مقدمة الملف:
بعد أكثر من قرن من الكفاح الفلسطيني لإنهاء الاحتلال والمظلومية التاريخية التي وقعت منذ الحرب العالمية الأولى أثارت أحداث "طوفان الأقصى" 2023 والحرب الإسرائيلية الأطول على الأراضي الفلسطينية منذ 1948 صدمة ثقافية عالمية واسعة امتدت إلى مناقشة مصير الإنسان وأسئلة الوجود والحياة وقضايا الاستعمار والحرية.
وبمناسبة مرور عام على "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية على غزة تنشر الجزيرة نت مجموعة من الحوارات والمقابلات الخاصة التي أجرتها مع مفكرين ومثقفين وأدباء وكتاب وفنانين من شتى أنحاء العالم، وتحاول فيها الاشتباك مع أسئلة الحرية والعدالة والاستقلال في الزمن الراهن حيث ينفتح الأفق ثقافيا على كل الممكنات.
وأثارت الحرب الإسرائيلية على غزة موجة كبيرة من الاحتجاج في مختلف أنحاء العالم، وشملت تلك الاحتجاجات المثقفين والمفكرين، ومنهم أصوات عربية وغربية متضامنة مع حقوق الفلسطينيين والرافضة للحرب، حيث "الدور الحقيقي للكاتب قائم في كل ما قدمه من إبداع مدافع عن الحرية، ومحتضن للقيم الكبرى" كما يقول الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله.
المثقفون والمفكرون والأدباء الموزعون على خرائط الإبداع والجغرافيا يجمعهم التضامن مع الدم الذي روى أرض غزة، الدم الذي هو "ضحية مشروع إسرائيل الصهيوني الاستيطاني، وضحية مشاريع العنف والظلام التي خلقها هذا المشروع الاستعماري في المنطقة وسوغ وجودها"، بحسب وصف الكاتبة والباحثة اللبنانية هدى فخر الدين أستاذة الأدب العربي في جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة.
في هذه المقابلات والحوارات الخاصة يتحدث أكثر من 20 مثقفا ومفكرا من أكثر من 15 بلدا عن مشهد ثقافي يحاول مقاربة أهوال ما يحدث في غزة وفلسطين إنسانيا وأخلاقيا وتاريخيا وفكريا، وهذا الملف بمثابة تأكيد على أهمية دور المثقف في التحولات التاريخية حيث تنأى به المعرفة والسلطة الأخلاقية عن التبعية للسلطة أو الانعزال في برج عاجي.
المقابلات والحوارات في هذا الملف:
- المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا: كراهية الإسلام وراء تجريم أوروبا المقاومة والانحياز لإسرائيل.
- الروائي الجزائري واسيني الأعرج: غزة نموذج إسرائيلي لما يمكن أن يحدث للمنطقة.
- المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم: الحرب على غزة لا معنى لها، والغرب متحيز لإسرائيل.
- موقف عربي موحد من التطبيع والإبادة.. ألفا مثقف يوقعون بيانا ضد الحرب.
- الكاتب الإيطالي فرانتشيسكو بورغونوفو: الإسلام دين فروسية، وحماس تتمتع بحاضنة شعبية.
- المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه: عنف الصهيونية دائم ولهذا أدعم الفلسطينيين.
- المفكر الفرنسي أوليفييه روا: إسرائيل تعيش جهلا مقدسا.
- الكاتب السويدي يوران بورين: دولة الفصل العنصري إسرائيل هي المسؤولة عن انفجار الوضع.
- الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن: المقاومة الفلسطينية انتصرت على عقل الاحتلال وأخلاقه.
- الكاتب الإيطالي دافيدي بيكاردو: الإيطاليون يقفون مع فلسطين رغم انحيازات النخب.
- الكاتبة الإيطالية رومانا روبيو: أهل غزة ليسوا مجرد أرقام، والفلسطينيون وحدهم من يختارون وسائل المقاومة.
