أوروبا ومخاطر المفاوضات التجارية الثنائية
تجنب التوجه الأميركي
مؤتمر كوبنهاغن للمناخ
إن بدء المفاوضات الخاصة باتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، المعروفة رسمياً باسم "شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي، يمثل نقطة تحول رئيسة بالنسبة للاتحاد الأوروبي والتجارة العالمية. كما يعزز مسار تحول القوتين في السنوات الأخيرة بعيداً عن سياسة المفاوضات التجارية المتعددة الأطراف، وقد يكون هذا تحركاً سليماً بالنسبة لأميركا ولكنه قد يوقع أوروبا في متاعب خطيرة.
فخلال النصف الثاني من القرن الماضي كان الاتحاد الأوروبي -الذي يمثل 7% فقط من سكان العالم- قادراً على الحفاظ على موقف تجاري قوي بشكل استثنائي، وذلك على الرغم من صعود أسواق ناشئة مثل الصين، ففي الوقت الذي هبطت فيه حصة الولايات المتحدة واليابان في الصادرات العالمية فإن حصة الاتحاد الأوروبي ظلت مستقرة عند مستوى 20% تقريباً.
والواقع أن قوة الاتحاد الأوروبي التجارية تتناقض تماماً مع التصور القائم بأن أوروبا ضعيفة، والأمر الأكثر أهمية هو أن أوروبا تمكنت من تحقيق ذلك فقط من خلال الاستثمار بكثافة في نظام تجاري متعدد الأطراف من خلال اتفاقية الغات ثم منظمة التجارة العالمية.
وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يدين بالكثير لنظام التجارة المتعدد الأطراف فقد تحول هو أيضاً إلى النهج الثنائي، فسجل أكبر نجاحاته بإبرام اتفاقيات التجارة الحرة مع أميركا اللاتينية وكوريا الجنوبية، ويقترب حاليا من التوصل إلى اتفاقية مماثلة مع كندا (ولو أن المفاوضات الثنائية مع الهند تبدو وكأنها توقفت، ربما لأن الهنود لا يعتقدون أن اتفاقية التجارة الحرة قد تفيدهم كثيرا).
وعلى المستوى الرسمي يرى الاتحاد الأوروبي أن التوجه الثنائي في التعامل مع التجارة متوافق تماماً مع العودة إلى التعددية، ولكن الحقائق تخالف ذلك.
رغم أن الاتحاد الأوروبي يدين بالكثير لنظام التجارة المتعدد الأطراف فقد تحول هو أيضاً إلى النهج الثنائي، فسجل أكبر نجاحاته بإبرام اتفاقيات التجارة الحرة مع أميركا اللاتينية وكوريا الجنوبية، ويقترب من ااتفاقية مماثلة مع كندا |
تزايد المفاوضات الثنائية
أولاً من الواضح أن المفاوضات التجارية الثنائية تنمو في حين تتراجع التعددية، فمنذ 2008 عندما انهارت جولة الدوحة من محادثات التجارة الحرة التابعة لمنظمة التجارة العالمية أثبت الأوروبيون عجزهم عن إعادة الولايات المتحدة والصين والهند إلى طاولة المفاوضات المتعددة الأطراف.
والأمر الأكثر أهمية هو أنهم تخلوا عن إعادة الكرة، ولقد انعكس هذا في إحجام الاتحاد الأوروبي عن الضغط على البلدان الناشئة لحملها على الانضمام لاتفاقية منظمة التجارة العالمية المتعددة الأطراف بشأن المشتريات الحكومية، وكأنه تقبل أن هذه القضية لا يمكن حلها إلا على المستوى الثنائي.
وعلاوة على ذلك، فإن السياسة التجارية الأميركية تخلت منذ العام 2008 بشكل متعمد عن التعددية في محاولة لاحتواء الصين من خلال إستراتيجية ذات شقين: اتفاقية الشراكة عبر الهادي وشراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي. والسبب وراء هذا التغيير بسيط ويتجلى في أن الولايات المتحدة لم تعد تملك القوة الكافية لتحديد قواعد النظام التجاري العالمي، ولكنها تعتبر نفسها قوية بالقدر الكافي للالتفاف حولها.
ويشارك الاتحاد الأوروبي أهداف الولايات المتحدة بشكل جزئي، وذلك لأنه أيضاً لديه شكاوى من القوى الناشئة في ما يتصل بالوصول إلى الأسواق، والالتزام بحقوق الملكية الفكرية، والحصول على عقود المشتريات الحكومية، والإعانات المقدمة للشركات الحكومية.
