تشوهات الطبقة الوسطى وإشكالات البرجوازية بفلسطين

تشوهات الطبقة الوسطى.. وإشكالات البرجوازية في فلسطين

كثيرا ما تنقصنا كباحثين في الشأن الاقتصادي الفلسطيني بيانات إحصائية مفصلة عن مستويات الدخل والمعيشة للفلسطينيين، وهي البيانات التي خلت منشورات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني منها لأسباب واعتبارات أتفهمها دون إنقاص من شأن الجهاز، الأمر الذي يحد من قدرتنا على البناء الهيكلي لتركيبة الدخل والإنفاق للأسر الفلسطينية ضمن معايير طبقية وديمغرافية مختارة.

وفي السياق ذاته، فإنه بالإمكان الاستئناس ببعض المؤشرات والظواهر الاقتصادية ذات الصلة التي إن أحسنّا الربط فيما بينها، فسنحصل على "صورة طبقية" للمجتمع الفلسطيني تمكننا من قراءة تناقضاته واختلالاته البنيوية الآخذة بالتجذر.

البورجوازية الفلسطينية
والحديث عن البرجوازية هنا لا ضمن سياقها التاريخي بقدر ما هو سياق محكوم بالمكان والزمان، فالبرجوازية (أو الطبقة العليا) الفلسطينية تتمثل بفئة المحتكرين وأصحاب الوكالات الحصرية والربح الفاحش، وهي طبقة تسعى دائما للتقرب من النظام السياسي عبر تزاوج المال بالسلطة، فكانت الفترة ما بعد أوسلو مستنبتا خصبا لها، تمكنت خلالها من تطويع القوانين الاقتصادية بما يخدم مصالحها، وبما يضمن تهاون السلطات التنفيذية في تطبيق القوانين عليها.

وهي فئة لا تأبه على الأغلب بمدى مشروعية الكسب، وقد تستحل المال العام، وتمرر من تحت الطاولة ما لا يتسعه ظهرها، فاستحقت بكل ذلك التربع على عرش المال والقرار، فأدخلت إلى المجتمع الفلسطيني سلوكيات وأنماط استهلاكية لا تنسجم مع الواقع الاحتلالي الذي يعيش، وسهّلت على باقي الطبقات محاكاة أنماطها الاستهلاكية (من سيارات فارهة وقصور وفنادق ومطاعم وماركات)، لتتستّر وتذوب وسط زحام اللاهثين وراء حلم البرجوازية.

الطبقة الوسطى
طبقة اقتصادية وسطى أم طبقة اجتماعية وسطى؟

قد لا نجد تعريفا موحدا شافيا للطبقة الوسطى في فلسطين، لكن ثمة قواسم ومعايير اقتصادية وسلوكية وقيمية مشتركة تجمعها، فهي فئة تسعى لضمان مصالحها من خلال دعم السلم الأهلي، والسعي لمجتمع مدني يُحترم فيه القانون وتصان فيه الحريات وتتحقق فيه العدالة والمساواة.

وهي بذلك طبقة اجتماعية وسطى أكثر منها اقتصادية وسطى، فالعمالة الفلسطينية في إسرائيل، وأصحاب الحرف والمهن الحرة لا ينتمون اجتماعيا لتلك الطبقة، رغم أن دخولهم تراوح دخول الأكاديميين وأساتذة الجامعات والأطباء والمحامين والإعلاميين وموظفي الشركات ومؤسسات المجتمع المدني أو تزيد.

أي أن الطبقة الوسطى اللامعة فلسطينيا والمتربعة على عرش التشريع والتشغيل والتنظير والتغيير هي طبقة من النخب الأكاديمية والإعلامية والحزبية، تزحف باتجاه البرجوازية، وتدافع عن الوضع الراهن ما كان متماشيا مع زحفها، وتنادي بالتغيير إذا ما توقفت عجلة زحفها الدؤوب، وهي بمقاييس الاحتلال الطبقة الأكثر اعتدالا فكريا وسياسيا.

البرجوازية  الفلسطينية تتمثل بفئة المحتكرين وأصحاب الوكالات الحصرية والربح الفاحش، وهي طبقة تسعى دائما للتقرب من النظام السياسي عبر تزاوج المال بالسلطة، فكانت الفترة ما بعد أوسلو مستنبتا خصبا لها، تمكنت خلالها من تطويع القوانين الاقتصادية بما يخدم مصالحها

 

تشوهات
لا تشكل الطبقتين العليا والمتوسطة أكثر من 10% من الفلسطينيين، إلا أنهما الطبقتان المتحكمتان بمفاتيح المال والسلطة والتشريع والإعلام، أو بعبارة أخرى، بمفاتيح الحياة اليومية لرام الله، الأمر الذي قد لا ينسحب بالوتيرة نفسها على قطاع غزة الذي تأخذ فيه الاعتبارات السياسية والتنظيمية دورا أكبر في صياغة واقع الحياة اليومية فيه، نظرا لظروف الحصار والمقاومة والحروب التي تسببت بارتفاع كبير في معدلات الفقر والبطالة التي تجاوزت 40% و41% على التوالي هناك، ما أدى لتراجع ملموس في حجم وتأثير الاعتبارات المالية والوظيفية للطبقتين العليا والمتوسطة لصالح طبقة وسطى اكتسبت شرعيتها من استحقاق المقاومة.

