ماذا يجري في السياسة النقدية الروسية؟

صباح نعوش ..بسبب تفاقم المشاكل الاقتصادية والسياسية لم تقتنع رؤوس الأموال بجدوى الاستثمار في روسيا رغم إغرائها بأسعار فائدة مرتفعة

صباح نعوش

هروب رؤوس الأموال
قرارات البنك المركزي
تداعيات سلبية
تقديرات غير دقيقة

تعاني روسيا من انخفاض إيراداتها النفطية والغازية وهروب رؤوس الأموال وعجز مزمن في موازين الدخول والخدمات وهبوط حاد في الاحتياطي النقدي، ناهيك عن تفاقم أزمة المديونية الخارجية واستمرار العقوبات الاقتصادية وتزايد الإنفاق العسكري. ترتب على هذا الوضع انهيار أسعار صرف الروبل مقابل العملات الرئيسة، فتدهور مستوى المعيشة دون تحقيق نتائج استثمارية وتجارية إيجابية.

هروب رؤوس الأموال
قدر حجم رؤوس الأموال الأجنبية والوطنية التي تركت روسيا بنحو 63 مليار دولار عام 2013 أي 3% من الناتج المحلي الإجمالي. مارس هذا الهروب ضغطا على القيمة التعادلية للروبل فتدخل البنك المركزي عدة مرات لتفادي هبوطها. ونجح في ذلك لقاء بيع 28 مليار دولار من الاحتياطي النقدي.

لم يقُدْ هذا البيع إلى تداعيات اقتصادية خطيرة لأن إيرادات النفط -نتيجة ارتفاع الأسعار- كانت كفيلة بتعويضه رغم ضخامة مبلغه. وهكذا انخفض حجم الاحتياطي النقدي من 537.6 مليار دولار نهاية عام 2012 إلى 509.5 مليارات دولار نهاية عام 2013 حسب بيانات البنك المركزي.

اشتد الضغط العام المنصرم بسبب الأزمة الأوكرانية وما نجم عنها من عقوبات اقتصادية أوروبية وأميركية، وتضاعف حجم الهروب ليصل إلى 151 مليار دولار

ثم اشتد الضغط العام المنصرم بسبب الأزمة الأوكرانية وما نجم عنها من عقوبات اقتصادية أوروبية وأميركية. تضاعف حجم الهروب ليصل إلى 151 مليار دولار أي 8.1% من الناتج المحلي الإجمالي. وحاول البنك دعم سعر صرف الروبل فباع 124 مليار دولار. ومما زاد الطين بلة هبوط أسعار النفط فانخفضت إيرادات الدولة الداخلية والخارجية وبالتالي تدهور الوضع الاقتصادي برمته. أصبح حجم الاحتياطي النقدي نهاية العام المنصرم 385.4 مليار دولار.

قرارات البنك المركزي
أدرك البنك المركزي أن استمراره بنظام الصرف الثابت -تحت ظل العوامل الجديدة- سيقود إلى نضوب الاحتياطي النقدي فتتوقف الدولة عن الدفع أي تعلن إفلاسها. لذلك اتخذ قرارين، القرار الأول بتاريخ 10 نوفمبر/تشرين الثاني من العام الفائت القاضي بالتخلي عن مساندته للروبل معتمدا إذًن على نظام التعويم الحر. أدى هذا القرار إلى هبوط مباشر وحاد للقيمة التعادلية للعملة الروسية. فقد انتقل سعر صرفها من 39.3 روبلا للدولار الواحد في الربع الثالث من السنة المنصرمة إلى 56.2 روبلا للدولار الواحد في الربع الأخير منها. ثم استمر الهبوط ليصل حاليا إلى 71.2 روبلا.

أما القرار الثاني فيتضمن رفع سعر الفائدة من 10.5% (وهو أساسا أعلى معدل في الدول الصناعية والناشئة) إلى 17% يوم 16 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي.