- الكاتب الفرنسي آلان غريش: هذه أسباب انحطاط موقف المثقفين من الإبادة الجارية في غزة.
- المفكر الكندي وائل حلاق: "طوفان الأقصى" دليل على نفاق وعنصرية الحداثة الغربية.
- الأكاديمي الأميركي جيفري ساكس: إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة وستفشل عسكريا.
- الفنان البريطاني "لوكي" ومزيج اللغات وفنون الغناء في "فلسطين لن تموت أبدا".
- فلسطين وغزة والثقافة الأوروبية.. لقاءان مع المستعرب الإسباني إغناطيوس غوتيريث دي تيران.
- "اللغة العربية جعلت فلسطين قضية حياتي".. المستعربة البلغارية مايا تسينوفا تروي ذكرياتها مع الجزيرة وحرب العراق.
- المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي: "طوفان الأقصى" حرر شباب الغرب وأظهر هشاشة إسرائيل.
- المفكر المصري محمد سليم العوا: طوفان الأقصى محرك للشعوب، والمجتمعات تغيرت نظرتها للقيم الغربية.
- الأكاديمي الأميركي الإيراني حميد دباشي: طوفان الأقصى تحول تاريخي، وإسرائيل خسرت الوسط الأكاديمي.
- المفكر الأميركي جوزيف مسعد: إسرائيل امتداد للاحتلال الأوروبي، وحرية الجامعات الغربية وهم صدّقه العرب.
- المفكر اللبناني مصطفى حجازي: طوفان الأقصى قلب المعادلات وغيّر قواعد اللعبة.
لا تزال حكومات الدول الأوروبية ترى المشهد بعيون إسرائيلية فقط، ضاربة عرض الحائط صور الكارثة التي يتعرض إليها سكان غزة.
تحيز صارخ يدهش العالم ربطه المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا بتزايد قوة اليمين المتطرف في هذه الدول الذي يرغب في إشباع هواجسه المعادية للإسلام والمسلمين.
وفي مقابلة خاصة للجزيرة نت يشير بورغا إلى خوف هذه الحكومات من استيراد الصراع العربي الإسرائيلي إلى بلدانها، مستنكرا منع فرنسا المظاهرات المؤيدة لفلسطين.
ويشير بورغا إلى تفاقم الخلل العميق في المواقف مع موجة الكراهية القوية للإسلام في العقد الماضي، ويقول "بداية، اقترب اليمين المتطرف من خط الدعم غير المشروط لإسرائيل، لأن هذا التوجه يسمح له بإشباع هواجسه المعادية للمسلمين، أما اليسار -الذي كان صوته قويا نسبيا ذات يوم- فقد تخلى عن مواقفه السابقة وتوقف عن إدانة إسرائيل منذ أن اتخذت المقاومة الفلسطينية لهجة إسلامية".
ويعتبر أن الحكومة الفرنسية -التي اختارت التنافس مع اليمين المتطرف على أرضها- تعرف أن معارضتها الانتخابية الرئيسة من اليسار، ولهذا السبب أخذت على عاتقها مسؤولية تجريم المقاومة الفلسطينية الإسلامية من خلال ركوب موجة "الإسلاموفوبيا".
ويضيف "بينما تتحدث أوروبا عن وقف المساعدات الإنسانية للفلسطينيين تمنع فرنسا المظاهرات المؤيدة لفلسطين -لأسباب أمنية مزعومة- فيما تزيد من تعبيرها المعلن لدعم الإسرائيليين".
يعتبر الروائي الجزائري واسيني الأعرج الأستاذ في جامعة السوربون بباريس ما يجري في غزة اليوم من قتل ودمار بمثابة "جريمة إبادة" لا يمكن تبريرها، مستنكرا في حديثه للجزيرة نت الموقف العربي الرسمي مما يحدث في غزة.
