عبر التاريخ.. ملامح صعود وسقوط الإمبراطورية المالية الأميركية
تجاوزت الهيمنة الأميركية جميع المقاييس على المستويين السياسي والإستراتيجي، وأثبت النفوذ المالي للولايات المتحدة أنه أكثر ديمومة، وهذا الأمر يبعث على الاطمئنان لأن استجابة مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي كانت سريعة وسخية مع النظام المالي القائم على الدولار، لكنه كان أيضا مصدرا للحيرة والإحباط.
في تقرير نشرته مجلة "فورين بوليسي" (Foreign policy) الأميركية، قال الكاتب آدم توز إن الصين وروسيا تبحثان عن بدائل لنظام الدفع القائم على الدولار، وأصبح "الاستقلال الإستراتيجي" من بين الأهداف التي تصبو إليها أوروبا، وتعد هذه التحركات منطقية في ظل العدوان المتزايد للعقوبات المالية التي تسلطها واشنطن، بالإضافة إلى تقلبات رئاسة دونالد ترامب.
كما أن مشاكل -على غرار تعمق التفاوت الاجتماعي، تراجع التصنيع، فقدان الوظائف ذات الأجور الجيدة والآمنة للموظفين ذوي الياقات الزرقاء، سببها قوة الدولار. ولا عجب أن المستثمرين أصحاب الأفكار المبتكرة ينصحون أي شخص بالاستعداد لمستقبل ما بعد الدولار.
وفي شرحه لسبب تصميمه على دعم الصين، يشير راي داليو من شركة "بريدجووتر أسوشيتس" (أكبر صندوق تحوط في العالم) إلى صعود وسقوط إمبراطوريات مالية أخرى، وهي دورة متكررة تمتد لأكثر من 500 عام.
على مر التاريخ
لطالما احتل الدولار مكانة بارزة في الاقتصاد العالمي لما يزيد على قرن من الزمان، وهي الفترة التي شهدنا فيها أكبر انفجار سكاني وازدهار النشاط الاقتصادي وعنف الدولة إلى حد الآن. لذلك، يمكن اعتبار أن نظام الدولار غير محدد بشكل واضح، ويبقى قيد التحولات المذهلة للاقتصاد الحقيقي والنظام الدولي للطاقة.
وكانت فترات التماسك التي توافقت فيها السياسة النقدية والمالية بدقة مع الموقف الإستراتيجي الكبير للإمبراطورية الأميركية قصيرة، وزاد الحديث عن نهاية هيمنة الدولار منذ نصف قرن، وتحديدا السبعينيات، عندما تشكلت السياسة الخارجية.
ومع ذلك، استمر الدولار في الهيمنة على الاقتصاد العالمي، وتزامن ذلك مع القرارات المرتجلة لصناع السياسة والشركات الأميركية وخيارات نظرائهم في جميع أنحاء العالم. لذلك، يجب الاستفادة من الدروس التي قدّمها التاريخ عند قياس مستقبل الدولار باعتباره العملة الرئيسية في العالم.
إن الصعود المفاجئ للولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى، باعتبارها القوة المالية المهيمنة في العالم، شكل صدمة، خاصة أنها كانت أقل أهمية من صربيا في أزمة يوليو/تموز 1914.
وبحلول عام 1916، ومع زيادة الاستهلاك على نطاق لا يمكن تصوره، كان من الواضح أن كل شخص في العالم يحتاج إلى الدولارات، وهي العملة التي تتيح الوصول إلى أكبر مجموعة من المواد الخام، وتعزز القدرة الصناعية، حسب التقرير.
وبالتزامن مع حكم الجمهوريين، لم ترفض الولايات المتحدة تقديم تنازلات سخية بشأن ديون الحرب فحسب، بل عادت إلى اعتماد السياسة الحمائية، وفرضت القيود على الهجرة، مما أدى إلى انكماش اقتصادها بوحشية، واستنزاف مخزونها من الذهب من خزائن البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم.