توخى البنك تشجيع رؤوس الأموال على العودة إلى روسيا أو البقاء فيها، وبالتالي يزداد الاحتياطي النقدي فيتحسن سعر صرف الروبل وينخفض معدل التضخم. كما يفترض أن يقود هذا الإجراء إلى تمسك الأشخاص بحساباتهم المصرفية بدلا من سحب أموالهم وتحويلها إلى عملات أجنبية. لكن هذا القرار لم يقد عمليا إلى هذه النتائج بل تمخضت عنه انعكاسات سلبية عديدة.

تداعيات سلبية
بسبب تفاقم المشاكل الاقتصادية والسياسية لم تقتنع رؤوس الأموال بجدوى الاستثمار في روسيا رغم إغرائها بأسعار فائدة مرتفعة. كما أدت هذه الأسعار إلى تزايد كلفة الاقتراض، فهبط الاستثمار واستفحلت البطالة واستشرى الفقر. وعلى هذا الأساس وتزامنا مع انخفاض إيرادات النفط والغاز الطبيعي باتت معدلات النمو في روسيا سلبية قدرها 3.4% في العام الجاري حسب تقديرات صندوق النقد الدولي.

كما أخفق رفع أسعار الفائدة في الحد من تكالب الأفراد على تبديل الروبلات بالعملات الأجنبية وذلك بسبب عدم ثقتهم بالسياسة الاقتصادية المتبعة منذ عقدين والتي ولدت أربع أزمات اقتصادية خانقة.

قاد هبوط سعر صرف الروبل إلى ارتفاع التضخم ليصل إلى 16% فتضررت جميع فئات المجتمع الروسي لا سيما أصحاب المرتبات الذين تهاوت دخولهم الحقيقية. علما بأن التضخم لم ينجم عن عوامل نقدية فقط بل كذلك عن أسباب سياسية بحتة

ومنذ سبتمبر/أيلول الماضي قرر البنك المركزي تخفيض أسعار الفائدة الاسمية حتى وصلت حاليا إلى 11% أي أقل من معدل التضخم. وهكذا أضحت أسعار الفائدة الحقيقية سلبية بمقدار أربع نقاط مئوية على أقل تقدير (الفرق بين الأسعار الاسمية ومعدل التضخم). وإذا كانت الأسعار السابقة غير قادرة على جلب رؤوس الأموال فإن قرار خفضها أضاف سببا جديدا للهروب. هنالك توقعات تشير إلى أن حجم هذا الهروب بلغ 118 مليار دولار هذا العام.

قاد هبوط سعر صرف الروبل إلى ارتفاع التضخم ليصل إلى 16% فتضررت جميع فئات المجتمع الروسي لا سيما أصحاب المرتبات الذين تهاوت دخولهم الحقيقية. علما بأن التضخم لم ينجم عن عوامل نقدية فقط بل كذلك عن أسباب سياسية بحتة. وأوضح مثال على ذلك المواد الغذائية التي ارتفعت أسعارها ارتفاعا كبيرا منذ النصف الثاني من العام المنصرم. ففي نطاق الرد على العقوبات الاقتصادية لنصرة "الكبرياء الروسي" قامت موسكو بفرض مقاطعة ضد استيراد السلع الزراعية الأوروبية والأميركية. أدى هذا الإجراء إلى انخفاض حاد في العرض فارتفعت أسعار السلع الغذائية وتدهور مستوى معيشة المواطنين.

وعلى عكس الدول الصناعية الكبرى، لم يقد هبوط سعر صرف العملة إلى نتائج تجارية إيجابية. لأن صادرات الاقتصاد الريعي الروسي تعتمد على النفط والغاز الطبيعي أي على سلع مسعرة بـ الدولار وليس بالروبل. وعلى هذا الأساس لا علاقة لسعر صرف العملة الروسية بالصادرات.