يقول صاحب رواية "حارسة الظلال" إنه زمن متوحش جديد، وإنه متأثر جدا كما جميع من في قلوبهم بذرة من الإنسانية، فـ"ليس شرطا أن يكونوا عربا أو مسلمين أو مسيحيين، ولكن شرط الإنسانية الأدنى هو الذي يجعلنا نختلف عن الحيوانات الشرسة والمفترسة، ما يجري في غزة اليوم من تدمير للبنى التحية وقتل للبشر حالة غير مسبوقة من الجريمة وعدم الإحساس، أي أن الحس البشري لم يعد موجودا".
ويضيف في حديثه للجزيرة نت "عندما كتبت في تعليقاتي عن الحرب الروسية الأوكرانية قلت إننا نعيش زمنا متوحشا جديدا، فبدل العمل على إيقاف الحرب هناك تشجيع على استمرار هذه الحرب والقتل وبيع الأسلحة، ووراء ذلك طبعا بارونات مستفيدون من الصراعات المسلحة".
ويرى صاحب رواية "مملكة الفراشة" أن ما حدث في غزة "هو في الحقيقة محصلة لسلسلة من الممارسات لم تتمكن من إيقافها القوى الدولية"، ويدافع عن موقفه تجاه ممارسات إسرائيل وداعميها بقوله "لا أعتقد أن هناك صوتا حقيقيا يستطيع أن يعلو على الجريمة، لأن الجريمة عندها وكلاء، وهؤلاء الوكلاء أصبحوا يعلنون بشكل رسمي وواضح -وعلى رأسهم الولايات المتحدة طبعا وبقية الدول الأوروبية- مساندتهم إسرائيل في حربها على غزة"، واصفا حرب إسرائيل على غزة بأنها "جريمة إبادة".
-
المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم: الحرب على غزة لا معنى لها والغرب متحيز لإسرائيل
-
دولة الاحتلال ترتكب "إرهاب دولة" وحماس حركة مقاومة
لا يستسلم المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية آفي شلايم لقراءة ما يحدث في فلسطين ابتداء من 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل يصر على أن ما حدث يجد جذوره منذ سنة 1967.
وفي حديث مع الجزيرة نت يؤكد شلايم على أن الطريقة الوحيدة لفهم الحرب الإسرائيلية على غزة تتلخص في فهم السياق التاريخي، قبل أن يبين الأسباب التي تدفعه للاقتناع بأن هذه الحرب "لا معنى لها".
وأكد أستاذ العلاقات الدولية في جامعة "سانت أنطوني" التابعة لجامعة أكسفورد أن مقاربة "الانتقام" التي تشتغل بها حكومة بنيامين نتنياهو "لن تؤدي إلى أي نتيجة"، مقدما توقعاته لمصير نتنياهو السياسي، وكذلك رؤيته للتعامل الغربي مع الحرب على قطاع غزة وأسباب الدعم المطلق لتل أبيب.
وينتمي المؤرخ والأكاديمي شلايم إلى نخبة المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين يعملون على إعادة قراءة نشأة إسرائيل، ومواجهة الروايات التي عملت على ترويجها، ويؤمن بأن إسرائيل بعد عام 1967 أصبحت قوة استعمارية وحشية مهمة جيشها حماية أمن الاحتلال، وهي تمارس نظام الفصل العنصري، وقد عبر عن أفكاره في كتبه، ومنها "سياسة التقسيم" و"تاريخ موجز للحرب والسلام في الشرق الأوسط" (1995)، و"الجدار الحديدي.. إسرائيل والعالم العربي" (2001).
وينتقد الازدواجية الغربية قائلا "حتى الآن لا تزال القوى الغربية متحيزة تماما لطرف واحد، فهم من جهة يدينون حماس ويصفونها بالمنظمة الإرهابية، لكنهم في المقابل لا ينظرون إلى ردة الفعل الإسرائيلية، ولا يوجهون لها أي انتقاد، ولهذا فهم متواطئون في الهجوم على غزة وعلى المدنيين، عمليا لقد منحوا إسرائيل الضوء الأخضر للقيام بأبشع الأشياء عوض الدعوة إلى وقف إطلاق النار".