ويبدو أن الحراك والصراع الطبقي المتمثل بسعي كل من الطبقة الوسطى في محاكاة نمط البرجوازية من جهة، والطبقة الدنيا للوصول للطبقة المتوسطة من جهة أخرى، أدى لإحداث اختلالات اقتصادية في منظومة الدخل والإنفاق في المناطق الفلسطينية، ويمكن الاستدلال على تلك التشوهات من المؤشرات التالية:

أولا: شكّل الإنفاق النهائي للفلسطينيين 120% من مجموع الإنتاج أو الدخل المتحقق في الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)، أي أن نمط الحياة الاستهلاكية يجعلنا ننفق 120% من دخلنا، وندّخر – 20%!!! في الوقت الذي تنفق فيه دولة كالصين 36% من مجموع دخلها، وتدّخر 64% منه.

ومما لا شك فيه أن أسلوب المحاكاة من قبل الطبقات الزاحفة للأعلى جعلها تلجأ إلى طرق مشروعة في بعضها، وغير مشروعة في بعضها الآخر للحفاظ على "البرستيج" الطبقي.

‪أحد الأسواق بقطاع غزة‬ (الجزيرة-أرشيف)
‪أحد الأسواق بقطاع غزة‬ (الجزيرة-أرشيف)

ومن تلك الطرق الاقتراض من المؤسسات المصرفية، أو بيع الأراضي الموروثة عن العائلة، أو البحث عن تنوع مصادر الدخل. أو قد تكون تلك الطرق حالات من النصب أو التحايل أو التمويل بالعجز، أو قد تكون بسرقة المال العام.

ثانيا: ارتفاع وتيرة الإقراض للأفراد من المؤسسات المصرفية في السنوات الخمس الماضية بتسعة أضعاف معدل نمو الإنتاج والدخل، فقد زادت القروض الشخصية خلال تلك الفترة بما معدله 23%، في حين لم تزد معدلات الإنتاج أو الدخل خلال الفترة نفسها بأكثر من 2.5%.

ثالثا: لم تحظ القطاعات الإنتاجية (الصناعية والزراعية) بأكثر من 5.2% من مجموع التسهيلات الائتمانية، فلم تتجاوز نسبة الإقراض الصناعي والزراعي 4% و1.2% من مجموع الإقراض على التوالي. أي أن كل السياسات النقدية التوسعية من قبل سلطة النقد الفلسطينية كانت لأغراض استهلاكية، الغرض منها تعزيز الحراك الطبقي على حساب الحراك التنموي. علما أن مجموع التسهيلات الائتمانية (القروض) الممنوحة للأفراد قد فاقت 6.87 مليار دولار مع نهاية العام 2016.

رابعا: رغم زيادة متوسط الرواتب للموظفين العموميين في الضفة الغربية بنسبة 57%، خلال الفترة 2004-2016، (وهي تفوق نسبة الزيادة في الأسعار التي لم تتجاوز 43% خلال الفترة نفسها)، فإن المتتبع لأنماط الاستهلاك ومستويات المعيشة لفئة الموظفين يلحظ تراجعا كبيرا في قدرتهم على الادخار، ومطالب مستمرة منهم بزيادة الرواتب، لا من أجل جدول غلاء المعيشة، بل من أجل تحسين الظروف المعيشية والأنماط الاستهلاكية الدخيلة، الأمر الذي ينذر بتلاشي القاعدة الادخارية من المجتمع الفلسطيني. علما أن معدل الزيادة في رواتب الموظفين العموميين في قطاع غزة لم يتجاوز 34% خلال الفترة ذاتها.

شكّل الإنفاق النهائي للفلسطينيين 120% من مجموع الدخل المتحقق في الأراضي الفلسطينية، أي أن نمط الحياة الاستهلاكية يجعلنا ننفق 120% من دخلنا، وندّخر – 20%!!! في الوقت الذي تنفق فيه دولة كالصين 36% من مجموع دخلها، وتدّخر 64% منه.

خامسا: التزايد الملحوظ في تفاوت الدخول بين الفلسطينيين، فرغم أن فئة العمال في الضفة الغربية وقطاع غزة شكلت 67% و63% على التوالي من مجموع المستخدمين بأجر للعام 2016، فإن معدل الزيادة في أجور هذه الشريحة لم يتجاوز 19% خلال الفترة 2004-2016، في حين بلغت معدلات التضخم خلال الفترة ذاتها 43%، أي أن القوة الشرائية لتدفقات العمال تراجعت بشكل لافت.

من كل ما سبق نخلص لنتيجة مفادها أن نزعة النمط الاستهلاكي في حياتنا اليومية غير المدعومة بأي قواعد إنتاجية حقيقية، ستؤدي حتما إلى اقتصاد أشبه بالمسخ، ومجتمعات تنفخ في فقاعة من مصادر التمويل المؤقت، وذوبان تدريجي للطبقة الفاعلة إنتاجا وادخارا واستهلاكا، وهي الطبقة الوسطى التي إما ستتمكن من اللحاق بركب البرجوازية، وإما ستهوي بعد انفجار الفقاعة إلى الطبقة الدنيا، وفي كلتا الحالتين ستكون الآثار الاقتصادية والاجتماعية كارثية.

وبالتالي فإن على كافة مراكز التأثير الأكاديمية والحزبية والمدنية في مجتمعاتنا أن تعيد للثقافة الإنتاجية رمزيتها الوطنية والتحررية، وأن يكون التمكين والانعتاق عنوانا للجيل القادم الذي يجب أن ينشأ على ثقافة ترتيب الحاجات الاستهلاكية وضبط الرغبات، بعيدا عن المغالاة في محاكاة أنماط البرجوازية التي لن تقودنا ضمن سياقها الزماني الحالي إلا إلى مزيد من التبعية والارتباط بقواعد الإنتاج الإسرائيلية، وبالتالي مزيدا من الاحتلال.

——-

أستاذ الاقتصاد – جامعة النجاح الوطنية

المصدر : الجزيرة