تجنب التوجه الأميركي
ولكن يتعين على أوروبا أن تتجنب الانحياز إلى هذا التركيز التجاري الأميركي الجديد الضيق لعدة أسباب، أولها أن أوروبا ليس لديها إستراتيجية آسيوية أو ما يعادل اتفاقية الشراكة عبر الهادي، ولا شك أن إبرام اتفاق بين الاتحاد الأوروبي واليابان من شأنه أن يكون مفيداً للغاية بالنسبة لأوروبا، وأن يقلل من المزايا التي تتمتع بها الولايات المتحدة في آسيا.
ولكن إذا أتمت الولايات المتحدة اتفاقية الشراكة عبر الهادي قبل أن يتمكن الأوروبيون من تأمين الاتفاق مع اليابان فإن قدرة طوكيو على المفاوضة في مواجهة الاتحاد الأوروبي سوف تزداد تلقائياً، ومن هنا فإن الاتفاق مع اليابان يمثل بالنسبة لكل من الولايات المتحدة وأوروبا المقياس الرئيس لنجاح النهج التجاري الثنائي أو فشله.
والسبب الثاني والأكثر جوهرية هو أن الولايات المتحدة قوة سياسية عسكرية إلى جانب كونها قوة اقتصادية، ونتيجة لهذا فإن حسابات شركاء أميركا التجاريين سوف تتشكل دوماً وفقاً لاعتبارات إستراتيجية، والتي لا تشكل عاملاً بالنسبة لهم في التعامل مع أوروبا.
على أوروبا أن تتجنب الانحياز إلى هذا التركيز التجاري الأميركي الجديد الضيق لعدة أسباب، أولها أن أوروبا ليس لديها استراتيجية آسيوية أو ما يعادل اتفاقية الشراكة عبر الهادي |
ويشكل هذا أهمية خاصة عندما يتعلق الأمر بالصين، فالولايات المتحدة راغبة بكل وضوح في كبح جماح بكين من خلال زيادة المعايير التجارية العالمية، ولكن إذا نجحت اعتبارات جيوسياسية أكبر في دفع هذين البلدين إلى التوصل لاتفاق فإن أوروبا قد تعاني.
مؤتمر كوبنهاغن للمناخ
وقد حدث شيء أقرب إلى هذا أثناء مؤتمر تغير المناخ في كوبنهاغن في عام 2009، حيث قررت الولايات المتحدة والصين معارضة اتفاق عالمي شامل وهمشت أوروبا بشكل فعلي، وعلى نحو مماثل فإنه ليس لدى واشنطن مصلحة حقيقية في تنشيط مفاوضات التجارة المتعددة الأطراف، لأن النهج الثنائي أكثر فعالية في الحصول على تنازلات من جانب القوى الناشئة.
ولا تتقاسم أوروبا المصالح الجيوسياسية نفسها مع الولايات المتحدة، كما لا تملك الوسائل والموارد نفسها التي تتمتع بها الولايات المتحدة، وهو ما يعني ضمناً أن لدى أوروبا مصلحة أكبر في تنشيط التجارة المتعددة الأطراف. والواقع أن توسع الدول في إبرام الاتفاقيات الثنائية وآلياتها الخاصة لحل الخلافات من شأنه أن يضعف آلية تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية، وأن يلحق بالتالي المزيد من الضرر بالنهج التعددي.
وتتجلى الحاجة الملحة لإحياء نهج المفاوضات التجارية المتعددة الأطراف في ضوء حقيقة مفادها أنه من المرجح أن تكون مفاوضات التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة صعبة وطويلة، نظراً لبعض الاعتراضات من جانب الهيئات التنظيمية في أوروبا والولايات المتحدة، حيث قررت الهيئات التنظيمية الأوروبية تشديد الشروط الخاصة بالترخيص للمواد المعدلة وراثيا، وكأنها تريد أن تثبت للمفاوضين التجاريين الأميركيين أنها لن تتخلى بسهولة عن مواقفها.
والآن بعد انطلاق محادثات شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي رسمياً يتعين على أوروبا أن تحاول الحصول على أفضل الشروط التي يمكنها انتزاعها. وفي المقام الأول يتوجب على الاتحاد الأوروبي أن يتقبل حقيقة مفادها أن التجارة العالمية في واقع الأمر لعبة سياسية لا رحمة فيها ولا شفقة، وتمارس وفقاً لقاعدة هي: عليك أن تبقي جميع خياراتك مفتوحة في كل الأوقات.
______________
أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس، ومؤلف كتاب "إنجازات محدودة: سياسة أوباما الخارجية".