ويقول "إسرائيل وأصدقاؤها حول العالم يخلطون بين "معاداة السامية" ومعاداة الصهيونية، أنا أعرّف "معاداة السامية" بكونها كراهية اليهود فقط لأنهم يهود، وهذا أمر لا علاقة له بإسرائيل".
ويتابع "أما معاداة الصهيونية فأمر مختلف تماما، فهو انتقاد ومعارضة الأيديولوجية الصهيونية التي هي الأيديولوجية الرسمية لدولة إسرائيل، خصوصا في ما يتعلق بسياسات التعامل مع الفلسطينيين، من احتلال ونظام فصل عنصري "الأبارتايد"، والاستعمال القاسي والعنيف للقوة كما نعيشه هذه الأيام في غزة".
وفي اللقاء الثاني المطول مع شلايم أصر المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية على أن جذور ذلك الصراع تعود إلى بداية الاحتلال بخلاف ما تروج له الرواية الرسمية لإسرائيل، مشيرا إلى أن ادعاء اليهود بمشروعية امتلاك الأرض على أساس ديني ادعاء باطل تماما في العصر الحديث، وانتقد ما يسميه إرهاب دولة إسرائيل وعقيدة "إذا لم تنجح القوة فاستخدم المزيد من القوة".
واعتبر أن الصهيونية حركة علمانية استحضرت "الوعد الإلهي لليهود بأرض الموعد" رغم عدم إيمانهم بالله، حيث إن استحضارهم هذه الفكرة الدينية كان فقط لأجل إيجاد مسوغ لأخذ الأرض من أصحابها الفلسطينيين.
وأكد شلايم أن "الأشخاص الذين يعيشون تحت الاحتلال لهم الحق في مقاومة المحتل بموجب القانون الدولي، وحماس تمارس حق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وهي العنصر الوحيد داخل المجتمع الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال الإسرائيلي، لأن السلطة الفلسطينية تتعاون مع إسرائيل في إدامة الاحتلال".
واعتبر "الدعاية الإسرائيلية تجسيدا لجهاز تجهيل الناس الذي يتجاهل تماما أن حماس تم اختيارها ديمقراطيا من قبل الفلسطينيين، الواقع أكد أن حماس جربت طريق السياسة، لكن إسرائيل أحكمت إغلاقه، ما تتجاهله إسرائيل ولا يريد إعلامها إظهاره هو أن الفلسطينيين شعب كباقي الشعوب يحب أن يعيش بحرية وكرامة على أرضه، وإسرائيل هي التي تحول دون ذلك".
وحمّل الغرب "نصيبا كبيرا من المسؤولية عن المأزق القائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وذلك لأن الغرب منحاز تماما للأطروحة الإسرائيلية".
وأشار إلى أن "مكمن خطر تجريد شعب بأكمله من إنسانيته -كما تفعل إسرائيل للفلسطينيين- هو أنه يمهد الطريق للتطهير العرقي والإبادة الجماعية، وما نشهده اليوم في غزة تجسيد لعمليات تطهير عرقي تقوم بها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة".
وقال المؤرخ ذو الأصول العراقية "من خلال تجربة عائلتي وتجربة الجالية اليهودية في العراق يمكنني أن أفكر في أفق لمستقبل أفضل لمنطقتنا، لمواجهة الادعاء الصهيوني بأن العداء اليهودي العربي الإسرائيلي أمر مقدر، وأن الجانبين محكوم عليهما بالعيش في صراع دائم، وبالنسبة لي مفهوم "اليهودي العربي" ويساعدني في التفكير في إمكانية إنشاء دولة ديمقراطية واحدة يتمتع جميع مواطنيها بحقوق متساوية لجميع بغض النظر عن الدين والعرق".
اقرأ المقابلة الأولى والمقابلة الثانية كاملتين
"على مدار 75 عاما لم يترك الكيان الصهيوني المحتل قيمة أخلاقية إلا انتهكها، ولا مبدأ حضاريا إلا خرقه، ولا قداسة إنسانية إلا داس عليها بأحذية جنوده الملطخة بدماء الأبرياء. على أنه هذه المرة قرر أن يذهب أبعد في طغيانه مستغلا تواطؤ العالم وانحيازه".
