بداية ثورة مالية صامتة

قضية اقتصادية/ بداية ثورة مالية صامتة

undefined

محمد عبد الله العريان

بيئة التسعير وأسعار الفائدة
توقعات العملاء وتأثيرها على صناعة المال
حلول مصممة تبعا لحاجات الأفراد

بثبات وعلى نحو مؤكد لا لبس فيه، شرعت صناعة الخدمات المالية، التي بها نتفاعل جميعا سواء كنا مقترضين أو مدخرين أو مستثمرين أو جهات تنظيمية، في تحول سيستغرق سنوات عدة. وكانت هذه العملية، البطيئة في مستهل الأمر، مدفوعة بالتأثير المتراكم الناجم عن مجموعتين من القوى.

فمن ناحية، بدأت ثمة عوامل تؤتي أكلها متمثلة في التغيرات التنظيمية، والتسعير غير المعتاد، وما أسماه نورييل روبيني ببراعة مفارقة السيولة، ثم هناك التأثيرات المخلخلة للنظام القائم التي تتجه من أسفل إلى أعلى وتتمثل في متغيرات ما يفضله العملاء، وربما الأمر الأكثر أهمية هو أصحاب الرؤى القادمون من خارج المؤسسات الذين يسعون إلى تحويل وتحديث الصناعة المالية.

وإذا نظرنا في المستويات الأعلى نجد أنه لا تزال القواعد التنظيمية تميل نحو الإشراف الأكثر إحكاماً على المؤسسات المالية التقليدية، لا سيما البنوك وشركات التأمين الضخمة التي تعتبر ذات أهمية بالنسبة للمنظومة ككل.

وعلاوة على ذلك، ستمتد إلى قطاعات أخرى بشكل تدريجي الأطر التنظيمية التي أعيدت صياغتها، والتنفيذ المتدرج، وتقوية الإشراف، ومن القطاعات التي ستطالها هذه الأشياء إدارة الأصول.

ومن شأن هذا الأمر أن يساهم في المزيد من تعميم الاتجاه نحو إزالة المخاطر في القطاعات الخاضعة للتنظيم، وذلك ضمن تحرك أوسع نطاقا داخل القطاع المالي نحو إقامة ما يسمى "نموذج المنافع العامة" الذي يشدد على زيادة الاحتياطات من رأس المال، والإقلال من الاستعانة بالروافع المالية (الإنفاق بواسطة الاستدانة)، والمزيد من الإفصاح المالي، وفرض مبادئ توجيهية تشغيلية أكثر صرامة، وزيادة الإشراف والمراقبة بشكل كبير.

بيئة التسعير وأسعار الفائدة
كما تعمل بيئة التسعير على زيادة تأثير القواعد التنظيمية الأكثر تشددا، ومثلها كمثل المنافع العامة تواجه المؤسسات المالية الراسخة قيوداً خارجية على سلطة في التسعير، وإن لم تكن على النحو التقليدي.

وبدلاً من الخضوع لقواعد التسعير الصريحة والمبادئ التوجيهية، تعمل هذه المؤسسات في إطار نظام "القمع المالي" حيث ظلت أسعار الفائدة الرئيسية عند مستويات أدنى من المستويات التي كانت لتسود لولا ذلك. ويؤدي كل ذلك إلى تآكل هوامش الفائدة الصافية، كما يفرض ضغوطاً على بنية رسوم معينة، ويجعل بعض مقدمي الخدمة أكثر حذراً بشأن الدخول في علاقات مالية طويلة الأجل.

ونتيجة لهذين العاملين تصبح المؤسسات الراسخة -لا سيما البنوك الضخمة- ميالة إلى تقديم خدمات أقل لعدد أقل من الأشخاص، على الرغم من تدفقات السيولة التي تزودها بها البنوك المركزية (مفارقة السيولة).

ومن المتوقع أن توفر البنوك والتجار السماسرة قدراً محدوداً فقط من السيولة لعملائهم إذا سعى عدد كبير منهم إلى إعادة ترتيب أوضاعه المالية في الوقت نفسه. ولكن الأمر لا يتعلق بهم فحسب، ففي الحقيقة فإن مقدمي كل المنتجات المالية الطويلة الأجل، وخاصة التأمين على الحياة ومعاشات التقاعد، لم يعد لديهم خيار هذه الأيام غير تبسيط عروضهم، بما في ذلك خفض تلك التي لا تزال تقدم ضمانات طويلة الأجل لعملاء يبحثون عن قدر أعظم من الأمان المالي.

