خلاف غير مسبوق بين البنك المركزي التونسي والحكومة.. ما أسبابه وتداعياته؟
تمر تونس بأزمة مالية مقلقة جراء الخلاف غير المسبوق بين البنك المركزي التونسي والحكومة حول مشروع الموازنة التعديلية للعام الحالي؛ فبينما تسعى الحكومة للتداين من البنوك التونسية لتمويل عجز الموازنة، يرفض البنك المركزي التونسي إعادة تمويل البنوك تمهيدا لإقراضها.
وتفجر هذا الخلاف بعد الارتفاع الخيالي لعجز الموازنة هذا العام، والذي بلغ 14 مليار دينار (5 مليارات دولار)، أي 13.4% من الناتج الإجمالي، في حين كان مقدرا بالموازنة الأصلية بـ3% فقط. والحكومة تفسر ارتفاعه بصرف مساعدات اجتماعية واقتصادية جراء كورونا.
وتبعا لذلك، تخطط الحكومة لتعبئة موارد إضافية بنحو 10 مليارات دينار (3.5 مليارات دولار) لتمويل العجز خلال ما تبقى من العام الجاري، ليرتفع إجمالي موارد الاقتراض من السوق الداخلية هذه السنة إلى 14.2 مليار دينار (5 مليارات دولار) ونحو 7 مليارات دينار من الاقتراض الخارجي.
تداين مفرط
بيد أن البنك المركزي التونسي الذي يمنعه قانونه الأساسي من التمويل المباشر للموازنة، ويضبط مهامه بالتحكم في الأسعار والمساهمة في الاستقرار المالي؛ يرفض مساعي الحكومة لاقتراض هذه المبالغ الطائلة، محذرا من ارتفاع التضخم وتدهور الدينار وتدني الترقيم السيادي للدولة.
وتعليقا على هذه الأزمة، قال محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي أمام أعضاء لجنة المالية في البرلمان التونسي، الأربعاء الماضي، إن مشروع الموازنة التعديلية يتضمن عجزا يفوق بكثير تداعيات جائحة كورونا، وهو ما يتطلب إفراطا في الاقتراض الداخلي في وقت وجيز.
وبسبب صعوبة الاقتراض من الخارج نتيجة الأزمة المالية في ظل تفشي وباء كورونا، وتراجع الترقيم السيادي لتونس؛ يرى العباسي أن لجوء الحكومة للاقتراض الداخلي يسلط ضغطا عاليا من قبلها على السيولة المالية، عوض توجيهها لدفع الاستثمار والتشغيل، داعيا الحكومة لمراجعة موازنة 2020 وخفض الإنفاق بدل التداين.
وحاول العباسي تبرير رفضه لخطط الحكومة لتمويل عجز الموازنة بأن إجراءاتها ستزيد من تعميق الأزمة المالية، وستمس القوة الشرائية للتونسيين، وستدمر مجهودا وعملا استمر سنوات من قبل البنك المركزي لخفض معدل التضخم إلى 5.4% وتدعيم قيمة الدينار التونسي.
سيادة مهددة
وتعقيبا على هذه الأزمة المندلعة، يقول وزير المالية الأسبق حكيم بن حمودة للجزيرة نت إن الوضعية المالية التي تعيشها تونس تتجاوز الأزمة الاقتصادية الكلاسيكية، لترتقي إلى مسألة تهدد الأمن القومي بسبب استفحال عجز الموازنة وارتفاع نسبة المديونية إلى أكثر من 90%.
ويؤكد حكيم بن حمودة أن تونس تعيش حاليا أصعب فتراتها في التاريخ الحديث من حيث تفاقم المديونية التي كانت في حدود 72% سنة 2019، مبينا أنه إذا تواصل الخلاف مع البنك المركزي فإن "هذه الوضعية ستجر البلاد نحو إعادة جدولة ديونها، وهو بداية الطريق نحو الإفلاس".
ويقول أيضا إن الدخول في هذا الطريق سيؤثر مباشرة على السيادة الوطنية في صنع القرار الاقتصادي، وسيجعل مفاوضاتها -سواء كانت مع صندوق النقد أو مع المؤسسات المالية الدولية- قاسية، وبشروط عسيرة؛ بالنظر إلى اختلال توازناتها المالية الكبرى، وتراجع ترقيمها السيادي.
ويضيف أنه حتى وإن تمكنت الحكومة من تجاوز أزمة تمويل عجز الموازنة لهذا العام عبر الاقتراض من البنوك التونسية، فإن ذلك ستكون له تداعيات وخيمة على الاستثمار الخاص وتمويل المؤسسات الاقتصادية، باعتبار أن الحكومة تقوم بامتصاص جزء كبير من السيولة لسد نفقاتها.
جدولة ديون
ويرى الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان أن تونس تمر بمأزق كبير جراء اختلال التوازنات المالية للدولة، وحصول هذا الخلاف بين البنك المركزي والحكومة حول تمويل عجز الموازنة، معربا عن خشيته من أن تتسبب الأزمة المالية في إعادة جدولة ديون تونس.
ويتابع سعيدان للجزيرة نت أن "تونس لم تتأخر ولو ساعة واحدة عن الوفاء بالتزاماتها المالية مع الخارج منذ الاستقلال، وإذا بلغنا مرحلة إعادة جدولة الديون جراء هذه الوضعية المالية الصعبة، فيا خيبة المسعى"! منتقدا تأخر عملية إصلاح الاقتصاد بسبب التجاذبات السياسية وتعاقب الحكومات خلال وقت قصير.
ويرجع هذا الخبير اختلال التوازنات المالية وارتفاع عجز الموازنة من سنة لأخرى إلى ارتفاع نفقات الدولة بنسق كبير لا يتماشى مع النمو الاقتصادي الذي تراجع بشكل كبير العام الجاري.
ويرى سعيدان أن الحكومة لن تكون قادرة على توفير موارد مالية إضافية لسد عجز الموازنة الحالي في حالة عدم موافقة البنك المركزي التونسي على إعادة تمويل البنوك التونسية، قائلا "هذا غير مسبوق، لكن من غير الممكن أن تستمر الدولة من دون أن تكون لها موازنة تعديلية".