المقتبس أعلاه من بيان وقعه أكثر من ألفي مثقف عربي، وترجم للغات عدة، تحدث عن العدوان على المقدسات وتوسع الاستيطان وتأجيج العنف في نفوس المستوطنين وتسليحهم وحصار قطاع غزة وتجويع أهله وما سماه البيان التطهير العرقي المُمنهج للشعب الفلسطيني، وأخرى تتمثل في تمرير مشاريع التطبيع التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتجريد العرب من كرامتهم، واستنكر البيان تعالي موجة التطبيع وزيادة عدد الداعمين له.
رأينا تجاور أسماء لها تاريخ من الخصومات السياسية والاختلافات الأيديولوجية المعلنة وغير المعلنة، لكن كل الخلافات سقطت من الحسبان أمام قضيتنا المركزية، إنسانيا، وأخلاقيا، وتاريخيا، وثقافيا، يذكر أن هذا التوافق ليس طارئا، وهذا الاتفاق ليس مستغربا، لأن هذه هي طبيعة فلسطين
ومما يلفت النظر في البيان أسماء الموقعين عليه، فهم من طليعة المثقفين كل في جنسه الأدبي أو حقله الإبداعي، كما أن الاختلافات الواضحة بين بعض هذه الأسماء في الفكر والسياسة وغيرهما كبير، وهذا ما أشارت إليه الروائية الكويتية بثينة العيسى إحدى الموقعات على البيان في تعليق عنه للجزيرة نت "رأينا تجاور أسماء لها تاريخ من الخصومات السياسية والاختلافات الأيديولوجية المعلنة وغير المعلنة، لكن كل الخلافات سقطت من الحسبان أمام قضيتنا المركزية، إنسانيا، وأخلاقيا، وتاريخيا، وثقافيا، يذكر أن هذا التوافق ليس طارئا، وهذا الاتفاق ليس مستغربا، لأن هذه هي طبيعة فلسطين".
صدمتنا ونحن نرى آلة الإعلام الغربي تحرق في أيام قليلة ما راكمه الغرب خلال قرون طويلة من مبادئ وقيم، في سبيل دعم الدعاية الصهيونية، في الأيام القليلة الماضية رأينا أعدادا من سياسيي الغرب ومثقفيه وإعلامييه وهم يتدافعون إلى عارهم الأبدي
أكثر من مخاطب
توجه البيان بخطابه إلى أهل غزة وإلى الأمة العربية شعوبا وحكومات ومنظمات، وأحرار الإنسانية، وخص بالتحية من سماهم أصحاب الضمير الحي من الشركاء في الإنسانية، كما أشار إلى مواقف بعض المثقفين الغربيين سلبا وإيجابا، ونعت الآلة الإعلامية الغربية بـ"آلة الكذب والتزييف" بحسب ما جاء فيه.
وقال "صدمتنا ونحن نراها تحرق في أيام قليلة ما راكمه الغرب خلال قرون طويلة من مبادئ وقيم، في سبيل دعم الدعاية الصهيونية، في الأيام القليلة الماضية رأينا أعدادا من سياسيي الغرب ومثقفيه وإعلامييه وهم يتدافعون إلى عارهم الأبدي".
ورغم هذه الإشارة فإن الروائي الليبي إبراهيم الكوني لا يرى بيانهم ردة فعل في إجابة على ذلك للجزيرة نت "لماذا لا يكون البيان موقفا إزاء مسألة في غاية الأهمية في وجودنا؟ وهي العدالة، أم أننا بدأنا نشك في أنفسنا وفي عدالة القضية الفلسطينية حتى نتبنى هذا الزعم؟ لماذا نبقى أسرى ردود الفعل دوما بدل أن نبادر بالأفعال؟ لماذا نبقى ظلا في الثقافة العالمية في وقت تؤهلنا فيه ثقافتنا العريقة وتراثنا الكلاسيكي المجيد لأن نستعيد الثقة في أنفسنا فنعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر؟".
