الاقتصاد العالمي وساعة القرار

مايكل سبنس

مشكلات اقتصاد أميركا وأوروبا دون حل
عدم اليقين يجب أن يتبدد
تأثير إيجابي للسياسات الاقتصادية

مشكلات اقتصاد أميركا وأوروبا دون حل
انتهى الصيف بعد أن أخذ المسؤولون والحكومات والأسواق قسطا من الراحة في إجازاتهم، لكن تبقى مشكلة أوروبا الاقتصادية قائمة. كذلك تظل المشكلات الاقتصادية الرئيسية في العالم دون حل.

فقد أثارت الحركات الاحتجاجية غير المتوقعة  في تركيا والبرازيل التساؤلات حول الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية للنمو في الأسواق الناشئة.

وفي الولايات المتحدة، ألمح بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى البدء في "الخفض التدريجي" لسياسة التيسير الكمي في وقت لاحق من هذا العام، وبدأ نوع من التجارة العالمية القائمة على الاستفادة من اختلاف أسعار الفائدة في الدول المتقدمة يتراجع نتيجة لذلك، الأمر الذي أدى إلى تضييق الائتمان واندلاع اضطرابات السوق في الاقتصادات الناشئة.
نأت القيادة الصينية الجديدة عن سياسة الحفز الاقتصادي وقبلت تباطؤ النمو الاقتصادي واتجهت للتغير البنيوي وإصلاح الأنظمة والاعتماد على النمو طويل الأمد, وإما أن تؤدي التغييرات إلى زيادة النمو بالفعل أو أن تفشل وفي كلتا الحالتين سيكون لذلك أثر على الاقتصاد العالمي

ولعل هذا مجرد معاينة لمدى التعقيد الذي اتسم به الخروج من نموذج النمو المدعوم في مرحلة ما بعد الأزمة والذي كان سائداً في الولايات المتحدة وأوروبا ثم في اليابان الآن.

ويأتي المأزق السياسي المحتمل في الولايات المتحدة في سبتمبر/أيلول بشأن الميزانية وسقف الديون لكي يزيد من قتامة التوقعات وتعقيدها.

عدم اليقين يجب أن يتبدد
ورغم هذا فإن قدراً كبيراً من عدم اليقين الحالي من المرجح أن يتبدد قريبا.

ففي الأشهر المقبلة، سوف يتم الكشف عن قرارات سياسية بالغة الأهمية في أجزاء حرجة في الاقتصاد العالمي، وسوف تؤثر هذه القرارات (أو غيابها) إلى حد كبير على معدلات النمو، وأسعار الأصول، والثقة بصورة عامة.

ففي الصين نأت القيادة الصينية الجديدة عن سياسة الحفز الاقتصادي وقبلت تباطؤ النمو الاقتصادي واتجهت للتغير البنيوي وإصلاح الأنظمة والاعتماد على النمو طويل الأمد. وإما أن تؤدي التغييرات إلى زيادة النمو بالفعل أو أن تفشل في ذلك، وفي كلتا الحالتين سيكون لذلك أثر على الاقتصاد العالمي.

وفي الولايات المتحدة، قطعت جهود تقليص المديونية شوطاً أطول من ذلك الذي قطعته في أوروبا.

وتعمل الولايات المتحدة على ضبط أوضاعها بنيوياً وتحقيق نمو ناتج محلي حقيقي، ولو بمعدل أدنى كثيراً من معدلها السنوي المحتمل الذي يجب أن يتراوح بين 3% و3.5%.

وبوسعنا أن ننظر إلى الاقتصاد الأميركي وكأنه محرك بثماني أسطوانات لكنه يعمل بخمس فقط، بسبب ما تبقى من تقليص المديونية، وضبط الأوضاع المالية، ونقص الاستثمار في القطاع العام.

وتثار تساؤلات حول الوضع المالي وظروف الأمان للأسر ذات الدخل المتوسط (العمود الفقري للطلب الكلي المحلي). وينتشر الآن العمل في وظائف بدوام جزئي، وقد يتحول ذلك ليصبح الوضع الطبيعي الجديد السائد في سوق العمل.

ثم إن هناك نموذج النمو المدعوم من قِبَل مجلس الاحتياطي الاتحادي بالولايات المتحدة.

 فهل يتمكن اقتصاد الولايات المتحدة من النمو بدون دعم سياسي غير طبيعي؟

يبدو من الواضح أن الخفض التدريجي لمشتريات الاحتياطي الفيدرالي الشهرية من الأوراق المالية الطويلة الأجل في وقت لاحق من هذا العام من شأنه أن يتسبب في إعادة ترتيب قيم الأصول في الأسواق المالية. ومن المؤكد أن الكيفية التي قد يمتد بها هذا إلى الاقتصاد الحقيقي تشكل مصدراً آخر للشكوك وعدم اليقين.

