الاقتصاد العالمي: سياسات نقدية ومالية خاطئة

نايري وودز

نايري وودز

حذرت مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد من خروج الاقتصاد العالمي عن مساره إذا لم تعمل الدول كافة معاً بشكل تعاوني.

وعلى نحو مماثل، حذرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من عدم الانتباه إلى ضرورة تحرك البلدان "على وجه السرعة" و"بشكل جماعي" لتعزيز آفاق النمو العالمي.

ومع ذلك، فشل وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في مجموعة العشرين -الذين كانت هذه المناشدات موجهة إليهم- في التوصل إلى توافق حول أي إجراء من هذا القبيل في اجتماعهم الأخير بمدينة شنغهاي الصينية.

انقسامات واضحة بين المسؤولين الماليين
فشل الاتفاق على سياسة نقدية ومالية
الحوكمة الموزعة في التجارة

انقسامات واضحة بين المسؤولين الماليين
من المؤكد أن البيان الذي صدر بعد الاجتماع يتضمن التعهد باستخدام "كل الأدوات السياسية -النقدية والمالية والبنيوية- بشكل فردي وجماعي، بهدف "تعزيز الثقة والحفاظ على التعافي وتقويته".

يرى بنك التسويات الدولية في تقريره السنوي الصادر عام 2015 أن السياسة النقدية حُمِّلت ما لا تطيق في محاولة لتنشيط النمو، وهي الحقيقة التي تجلت في استمرار أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض

لكن البيان يعكس أيضاً انقسامات واضحة -خاصة في ما يتعلق بالدور الذي تلعبه السياسة النقدية والمالية في تحفيز النمو- بين وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية الذين اتفقوا على نص البيان.

فعلى صعيد السياسة النقدية، يقدم البيان تصريحاً فارغاً مفاده أن مجموعة العشرين "ستواصل دعم النشاط الاقتصادي وضمان استقرار الأسعار بما يتفق مع تفويض البنوك المركزية". بيد أن هذا يتجنب السؤال المركزي: هل ينبغي للبنوك المركزية أن تسعى إلى تحفيز النمو من خلال سياسات نقدية "غير تقليدية"؟

يرى بنك التسويات الدولية أنه لا ينبغي لها أن تفعل ذلك، فقد أوضح في تقريره السنوي الصادر عام 2015 أن "السياسة النقدية حُمِّلت ما لا تطيق" في محاولة لتنشيط النمو، وهي الحقيقة التي تجلت في "استمرار أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض".

وكانت النتيجة حلقة مفرغة من الديون المفرطة والنمو الهزيل، وأسعار الفائدة الشديدة الانخفاض، والتي تعمل -حسب تعبير رئيس قسم النقد والاقتصاد في ببنك التسويات الدولية كلاوديو بوريو- على "توليد أسعار فائدة أشد انخفاضا".

بيد أن هذا التحليل الواقعي لم يمنع بنك اليابان أو البنك المركزي الأوروبي من توظيف المزيد من التيسير الكمي، ولم يردع محافظ بنك الشعب الصيني تشو شياو تشوان عن التعبير عن الاستعداد لتحمل المزيد من أعباء تحفيز النمو في شنغهاي.

لكن لا يستطيع أحد تجاهل الرسالة الواضحة، بل إن محافظ بنك الهند راغورام راجان وجه الدعوة إلى صندوق النقد الدولي لدراسة تأثيرات السياسة النقدية غير التقليدية ليس فقط على البلدان التي تنفذها، بل وأيضاً على بقية العالم.

وعلى نحو مماثل، أشار محافظ بنك إنجلترا مارك كارني إلى أن البلدان التي تستخدم أسعار الفائدة السلبية (بما في ذلك اليابان مؤخرا) تعمل -من خلال فرض خفض قيمة العملة- على تصدير الطلب الضعيف، وهي في نهاية المطاف لعبة محصلتها صفر.

وعندما يتعلق الأمر بالسياسة المالية، كانت الاتفاقات قاصرة على نحو مماثل. ويحث صندوق النقد الدولي بلدان الفائض -مثل ألمانيا- على تقديم المزيد من التحفيز. كما دعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بلدانها الأعضاء الثرية إلى الاستفادة من قدرتها الحالية على الاقتراض لفترات طويلة بأسعار فائدة منخفضة للغاية؛ لزيادة الاستثمار المعزز للنمو في البنية الأساسية.

وقد استفزت هذه الدعوات رداً حاداً من قبل وزير المالية الألماني فولفغانغ شويبله الذي أدان "نموذج النمو القائم على التمويل بالاستدانة".

وكانت نتيجة هذا الصراع الإعلان الغامض الصادر عن مجموعة العشرين عن اعتزامها استخدام "مرونة السياسة المالية لتعزيز النمو، وخلق فرص العمل، وتعزيز الثقة، مع تعزيز المرونة وضمان وضع الدين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي على مسار مستدام".