لا جدوى من أي مؤسسة ثقافية عربية، لذلك اختار المثقفون بوعي عدم استشارتها، هذه المؤسسات فقدت كل مصداقية عبر العالم العربي، وكان جيدا أن يحضر صوت المثقفين مباشرة حتى تصل كلمتهم من دون رقابة، ودون استغلال لكلمتهم الحرة، وموقفهم الذي يتوافق وقناعتهم بعيدا عن وصاية مؤسسات تحولت إلى عائق في وجه الضمائر الحية والتعبير الحر عن الآراء.
ويرى الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله أهمية هذه الجماعية، وأهمية ما هو فردي كذلك "بقدر ما يضمر البيان الجماعي من معنى، جوهره الوقوف بشكل جماعي داعم لفلسطين وقضيتها، ورافض بوضوح لطغيان القوة الغاشمة الطليقة وإبادة البشر وتهجيرهم بقدر ما يشير بوضوح أيضا إلى اتفاق الموقعين منفردين قبل التوقيع على مواجهة هذا كله، اليوم يملك كل واحد منهم وسيلته الخاصة أو منبره، بل منابره، ليواصل العمل على فضح الجريمة والمجرمين".
الدور الحقيقي للكاتب قائم في كل ما قدمه من إبداع مدافع عن الحرية، ومحتضن للقيم الكبرى، قبل أي حدث كبير.. لا تصمد غزة وتقاتل بسلاحها وحسب، بل ببشر يملكون تاريخا جماليا وإنسانيا عميقا رسخه على مدى عقود وعقود، مبدعون ينتمون إلى روح هذا الشعب وقيمه
دور المثقف وبداية التغيير
البيان أيقظ السؤال المتكرر عن دور المثقف، وهذا مما ذكره نصر الله في إفادته للجزيرة نت "الدور الحقيقي للكاتب قائم في كل ما قدمه من إبداع مدافع عن الحرية ومحتضن للقيم الكبرى قبل أي حدث كبير، وهذا ما تؤكده كتابات من رحلوا، مثل غسان كنفاني مثلا الذي نراه يقدم الكثير لشعبه اليوم مع أنه لم يعد بيننا، لا تصمد غزة وتقاتل بسلاحها وحسب، بل ببشر يملكون تاريخا جماليا وإنسانيا عميقا رسخه على مدى عقود وعقود، مبدعون ينتمون إلى روح هذا الشعب وقيمه".
وأضاف نصر الله "في حالات غير حالة غزة المحاصرة كان يمكن أن يكون الكاتب واحدا ممن يردون العدو بقتالهم".
ومن الموقعين على البيان الشاعرة الكويتية سعاد الصباح، والمفكر الكندي من أصل فلسطيني وائل حلاق، والروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، والروائي الجزائري واسيني الأعرج، والكاتب المصري بلال فضل، والشاعر اللبناني شوقي بزيع، ورئيس تحرير صحيفة الشرق القطرية جابر الحرمي، والروائي الكويتي سعود السنعوسي، والروائية العمانية جوخة الحارثي، والمفكر المغربي حسن أوريد، والمفكر المغربي عبد الإله بلقزيز والمفكر التونسي فتحي المسكيني، والموسيقي العراقي نصير شمه، ومجموعة كبيرة من كبار الكتاب والأدباء والروائيين والشعراء والنقاد العرب.
فرانتشيسكو بورغونوفو (1983) الكاتب والصحفي الإيطالي الذي لا يخشى السباحة ضد التيار ونائب مدير يومية "لافيريتا" اليمينية وصاحب برامج تلفزيونية وإذاعية عدة والذي ينحدر من تقاليد أقصى اليمين الإيطالي، ويُعد في الوقت الحالي واحدا من أبرز الوجوه الإعلامية في إيطاليا وأكثرهم شعبية.
