الانهيار الاقتصادي يعصف بشتاء اللبنانيين

بين برك المياه الآسنة التي خلفتها "أمطار كانون" الغزيرة، يتنقل أطفال صغار يعيشون داخل حي فقير منسي ملقب بـ"حي التنك" في شمال لبنان. وما إن يهدأ هطول الأمطار لدقائق، حتى يخرج الصغار مع أمهاتهم بوجوه شاحبة حزينة، وقد بدا الحرمان من الدفء على أطرافهم ومن صرير أسنانهم، ليتعاونوا على نضح المياه التي أغرقت منازلهم الهشة.
وداخل غرفة أرضية، تجلس اللبنانية جميلة أحمد (40 عاما) مع أطفالها الأربعة، متلاصقين ببعضهم تحت غطاء صوفي واحد، تشكو للجزيرة نت أن موسم الشتاء تحول لكابوس نتيجة اهتراء منزلها وعجز زوجها عن تأمين وسيلة للتدفئة.
تقاطعها جارتها باسمة عبد القادر (48 عاما) التي تشاركها المأساة، لتقول "لم يعد بمقدورنا شراء المازوت أو الغاز لتدفئة أطفالنا وحمايتهم من المرض في بيوت غير آمنة".
يختصر "حي التنك" قصص آلاف اللبنانيين الفقراء في الساحل أو في المناطق الجبلية الأشد بردا، بعد أن تضاعفت معاناتهم المعيشية هذا العام بفعل الانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد، وانعدام الاستقرار في سوق المحروقات وانقطاع مادة المازوت في بعض الأحيان، مما عمق عجز الفقراء عن تأمين وسائل التدفئة.
ففي "حي التنك" خلف شاطئ الميناء، تسكن عشرات العائلات اللبنانية المعدمة، وبعض النازحين السوريين، في مئات الغرف المسقوفة بألواح إسمنتية، أو مصنوعة من "التنك"، أو ألواح الحديد الهش.

أزمة المحروقات
تفاقمت أزمة المحروقات مع اشتداد الأزمة المصرفية وشح الدولار مقابل انهيار العملة الوطنية لمستويات غير مسبوقة، إذ تجاوزت تداولات الدولار الواحد عتبة 8200 ليرة لبنانية.
ومع إعلان تحذيرات مصرف لبنان المركزي من بدء رفع الدعم عن استيراد السلع الرئيسية، بسبب استنفاد الاحتياطي بالعملة الصعبة، ازداد القلق على كيفية تأمين المحروقات، خصوصا أن لبنان يستوردها بنسبة 100%.
وسبق أن تم الاتفاق بين الشركات المستوردة للنفط والمركزي على شراء الوقود بنسبة 85% بالليرة اللبنانية، ودفع نسبة 15% من المبلغ بالدولار، لكن هذه النسبة الضئيلة لم تعد مؤمنة أيضا، مما دفع بعض الشركات للامتناع عن تسليم المحروقات إلى محطات الوقود.
وذهب مراقبون لاعتبار أن أزمة المحروقات صارت بنيوية، لأن آلية الدعم غير مجدية، وبدلا من أن يستفيد المواطنون من دعم المحروقات، لجأ بعض التجار لاحتكار كميات كبيرة منها بالسعر المدعوم.
وفي السياق، يعتبر جورج براكس عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات، أن ارتفاع أسعار المحروقات مؤخرا يرتبط بعودة ارتفاع أسعار النفط عالميا، أما سبب شح مادة المازوت في لبنان فيرتبط بأزمة احتياطي المركزي المخصص لاستيراد المواد الأساسية.
ويذكر براكس للجزيرة نت أن كميات المحروقات المتبقية ضئيلة جدا، وبعض بواخر المحروقات في البحر لم تفرغ حمولاتها، لأن الشركات المعنية بتسلم البضائع لم تفتح اعتمادات مصرفية لها.
ويبلغ سعر عبوة المازوت سعة "20 لترا" نحو 16 ألف ليرة (11 دولارا بحسب سعر الصرف الرسمي)، ويتوقع براكس أن يتجاوز سعر العبوة 65 ألف ليرة (43 دولارا)، وهو سعر مرشح للارتفاع لأن رفع الدعم سيؤدي إلى توالي انهيار الليرة نتيجة ارتفاع الطلب على الدولار في السوق السوداء.
وفي حال رفع الدعم، يرجّح براكس أن تصبح مواد المحروقات في 2021 عملة نادرة، "لأن الأزمة سياسية ولا يمكن إيجاد مخرج لتأمين المواد الأساسية المستوردة من دون دخول دولارات جديدة من الخارج".
ولأن استنفاد المحروقات يحرم اللبنانيين من التدفئة والتغذية الكهربائية ويعيق قطاع النقل، يرى براكس أن أحد أسباب الأزمة يرتبط بتهريب المحروقات إلى الداخل السوري الذي يستنزف أكثر من 35% من قيمة الدولارات المخصصة لاستيرادها.
ويشير عضو النقابة إلى أن لبنان يضم 4500 محطة وقود، من بينها 2700 شرعية، والبقية تعمل بطريقة غير شرعية، وهو ما يسهل التهريب وتخزين المحروقات مقابل الامتناع عن بيعها للاستفادة من رفع أسعارها لاحقا.