فشل الاتفاق على سياسة نقدية ومالية
وفي ضوء تصريحات صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يبدو هذا الفشل في الاتفاق على سياسة نقدية ومالية أمراً بالغ الخطورة. ولكن ربما تبالغ كلتا المؤسستين في تقدير حجم المشكلة.

الواقع أنه رغم انتشار حالة عدم اليقين على نطاق واسع (تدفقات رأس المال المتقلبة، وتراجع أسعار السلع الأساسية، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، وصدمة خروج بريطانيا المحتمل من الاتحاد الأوروبي، وأزمة اللاجئين الطاحنة)، فربما يكون تعثر التعاون العالمي أقل خطورة اليوم مما كان عليه حتى قبل عشر سنوات فقط. وكان العامل الرئيسي في هذا السياق الاعتراف الواسع النطاق بالمخاطر الكامنة في العولمة الاقتصادية، والجهود المنسقة لبناء المرونة اللازمة على أسس وطنية وثنائية وإقليمية.

في طار اجتماع شنغهاي، تعهد صناع سياسات مجموعة العشرين بتبني مجموعة من الأدوات السياسية لتعزيز النمو العالمي وتجنب حروب العملة، ولم يوفوا بهذا الوعد

ولنتأمل هنا مسألة التمويل.. فقبل عشرين عاما، بدأت أزمة مالية مأساوية في تايلند، وسرعان ما انتشرت إلى مختلف بلدان شرق آسيا. ومنذ ذلك الحين، عملت هذه الاقتصادات -وغيرها في العالم الناشئ- على تأمين نفسها ضد الأزمات، من خلال بناء مخزونات ضخمة من احتياطيات النقد الأجنبي. ونتيجة لهذا جزئيا، ارتفع حجم الاحتياطيات من نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عام 1995 إلى نحو 15% اليوم.

كما تحتفظ الاقتصادات الناشئة بقدر أقل من الديون السيادية، وقد عملت على إبرام اتفاقيات ثنائية وإقليمية لمبادلة العملات. وبالإضافة إلى هذا، تطبق أكثر من 40 دولة تدابير تحوطية تتعلق بالاقتصاد الكلي منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.

وتستفيد الدول أيضاً من زيادة القدرة على الوصول إلى مصادر أكثر تنوعاً للتمويل. والآن تستطيع بعض البلدان الناشئة والنامية الوصول إلى أسواق السندات العالمية بشكل فردي. كما تنامى الدور الذي تلعبه بنوك التنمية الإقليمية، بما فيها بنوك التنمية الأفريقية والآسيوية والأميركية، فضلاً عن البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية الذي تأسس مؤخرا، وبنك التنمية الجديد.

الحوكمة الموزعة في التجارة
ويتجلى المظهر الأخير لهذا النمط الجديد من التعاون -والذي ربما يمكننا تسميته "الحوكمة الموزعة"- في التجارة، فرغم ترنح جولة الدوحة من المفاوضات ثم سقوطها، يتقدم تحرير التجارة بخطى سريعة نظراً لانتشار الاتفاقات الثنائية، والإقليمية، والإقليمية الفائقة.

وتخلف ترتيبات الحوكمة الجديدة هذه تأثيرات بالغة الأهمية في ما يتصل بتعزيز المرونة؛ ولكنها قد لا تقدم بديلاً أكثر كفاءة للتعددية، وهي لا تزيل الحاجة إلى المؤسسات التقليدية المتعددة الأطراف.. بل على العكس من ذلك، لا بد أن تكون هيئات مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، مسؤولة عن تحليل ونقل المعلومات المهمة إلى مجموعة من المؤسسات التي تتولى دورها التقليدي.

على سبيل المثال، يتعين على صندوق النقد الدولي أن يستجيب لطلب راجان تتبع وتحليل التأثيرات المترتبة على السياسات النقدية غير التقليدية. وعلى نحو مماثل، يمكنه أن يعمل على تعزيز تحليله لتأثير ضوابط رأس المال على البلدان التي تطبقها، وعلى بلدان أخرى. ويستطيع أيضاً أن يعود إلى إعداد النماذج لكيفية دعم إعادة هيكلة الديون السيادية بشكل أفضل، سواء على المستوى الوطني، أو من خلال سندات الطوارئ القابلة للتحويل والمرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي، أو على المستوى الإقليمي أو العالمي.

في إطار اجتماع شنغهاي، تعهد صناع سياسات مجموعة العشرين بتبني مجموعة من الأدوات السياسية لتعزيز النمو العالمي وتجنب حروب العملة، ولم يوفوا بهذا الوعد. لكن ربما تعزز فشلهم بفِعل التحول إلى مرحلة جديدة من الحوكمة الاقتصادية العالمية الموزعة.
_____________________________
عميدة كلية بلافاتنيك لعلوم الإدارة الحكومية، ومديرة برنامج الحوكمة الاقتصادية العالمية في جامعة أكسفورد.

المصدر : بروجيكت سينديكيت