الصناعة الفلسطينية بمواجهة الإدارة المدنية الإسرائيلية

بكر ياسين اشتية .. من الضروري أن تتوفر إرادة فلسطينية حقيقية لدعم وتحفيز القطاعات الإنتاجية الوطنية ومنحها كامل الدعم والأفضلية

بكر ياسين اشتية

تراجع في الأداء
منافسة غير متكافئة
السلطة الفلسطينية ليست اللاعب الوحيد

تطل علينا بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بأرقام باهتة لأداء القطاع الصناعي الفلسطيني للسنوات القليلة الماضية، فما بين عناق غير صحي بين اقتصاد ضعيف مستقطب وآخر يمتلك كافة مقومات الاستحواذ، وبين منافسة غير عادلة تخوضها الصناعات الفلسطينية مع مستورد لا يخضع للرقابة الكافية على الضرائب والجودة يبقى السؤال مشروعا بشأن فاعلية وكفاية السياسات الاقتصادية الفلسطينية المتبعة تجاه القطاعات الإنتاجية، ومدى جدوى العناق الاقتصادي المتسارع مع مكونات اقتصاد الاحتلال، سواء كان برغبة من صناع القرار والمتنفذين فلسطينيا، أو بإرادة إسرائيلية خالصة.

تراجع في الأداء
تعمل في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 قرابة 18 ألفا وخمسمئة منشأة صناعية، تراجعت قدرتها على تكوين الحسابات القومية خلال الفترة 1995-2015 من 22.9% إلى 13.2% من الناتج المحلي الإجمالي، أما متوسط القيمة المضافة المتولدة فلم يتجاوز ثمانين ألف دولار لكل منشأة خلال العام 2015، وهو ما يعكس صغر حجم المنشآت الصناعية الفلسطينية التي يشغل 98% منها أقل من عشرين عاملا لكل منشأة، و85% منها فردية الملكية يغلب عليها الطابع العائلي.

مصنع للشوكولاتة والمخبوزات في مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
مصنع للشوكولاتة والمخبوزات في مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

ومع استخراج صافي الاستثمار الصناعي الذي يعبر عن مقدار ما يضاف لرصيد رأس المال الصناعي (مجموع ما يضاف من أصول إنتاجية مطروحا منه الاهتلاكات) تتضح مؤشرات التراجع في الأداء للمنشآت الصناعية، حيث نجد صافي الاستثمار يحمل قيما سالبة منذ بدايات اتفاق أوسلو حتى اللحظة، الأمر الذي يعكس تراجعا سنويا ملحوظا في قدرة القطاع الصناعي الفلسطيني على تعزيز خطوط الإنتاج بتقنيات وأصول رأسمالية قادرة على رفع مستوى الإنتاجية وبالتالي القدرة التنافسية.

ويمكن ملاحظة التسارع في وتيرة التراجع في صافي الاستثمار الفلسطيني من خلال تتبع التراجع الكبير في رصيد رأس المال من -38 مليون دولار إلى -147 مليون دولار للعامين 2010 و2015 على التوالي.

والحديث عن صافي الاستثمار وتقنيات الإنتاج يقودنا لتتبع تراجع إنتاجية الوحدة النقدية المنفقة على عنصر العمل في القطاع الصناعي من 4.4 دولارات عام 2012 إلى 3.2 دولارات عام 2015 (يصل المؤشر في تركيا إلى 6.7 دولارات)، أي أن كل دولار ينفق على العامل الصناعي الفلسطيني يولد 3.2 دولارات قيمة مضافة.

ومن المعلوم أن تراجع هذا المؤشر يعكس ارتفاعا في متوسط كلفة إنتاج الوحدة، وبالتالي تراجع القدرة التنافسية، الأمر الذي يتضح كذلك بحساب متوسط إنتاجية العامل الصناعي الذي تراجع من 21.723 دولارا للعام 2012 إلى 16.120 دولارا للعام 2015.

منافسة غير متكافئة
في الوقت الذي تشتد فيه الرقابة على شروط المواصفات والمقاييس للمنتجات فلسطينية المنشأ، وفي ظل الرقابة الصارمة على التزاماتها الضريبية والجمركية، وضعف قدرتها على الاستفادة من إعفاءات قانون تشجيع الاستثمار نظرا لحجمها الصغير نسبيا وطابعها العائلي تتفاقم مشكلة الصناعات الفلسطينية في ظل المنافسة غير المتكافئة مع الواردات، فالمستورد الفلسطيني يتمتع بقدرة عالية على التهرب الجمركي والضريبي، وقدرة على التلاعب بشروط جودة ومواصفات السلع المستوردة، مما يجعل الصناعات الفلسطينية في موقف لا تحسد عليه تنافسيا، خاصة مع وكلاء المنتجات الإسرائيلية التي تشكل أكثر من 70% من هيكل الواردات الفلسطينية من الخارج.