وكان يستحيل على شركاء الولايات المتحدة السابقين في الحرب سداد ديونهم الحربية حتى وإن رغبوا في ذلك، وأدت إضافة قروض خاصة جديدة من وول ستريت على رأس ديون زمن الحرب إلى تفاقم المشكلة، وكانت الولايات المتحدة تجري تجربة معاكسة لكونها دائنا عالميا وتدير فائضا تجاريا في الوقت نفسه، كما يذكر التقرير.
مؤتمر بريتون وودز 1944
إن استقرار أسعار الصرف الثابتة المرتكزة على الدولار كان من المفترض أن يتوازن مع الحركة المحدودة لرأس المال، لأغراض مفيدة للتجارة والاستثمار. ومع ربط عملة الولايات المتحدة بالذهب، وكل عملة أخرى بالدولار، أصبح التسلسل الهرمي أكثر وضوحا من أي وقت مضى.
لكن اتفاقية "بريتون وودز" (Bretton Woods) التي تهدف إلى إيجاد نوع من الثبات في السياسات النقدية وأسعار الصرف بين دول العالم لم تنجح بسبب النقص العالمي في احتياطات الدولارات، وبالنظر إلى الحالة المتدهورة للاقتصاد الأوروبي بعد الحرب، أدى التبادل المحدود للعملات الأوروبية مقابل الدولار إلى الإفلاس.
وكان ذلك واضحًا صيف 1947، عندما عانت بريطانيا، الدولة الوحيدة التي حاولت تنفيذ اتفاقية بريتون وودز إثر انتهاء الحرب، من أزمة مدمرة وعادت إلى الاعتماد على التمويل الأميركي الثنائي.
وانتهت أزمة ما بعد الحرب المتمثلة في نقص الدولار على الصعيد العالمي، وكانت الاقتصادات اليابانية والأوروبية قوية بما يكفي إما لكسب الدولارات من خلال الصادرات الموجهة إلى الولايات المتحدة أو المبادلات التجارية بين البلدان التي تعتمده. وفي الواقع، لم تلق اتفاقية بريتون وودز ترحيبا من وول ستريت وحلفائها في وزارة الخزانة الأميركية.
عام 1965، عندما بدأت فرنسا بممارسة حقها في استبدال الدولار بالذهب، اتهمتها الولايات المتحدة بالابتزاز، وقامت الحكومة الأميركية بقمع مشتريات الذهب من القطاع الخاص طيلة فترة الستينيات من أجل الحفاظ على السعر الرسمي الذي كان يبلغ 35 دولارا لأوقية الذهب، وفق ما ينقل التقرير.
في أغسطس/آب 1971، أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون انتهاء قابلية تحويل الدولار. وعندما تم تحذيره من أن هذه الخطوة قد تهز ثقة حلفاء الحرب الباردة بأوروبا، وخاصة إيطاليا، ردّ قائلا "لا يهمني وضع الليرة".
العصر الحديث
لأول مرة في التاريخ، لم يتم ربط أي عملة في العالم بالذهب أو بأي عملة أخرى، حيث تعتمد قيمة العملة فقط على سلطة الدولة كما تحددها الأسواق، وهو ما أدى إلى انخفاض قيمة الدولار. في المقابل، واجهت كل من اليابان وألمانيا طفرة في عملاتهما التي صمدت لفترة طويلة.
وتم تداول هذا النظام على نطاق أوسع مع تراجع الدولار مقابل المارك الألماني والين الياباني. لذلك، تم إنشاء النظام الحديث لعقد القمم بين مجموعة الدول الصناعية السبع للمساعدة في التعامل مع الضغوط. وإثر ذلك، أصبحت منظمة أوبك (opec) تفكر في تسعير نفطها بعملة أكثر موثوقية.
وانتهت أزمة هيمنة الدولار الأولى، التي تعتبر الأكثر خطورة حتى الآن، وفي أكتوبر/تشرين الأول 1979 سمح بول فولكر، بصفته رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي، برفع أسعار الفائدة، الأمر الذي أحدث صدمة بالاقتصاد العالمي وساهم في ارتفاع قيمة الدولار.