وعلى عكس وجوه اليسار التي وصفت مؤخرا عمليات حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين بالإجرامية وطالبت بعزلها فإن بورغونوفو يرى أن حماس حركة سياسية تمثل شعبها، ولا بد للغرب من أن يجلس معها على طاولة الحوار.
أثارت إطلالته على القناة الإيطالية السابعة مع إحدى صحفيات "كورييري ديللا سيرا" في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كثيرا من الجدل، إذ وصفته الممثلة عن الصحيفة الليبرالية الأكثر انتشارا في إيطاليا بأنه موالٍ لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بسبب مطالبته بوقف إطلاق النار في غزة، لكنه لم يتوقف عند هذا الحد وطالب في مناظرات تلفزيونية عدة بالحوار مع حماس وعدم ربط الحركة الفلسطينية بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بل كان الوحيد في إيطاليا الذي أذاع -في البرنامج الذي يقدمه على قناة بيوبلو "1984"- حوارا مع أحد قياديي حماس أجرته معه في وقت سابق مجلة "لا لوتشي".
ويقول للجزيرة نت إن "تاريخ اليمين الإيطالي في أغلبه تاريخ مناصر للقضية الفلسطينية والانحياز لدولة إسرائيل هو الطارئ، هناك لحظة حدث فيها تقارب مع الولايات المتحدة الأميركية بدا أن كل شيء تغير معها".
ويتابع قائلا "أعتقد أن هناك صورة زائفة تقدم عن الإسلام أنا أرفضها وأطالب بتصحيحها، وأعتقد أن الإسلام دين رائع ينضح بقيم الفروسية، أما الادعاء أنه دين سلام فهو محاولة لتدجينه، والزعم بأن الثقافة الغربية ثقافة سلام لأنها منحت العالم 70 سنة من السلام ليس سوى هراء".
قال المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد يخرج من هذه الحرب أضعف مما كان عليه، مشيرا إلى قلقه تجاه المجتمع الإسرائيلي اليهودي غير المستعد لتغيير موقفه تجاه فلسطين والشعب الفلسطيني.
وأضاف بابيه -في لقائه مع الجزيرة- أن التوقعات بشأن الجدل السياسي داخل إسرائيل أو الصراع داخلها هو أن كل ما رأيناه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول سيظل موجودا حتى نهاية الحرب.
ويقول بابيه إن هناك صراعا سيستمر بين "دولة يهوذا" أي دولة الاحتلال التي تريد أن تكون إسرائيل أكثر تدينا وتعصبا وثيوقراطية وبين "دولة إسرائيل" أي الإسرائيليين الأكثر علمانية كإيهود براك مثلا التي يعتبرها البعض أكثر ديمقراطية.
ويستدرك قائلا إن هاتين الدولتين (نموذج "دولة يهوذا"، ونموذج "دولة تل أبيب") ليستا ديمقراطيتين عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، فيما الديمقراطية الممكنة في حالة "دولة إسرائيل" تكون فقط بالنسبة لليهود وليس تجاه الفلسطينيين.
ويفسر صاحب كتاب "الفلسطينيون المنسيون.. تاريخ الفلسطينيين في إسرائيل" (جامعة ييل 2011) قائلا "أظن أن الصراع الداخلي اليهودي الإسرائيلي سيستمر، من المؤكد أن نتنياهو سينهي هذه الحرب أضعف بكثير مما كان سابقا، ولكن يجب أن نتذكر أنه لا تزال لديه قاعدة قوية داخل إسرائيل التي ربما لا تزال داعمة له وقد يخسر الانتخابات المقبلة وربما قد يعود مجددا، فليس هناك شيء مؤكد بالنسبة لهذا الرجل".
ويستدرك قائلا "لكن أساس المشكلة ليس نتنياهو، المشكلة هي أنه لدينا مجتمع يهودي إسرائيلي ليس مستعدا لأن يغير موقفه تجاه فلسطين والفلسطينيين، وهذا مقلق جدا".