ناشطون يدعون إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية داخل متجر في بيت لحم (أسوشيتد برس)
ناشطون يدعون إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية داخل متجر في بيت لحم (أسوشيتد برس)

ويبدو أن صانع القرار الاقتصادي في فلسطين لا يملك صلاحية المساس بطبقة كبار التجار والوكلاء الحصريين، فلا أقل من تفعيل جهاز الضابطة الجمركية الموكلة له صلاحيات ضبط التهرب الضريبي والتلاعب بالمواصفات والمقاييس، فمن بين أكثر من 65 ألف عنصر أمن فلسطيني في الضفة الغربية لم يفرز لجهاز الضابطة الجمركية إلا ثلاثمئة عنصر ميداني موزعين على ثلاث ورديات، مما سهل على المستورد الفلسطيني التهرب من التزاماته تجاه الضريبة والمواصفات، وبالتالي رفع قدرته التنافسية مقابل المنتج الوطني.

والأمثلة كثيرة على مظالم الصناعات الوطنية، نذكر منها صناعة الألبان والأجبان التي تواجه منافسة غير متكافئة مع المنتجات الإسرائيلية التي تغرق أسواقنا الفلسطينية دون أن تستوفي شروط المواصفات الفلسطينية من حيث نسبة المضافات الكيميائية والمواد الحافظة المرتفعة، ودون أن تحمل بطاقة بيان توضح تاريخ الإنتاج، وهي تجاوزات كفيلة بسحب وإتلاف وتغريم أي منتج فلسطيني ثبتت عليه تلك التجاوزات.

السلطة الفلسطينية ليست اللاعب الوحيد
مع تراجع قدرة المؤسسات الاقتصادية الفلسطينية على تنظيم شؤون الأسواق، سواء كان ذلك بفعل متعمد من قبل الجانب الإسرائيلي أو بسوء إدارة وتخطيط فلسطيني، في الحالتين بدأنا نلحظ ظهور لاعب جديد في المشهد الاقتصادي الفلسطيني الداخلي، وهو ما يمكن اعتباره عودة ناعمة للإدارة المدنية الإسرائيلية من خلال كبار التجار والمستثمرين الفلسطينيين الذين لا يجاهرون (في المرحلة الراهنة على الأقل) بعلاقاتهم الاقتصادية المباشرة مع من تعتبره دولة الاحتلال الحاكم المدني الإسرائيلي للضفة الغربية يوآف موردخاي، سواء في مقره بمستعمرة بيت إيل المحاذية للعاصمة السياسية رام الله أو في مقره بمدينة القدس.

فلسطينيون يعملون في مصنع إسرائيلي قرب مستوطنة معاليه أدوميم بالضفة الغربية (الفرنسية)
فلسطينيون يعملون في مصنع إسرائيلي قرب مستوطنة معاليه أدوميم بالضفة الغربية (الفرنسية)

فمن كلا المقرين يتم تسجيل شركات فلسطينية استثمارية وشراكات تجارية مع الإسرائيليين مع تسهيل إجراءات الاستيراد، ومنح تصاريح وبطاقات (VIP) لأغراض تسهيل العناق والذوبان غير الصحي بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي تمهيدا لمرحلة ضم معظم أراضي الضفة الغربية إداريا وسياسيا وأمنيا إلى دولة الاحتلال، الأمر الذي أعتقد أنه بات أقرب مما كنا نتخيل، ففي السنة الماضية وحدها تم تسجيل 86 شركة فلسطينية برقم مشتغل مرخص إسرائيلي من خلال الحاكم المدني الإسرائيلي دون الرجوع لمؤسسات السلطة الفلسطينية، هذا إضافة لأكثر من 2.5 مليار دولار استثمارات فلسطينية في الجانب الإسرائيلي، وما لا يقل عن خمسمئة مليون دولار استثمارات وشراكات فلسطينية في المستعمرات الإسرائيلية المقامة على أراضي الضفة الغربية.

والواضح هنا أن تلك الشراكات الاقتصادية وعناق السلام الاقتصادي من قبل رأس المال الفلسطيني الباحث عن تعزيز مكاسبه الاستثمارية سيسرعان مخططات الضم والدمج، الأمر الذي يعيدنا لما بدأنا الحديث عنه، وهو ضرورة توفر إرادة فلسطينية حقيقية لدعم وتحفيز القطاعات الإنتاجية الوطنية ومنحها كامل الدعم والأفضلية في وجه المنافس التجاري بوكالة أو شراكة إسرائيلية.

خلاصة القول إنه إذا لم نظهر كفلسطينيين للعالم قدرة عالية على إدارة الأزمة فلن يقف أي طرف في صفنا، فالإخفاقات المستمرة في إدارة ملفات العجز المالي، وتراجع القدرة الإنتاجية، وضبط الأسواق، والفقر والبطالة والفساد المالي والإداري كلها ستعجل انهيار المنظومة المالية والاقتصادية للسلطة الفلسطينية ليكون البديل المعد سلفا حاضرا وبقوة، وهو عودة الإدارة المدنية الإسرائيلية لتولي مقاليد الحكم في الضفة الغربية، الأمر الذي يتطلب منا وبكل تأكيد رفع جاهزية قطاعات الإنتاج الصناعي والزراعي لتكون هي خط الدفاع الأول في وجه السلام الاقتصادي المزعوم.
—————————
أستاذ الاقتصاد بجامعة النجاح الوطنية في نابلس

المصدر : الجزيرة