أما السلع الزراعية والصناعية المستوردة فهي مسعرة أيضا بالعملات الأجنبية وليس بالروبل. أي أن هبوط سعر صرف العملة الروسية يقود بالضرورة إلى ارتفاع أسعار استهلاكها، وبالتالي لم يسهم هذا الهبوط بدعم الميزان التجاري بقدر ما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية للمواطنين. والدليل على ذلك تفاقم حالة الفقر بسرعة فائقة وبصورة لم يسبق لها مثيل حتى وصل عدد الذين يعيشون دون خط الفقر إلى 22.9 مليون شخص.

كما لم يفْضِ هبوط الروبل إلى تحسن السياحة الأجنبية في روسيا لأنه تزامن مع تأزم العلاقات السياسية مع الغرب، ناهيك عن تدهور الوضع الأمني الداخلي. فقد صنفت روسيا في المرتبة العالمية رقم 126 من حيث الأمن والاستقرار، بحسب التقرير الأخير للمنتدى الاقتصادي العالمي. كما انخفض عدد السياح الروس المتجهين للخارج بنحو 60% وفق الاتحاد الروسي للقطاع السياحي، فتراجعت أنشطة عدة مؤسسات في مقدمتها شركات الطيران المدني.

إن الأثر الإيجابي المهم والوحيد لهبوط سعر صرف الروبل يتجلى بتقليص تحويلات العمال المهاجرين في روسيا. ففي النصف الأول من العام الجاري هبطت هذه التحويلات إلى 4.1 مليارات دولار أي أقل من نصف المبلغ الذي تم تحويله في الفترة نفسها من العام الماضي، الأمر الذي أدى إلى الحد من استنزاف الاحتياطي النقدي، لكنه أثر بشدة وبصورة سلبية على الدول المستفيدة. وتحتل تحويلات العمال المهاجرين إلى روسيا 12% من الناتج المحلي الإجمالي في أوزبكستان وترتفع النسبة إلى 21% في أرمينيا و42% في طاجيكستان، ناهيك عن إفقار الملايين من ذوي هؤلاء العمال الذين تعتمد معيشتهم اليومية على هذه التحويلات.

تقديرات غير دقيقة
نظم الروس ميزانيتهم الاتحادية للسنة المالية القادمة بعجز قدره 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وتوقعوا نموا اقتصاديا بنسبة 0.5%. تم حساب هذه النسبة وتلك استنادا إلى بيع النفط بخمسين دولارا للبرميل.

سعر خامات برنت هبط في الأيام الأخيرة ليصل إلى 36.5 دولارا. وعلى هذا الأساس تصبح التقديرات الروسية مبنية على أخطاء فادحة

لكن سعر خامات برنت هبط في الأيام الأخيرة ليصل إلى 36.5 دولارا. وعلى هذا الأساس تصبح التقديرات مبنية على أخطاء فادحة. سوف ينخفض النمو إذن إلى مستويات سلبية ربما تفوق معدل العام الجاري.

وستستمر السلطات المالية ببرامجها التقشفية التي لا تمس القطاع العسكري بل ميادين الصحة والتعليم والمرتبات وفرص العمل، كما ستلجأ إلى التمويل بالإصدار الجديد (طبع أوراق نقدية) نظرا لصعوبة الحصول على تمويل خارجي بسبب العقوبات الاقتصادية، وسيزداد الضغط الضريبي.

وهكذا سيقود انخفاض سعر النفط والسياسة الاقتصادية المتبعة إلى نفور رؤوس الأموال حتى وإن عادت أسعار الفائدة إلى الارتفاع مجددا. عندئذ سيهبط حجم الاحتياطي النقدي وسعر صرف الروبل، وسيرتفع معدل التضخم وتزداد البطالة ويتدهور مستوى المعيشة. سوف يكون العام 2016 تعيسا على السياسة النقدية الروسية.
_______________
باحث اقتصادي عراقي

المصدر : الجزيرة