تأثير إيجابي للسياسات الاقتصادية
لكن على الرغم من بعض الاضطرابات في الأسواق العالمية، فإن التأثير الإجمالي من المرجح أن يكون إيجابيا. ذلك أن عوائد المخاطر المتاحة للمستثمرين سوف تتفوق على كلفة الديون.

لكن القول ذاته لا ينطبق على أوروبا، حيث يُنظَر إلى الانتخابات العامة الألمانية في سبتمبر/أيلول باعتبارها مقياساً رئيسياً لاستمرار الالتزام باليورو.

ويبدو أن برنامج المعاملات النقدية المباشرة الذي قدمه البنك المركزي الأوروبي -ولو أنه مشروط ومحدود بالديون الحكومية القصيرة الأجل، ولم يستخدم حتى الآن- نجح بالفعل في تثبيت استقرار أسواق ديون منطقة اليورو السيادية، ولو في بيئة منخفضة النمو أو تكاد تكون منعدمة النمو.

لكن برنامج المعاملات النقدية المباشرة يعتمد على الدعم الألماني. والسؤال هو: إلى متى قد يدوم هذا، نظراً للتحديات التي تواجه النمو وتشغيل العمالة في جنوب أوروبا والافتقار الواضح بين صناع السياسات وعامة الناس لفهم حقيقة مفادها أنه لا وجود لحلول قصيرة الأجل.

وفي إيطاليا، يتمحور الجدل حول الضرائب عموما، وبشكل خاص الضريبة العقارية الضئيلة.

صحيح أن ضريبة الدخل (وبالتالي الضريبة على العمالة) مرتفعة، لكن البلاد غنية نسبيا، وخاصة من حيث الأصول العقارية في ميزانيات الأسر. وعلى هذا فإن فرض ضرائب أعلى على العقارات وأقل على الدخل من شأنه أن يساهم في خلق اقتصاد أكثر دينامكية وتنافسية.

بالمزيد من الوضوح في ما يتعلق بالسياسات في الصين والولايات المتحدة، سوف يصبح بوسع اقتصادهما اكتساب الزخم، وهذا يعطي الدول النامية دَفعة إلى الأمام، في حين يجعل معالجة التحديات الكبيرة بأوروبا واليابان أكثر سهولة

ولكن هذا بعيد تماماً عن اتجاه التركيز الحالي للمناقشات العامة. فالإصلاحات الأساسية التحريرية الكفيلة بتعزيز مرونة الاقتصاد ووتيرة التكيف لا وجود لها ببساطة على الأجندة (نظراً للافتقار إلى الثقة بين الناخبين).

وهذا أمر مهم لأن القطاع الخاص في إيطاليا (وإسبانيا) غير قادر على مضاهاة المرونة البنيوية الملحوظة في الولايات المتحدة (وفي ألمانيا منذ إصلاحاتها في الفترة 2003-2006).

ولنتأمل الآن محركاً ذا ثماني أسطوانات يعمل ليس على خمس أسطوانات بل على اثنتين أو ثلاث على أحسن تقدير، حتى لو أننا لا بد أن نعترف بأن إصلاحات سوق العمل في إسبانيا والتي بدأ العمل بها في وقت سابق من هذا العام قد تبدأ في زيادة معدلات تشغيل العمالة وتحسين القدرة التنافسية والنمو.

 بيد أن الخيار المفترض في سياق المأزق السياسي، إستراتيجية النمو البطيء المتعثرة التي تركز بشكل مفرط على التقشف المالي وتبرز ارتفاع معدلات البطالة (وخاصة بين الشباب) من غير المرجح أن تظل قابلة للتطبيق لفترة طويلة. فعند نقطة ما، إما أن تتحول الأجندة السياسية نحو الإصلاح الحقيقي، أو أن تتحول المشاعر بشكل كبير ضد اليورو.

وما يدعو إلى التفاؤل أن هذه الشكوك غير المريحة لن تدوم طويلا، في أوروبا أو أي مكان آخر. فسوف يختار قادة الصين، وسوف يختار الناخبون الألمان. وسوف يوضح بنك الاحتياطي الفيدرالي تجاه السياسة النقدية في الولايات المتحدة. وسوف تتكيف الأسواق وتستقر. وسوف تبدأ التشوهات في التراجع.

ومن دون استبعاد مخاطر الجانب السلبي، فأنا أظل متفائلاً بحذر بشأن آفاق الاقتصاد العالمي.

فبالمزيد من الوضوح في ما يتعلق بالسياسات في الصين والولايات المتحدة، سوف يصبح بوسع الاقتصاد في البلدين اكتساب الزخم. وهذا من شأنه أن يعطي الدول النامية التي يواجه الكثير منها اختيارات سياسية محلية صعبة دَفعة إلى الأمام، في حين يجعل معالجة التحديات الكبيرة في أوروبا واليابان أكثر سهولة.
___________________
حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ الاقتصاد بكلية شتيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، وكبير زملاء معهد هووفر

المصدر : بروجيكت سينديكيت