غياب الخطة
وينتظر لبنان انتهاء عقد التوريد لقطاع الكهرباء مع شركة "سوناطراك" الجزائرية نهاية العام، من دون نضوج خطة رسمية تنقذ اللبنانيين من العتمة ومن استنفاد المحروقات، بينما يقتصر التداول على مقترحات لم تسلك طريقها نحو خطة تنفيذية، كاستيراد "الفيول" والوقود من العراق.
وكان مستغربا ما نقل أخيرا عن وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال ريمون غجر، من أن كمية "الفيول" المتوفرة تكفي لبنان حتى نهاية عام 2021، وهو ما تدحضه تقديرات محللين اقتصاديين، ولا سيما أن التقنين على ساعات التغذية الكهربائية يستمر بالارتفاع.
وتشير المديرة العامة في وزارة الطاقة والمياه أورور فغالي، إلى أن استيراد المحروقات هذا العام تراجع 10% مقارنة مع العام الفائت، باستثناء المازوت الذي ارتفعت نسبة استيراده 15%، نافية وجود أزمة محروقات في لبنان، إذ تعتبر أن اللبنانيين هم من افتعلوا الأزمة بسبب تخزين مواد المازوت بكميات كبيرة للتدفئة والطهي، وأن هناك شرفات منازل تضم أكثر من 10 قوارير غاز.
وترفض فغالي تحميل وزارة الطاقة مسؤولية أزمة المحروقات، معتبرة أن ثمة مسؤولية تشاركية بين وزارة الاقتصاد والمالية، والحكومة مجتمعة لدراسة هذا الملف.
وقالت للجزيرة نت إن "ثمة من يفتعل الأزمات لإثارة القلق لدى الناس، واستيراد المازوت يواجه عراقيل أكثر من استيراد الفيول، والتغذية الكهربائية مؤمنة شرط أن تلحظها الموازنة الحكومية، وما زالت الاجتماعات مستمرة في هذا الشأن".
تداعيات الأزمة
ويذكر الأكاديمي الباحث ناصر ياسين، المشرف على مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية ببيروت، أن ملف التدفئة أساسي، وتحديدا في المناطق الريفية مثل بعلبك والبقاع وعكار التي ترتكز على الحطب إلى جانب المازوت، وأن رفع الدعم عن المحروقات سيؤدي إلى زيارة أسعار البنزين والمازوت والغاز بما يتجاوز 160%.
ويتوقع ياسين -في تصريح للجزيرة نت- أن يؤدي رفع الدعم إلى زيادة بمعدل مرتين ونصف من كلفة إنفاق الأسرة على الكهرباء والغاز والنقل والتدفئة والطهي، وأن معظم العائلات اللبنانية ستضطر لتغيير نمط استهلاكها للمحروقات والوقود.
ويرجّح ياسين أن يصبح اللبنانيون بعد رفع الدعم أشبه باللاجئين في بلدهم، وأن ينتظروا دعم برامج الشتاء الدولية والسعي لتأمين شراء المحروقات بقسائم إغاثية. ويرى أن لبنان أمام سيناريوهات مختلفة بشأن المحروقات، إما الاستمرار بالدعم ويعني ذلك استخدام المزيد من ودائع الناس، أو رفع الدعم كليا مما يفتح البلد على مأزق اجتماعي كبير حين يشعر اللبنانيون بوطأة تحرير الأسعار، والسيناريو الثالث يتمثل برفع الدعم تدريجيا عبر تحرير جزء من سعر صرف الليرة، ليستهدف الفئات الأكثر فقرا.
والخطر في هذه الحلول -وفق الباحث- هو أن لجميعها تداعيات سلبية، بينما الاستمرار بالدعم ليس حلا مستداما ولا يؤمن العدالة الاجتماعية. ويأسف ياسين لأن الدولة لا تعمل على إيجاد حلول بديلة للأسر الأكثر فقرا في الشتاء، كتأمين قسائم مازوت لهم، ويتوقع تفاقم أزمة الكهرباء العام المقبل، وأن تنخفض ساعات التغذية إلى ما دون 7 ساعات يوميا، في حال عدم وضع خطة طارئة لهذا القطاع الذي كبّد الدولة ديونا وخسائر هائلة نتيجة فساده وسوء إدارته.