وبعد تجاوز حدود اتفاقية بريتون وودز، ازدهرت أسواق العملات والأسواق المالية المحررة، وسواء في نيويورك أو لندن، كانت بنوك وول ستريت بمثابة المحركات المهيمنة لهذا العصر الجديد من النمو المالي، ووضعت الدولار والبنوك الأميركية الرئيسية في محور كل تجارة.
ووعد هذا النظام الجديد بالمرونة، وإعادة تخصيص الموارد بكفاءة، لكن الطفرة المالية كانت هائلة، مما دفع إلى ظهور موجة جديدة من الإقراض الدولي المقوم بالدولار، وأدى هذا الأمر إلى تواتر الأزمات.
وفي الثمانينيات، ازدادت حدة أزمات الديون في أميركا اللاتينية لدرجة أنها عرضت النظام المصرفي للولايات المتحدة للخطر.
توالي الأزمات
شهد العالم فترة اجتمعت فيها أزمة الديون في الثمانينيات مع أزمات فترة ما بعد الحرب الباردة، وظهرت الآثار في المكسيك أولا عام 1994 وحتى 1995 تلتها أزمة الاقتصادات الآسيوية عام 1997. ثم حلت أزمة روسيا عام 1998 وأخيرًا الأزمة العصيبة بالأرجنتين عام 2001.
وبحسب التقرير حاولت وزارة الخزانة الأميركية وبنك الاحتياطي الفدرالي إدارة تلك الصدمات من خلال تقديم قروض جديدة، وإعادة هيكلة الديون، إلا أنهما واجها مقاومة مستمرة من كل البلدان الواقعة ضحية للأزمات، ومن الكونغرس الأميركي الذي امتعض من تقديم العون للدول الأجنبية، في حين أدركت الأصوات الأوروبية بمجلس صندوق النقد الدولي أن النظام بأكمله لا يشجع إلا على توسع مالي مستهتر.
ماذا عن الصين؟
أما الصين، التي كانت تشهد تحولا اقتصاديا، فقد كانت مصممة على تجنب مصير أقرانها بالأسواق الناشئة، وربطت عملتها بالدولار بسعر أقل من قيمتها الحقيقية، واستخدمت ضوابط الصرف لتنظيم تدفق الأموال إلى المواقع الأساسية للتجارة والاستثمار طويل الأجل، وتصدت للتضخم وأي استياء محلي نشأ نتيجة لذلك من خلال القمع.
وتضررت أميركا وأوروبا من "الصدمة الصينية" حيث ارتفعت صادرات الصين بسبب رخص ثمنها، وفرضت وول ستريت رسوما باهظة على تدفق رأس المال، وواجه العمال منافسة شرسة في مجال التصنيع.
وفي أوروبا، خففت دول الرفاهية من وقع الصدمة على اقتصادها، مع أن ذلك تزامن مع الانتقال الأوروبي إلى تشكيل عملة اليورو الصعب، وبعد فترة وجيزة من عدم الاستقرار ارتفعت قيمة اليورو مقابل الدولار من أدنى مستوى له (86 سنتا في سبتمبر/أيلول 2000) إلى أعلى مستوى (1.60 دولار تقريبا) بعد 7 سنوات.
وكان أحد أهداف اليورو توفير بديل للدولار كعملة رئيسية، وأوائل العقد الأول من القرن رقم 21، بدا أنه يكتسب زخما حقيقيا، وبحلول 2007، بدأ اليورو في منافسة الدولار كعملة لإصدار سندات مقومة بالعملة الأجنبية. ومع تعثر الولايات المتحدة بالعراق وأفغانستان والعجز الهائل في كل من الميزانية الحكومية والتجارة، بدا زوال الدولار أمرا حتميا مجددا.
