وزير المالية هو المسؤول الأول عن جميع الإخفاقات والعجز الحاصل.