وسيؤدي تأثير العوامل التي تتجه من أعلى إلى أسفل، على صناعة الخدمات المالية إلى تضخيم أهمية العوامل من أسفل إلى أعلى تدريجيا. وبمرور الوقت ستستفيد هذه المجموعة الثانية من العوامل من تقديم الخدمات بصورة مباشرة أكثر وبكفاءة أكبر لمجموعة أوسع من المستهلكين، وهو ما سيساهم في إعادة تشكيل صناعة المال ككل.

توقعات العملاء وتأثيرها على صناعة المال
وستتطور توقعات العملاء في ظل تزايد حصة جيل الألفية في تحقيق أرباح الشركات وفي الإنفاق والاقتراض والادخار والاستثمار. ومع تفضيل العديد من هؤلاء العملاء الجدد أساليب حياة "موجهة ذاتيا" فسيضطر مقدمو الخدمات المالية إلى التحول من عقلية طرح منتجات تقديم حلول أكثر شمولية إلى أخرى تسمح بقدر أعظم من تكييف المنتج تبعاً لحاجات الأفراد.

كما ستتطور وظائف الاتصال المرتبطة بالسوق في ظل توقع المزيد من العملاء تفاعلا أكثر مصداقية وثباتا "في أي مكان وأي وقت وبأي طريقة".

وثمة تأثير آخر للعوامل الخارجية المخلة بالنظام القائم. وقد عبر عنها بشكل جيد الرئيس التنفيذي لشركة "جي بي مورغان شاس" جيمي ديمون في رسالته إلى حاملي الأسهم في العام 2015، إذ قال إن وادي السليكون قادم. إن هؤلاء الوافدين الجدد يريدون تطبيق حلول تكنولوجية ورؤى أكثر تقدماً من علم السلوك على هذه الصناعة المربحة، ولكنها كانت تميل إلى التقصير في خدمة عملائها.

وقد أثبتت شركتا "إيربي إنبي" و"يوبر" أن الإرباك الآتي من صناعة أخرى قوي بشكل خاص، لأنه ينطوي على تمكين التغيرات البنيوية المعززة للكفاءة والتي تعتمد على كفاءات وإستراتيجيات جوهرية تفتقر إليها الشركات القائمة.

والواقع أن العديد من الشركات الأخرى (على سبيل المثال شركة "رنت ذي رنوي" التي تقدم إيجارات قصيرة الأمد لأرقى منتجات الأزياء) تسعى إلى القيام بالشيء نفسه. ومهما اختلفت الوسائل فإن العوامل الخارجية التي تربك المنظومة تؤثر بالفعل على الهوامش التمويلية، وخاصة تلك الموضوعة لفائدة الناس الذين همشتهم الشركات التقليدية أو الذين فقدوا الثقة فيها.

حلول مصممة تبعا لحاجات الأفراد
وستكون النتيجة النهائية هي وجود صناعة تخدم الناس عبر قائمة أكبر من الحلول المصممة تبعاً لحاجيات الأفراد. ورغم أن الشركات التقليدية ستسعى إلى التكيف للحفاظ على هيمنتها، فإن أغلبها سيواجه التحدي المتمثل في "التعطيل الذاتي" لفِكرها ونهجها التشغيلي.

ورغم أن الشركات الناشئة ستقدم خدمات أفضل فإنها لن تتمكن بسهولة من التغلب بشكل فوري وحاسم على الجمود المؤسسي والتنظيمي الذي يعمل على ترسيخ مكانة الشركات التقليدية في السوق. ونتيجة لهذا، يصبح انتشار وتزايد مقدمي الخدمات المالية أمراً مرجحا، في ظل آفاق مشرقة بشكل خاص بالنسبة للشراكات المؤسسية التي تجمع بين المنصات القائمة الأكثر رشاقة والمحتوى الجديد والأساليب أكثر إثارة.
ـــــــــــــ
كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز وعضو لجنتها التنفيذية الدولية. وهو رئيس مجلس الرئيس باراك أوباما للتنمية العالمية

المصدر : بروجيكت سينديكيت