انهيار 2008
لم يكن الانهيار عام 2008 على هيئة أزمة الدين العام المتوقعة بالولايات المتحدة، بل كان في شكل أزمة ضربت النظام المصرفي شمال الأطلسي بأكمله.
كانت نسبة كبيرة من ميزانيات مصارف لندن وباريس وفرانكفورت وهولندا مقومة بالدولار، بسبب محاولاتها استغلال ازدهار الرهن العقاري الأميركي. وبدلاً من قلب النظام المالي العالمي القائم على الدولار، كشفت أزمة عام 2008 عن اعتماد عالمي شديد على الولايات المتحدة.
وبذل الاحتياطي الفدرالي قصارى جهده لدعم النظام المصرفي عبر الأطلسي عن طريق ضخ السيولة بالدولار لكل من البنوك الأوروبية والآسيوية في نيويورك وبنوكها المركزية، عن طريق خطوط مبادلة السيولة. لكن ذلك لم يحل دون وقوع منطقة اليورو في أزمة ديون سيادية شاملة.
الإمبراطورية المالية
في الألفية الجديدة تصدر صعود الصين كقوة عظمى جديدة عناوين الصحف، وبمساعدة حكومة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، شرعت بكين في حملة طموحة لتدويل العملة الصينية (اليوان). لكن تلك الآمال تجاهلت حقيقة قيام الأعمال التجارية الصينية بالتدويل في نفس الوقت وفي الاتجاه المعاكس، حيث بدأت بالارتباط بنظام الدولار. واتضح ذلك عام 2015، عندما عانت الصين من أول أزمة مالية محلية في العصر الجديد.
ومع تراجع اليوان مقابل الدولار، حاولت الشركات الصينية يائسة خفض ديونها بالدولار، حيث ساعدها الاحتياطي الفدرالي الأميركي عن طريق تأجيل زيادة أسعار الفائدة، في وقت شددت بكين ضوابط رأس المال. واليوم، تربط بكين عملتها مع العديد من العملات بدلا من الدولار لوحده.
وفي السنوات الأخيرة، تباطأ صافي المشتريات الأجنبية لسندات الخزانة الأميركية بشكل كبير، حيث توجب على المستثمرين الأميركيين ومجلس الاحتياطي الفدرالي استيعاب الزيادة الهائلة في الديون التي سببتها جائحة "كوفيد-19".
وفي مارس/آذار الماضي، شهد سوق الخزانة الأميركية تذبذبا خطيرا، ليس بسبب هجرة الدولار بل العكس، حينما احتاج عدد كبير جدا من المستثمرين للوصول إلى بنك الخزانة الأميركية في نفس الوقت.
في هذا الصدد، ينبغي على إدارة بايدن إصلاح النظام المالي وضمان القدرة على استيعاب تريليونات الدولارات في أعقاب الجائحة.
وتتمتع كل من بكين وبروكسل بما يلزم لتطوير أسواق أصول واسعة مماثلة. ولأول مرة، يتعهد الاتفاق المالي الأوروبي بتكوين مجمع كبير من الديون الأوروبية المشتركة، لكن الاتحاد الأوروبي على بعد عقود من أن يكون قادرا على منافسة سوق الخزانة الأميركية.
وخلص الكاتب إلى أن المشهد المالي اليوم أبعد ما يكون عن الثبات، حيث يتجه الاقتصاد العالمي نحو آسيا، ومن شأن ثورة الطاقة الخضراء أن تقلب السوق العالمية للنفط والغاز والفحم، وتولي البنوك المركزية المزيد من الاهتمام بالعملات النقدية.
وتشير التوقعات طويلة المدى حتى عام 2050 إلى أن حصة الصين من الناتج المحلي الإجمالي العالمي غالبا ما ستستقر عند حوالي 20%، مقارنة بنسبة تتراوح بين 12% و15% للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند. وفي هذا العالم متعدد الأقطاب، ليس غريبا أن يتخيل المرء استمرار الدولار في لعب دور مهيمن في التجارة والتمويل الدوليين.