لا يمكننا أن نتوقع التغيير من الداخل، ما نحن بحاجة إليه كما قلت سابقا وسأردده مرارا وتكرارا نحن بحاجة إلى ضغط قوي من المنطقة ومن المجتمع الدولي إذا كنا نريد حقا أن ننهي معاناة الاحتلال والاستعمار
ويتابع الأكاديمي -الذي ترك التدريس في جامعة حيفا عام 2006 بسبب آرائه- قائلا "من أجل تغيير هذه الحقيقة لا يمكننا أن نتوقع التغيير من الداخل، ما نحن بحاجة إليه كما قلت سابقا وسأردده مرارا وتكرارا نحن بحاجة إلى ضغط قوي من المنطقة ومن المجتمع الدولي إذا كنا نريد حقا أن ننهي معاناة الاحتلال والاستعمار".
ولد عالم السياسة الفرنسي الشهير أوليفييه روا (1949) في لا روشيل غرب فرنسا، وعمل أستاذا في المعهد العلمي للدراسات السياسية في باريس، قبل أن يصبح مدير أبحاث مركز البحوث العلمية ومدير دراسات المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية الفرنسية ومستشارا في مركز التحليل والتوقع التابع للخارجية الفرنسية.
يقول المفكر الفرنسي إن إسرائيل تعيش "جهلا مقدسا" إلى حد كبير، كما أنه ليس من قبيل الصدفة أن تحظى إسرائيل الآن بدعم متزايد من الإنجيليين الأميركيين، فما هي القواسم المشتركة بينهما؟ إنها إعادة بناء الدين خارج التقاليد الثقافية.
ويشرح "هناك بالطبع تقاليد يهودية دينية وثقافية غنية جدا، فمثلا يهود أوروبا الشرقية كان لديهم دين متجذر في الثقافة ولغة ومجتمع خاص بهم، يلاحظ الأمر نفسه مع البروتستانتية في الولايات المتحدة، حاليا هناك حركات في كل من العالمين اليهودي والبروتستانتي تؤكد خصوصيتها باعتبارها الدين الحقيقي وتركز على "الولادة من جديد" وإبعاد نفسها عن الجذور التاريخية التي تعتبرها سلبية".
ويتابع قائلا "من الجدير بالذكر أن بعض المجتمعات اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة -التي تأسست مؤخرا نسبيا في أواخر القرن الـ18- تبدو كأنها جديدة كليا لكونها منفصلة عن التقاليد اليهودية التي تعود إلى قرون مضت، كما لو أن الحاخام المؤسس يخلق حقيقة دينية جديدة، وعلى نحو مماثل يروج المستوطنون على غرار الإنجيليين في أميركا لسردية مفادها بناء أرض مقدسة جديدة من الصفر، على الرغم من أن هذا تحريف تاريخي، فمثلا هم يطلقون أسماء توراتية على الأماكن لتبدو قديمة تاريخيا رغم أنها حديثة كليا".
ويضيف "في الجوهر، ما يظهر هو يهودية إسرائيلية ذات تطلعات عالمية تهدف إلى الاستمرارية التاريخية وتثبيت نفسها بالأرض، لكنها في صميمها اختراع لتقليد مجتمع يهودي كان غائبا منذ ألفي عام، وتعكس هذه الظاهرة شكلا من أشكال الأصولية أو انفصال الدين الخالص عن التقاليد والثقافة".
لم تقف الإدانات لجرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة ضمن حدود العالم العربي، بل وصلت إلى كثير من العواصم الأوروبية، وهنا صوت من مملكة السويد عبر عنه الكاتب السويدي يوران بورين بانتقاده سياسة حكومة بلاده الحالية "المؤيدة لإسرائيل بقوة".
ولبورين عمل مهم يكشف انحياز الرأي العام الغربي عموما إلى الجانب الإسرائيلي على حساب الطرف العربي الفلسطيني، إذ شرح في كتابه "جريمة اغتيال الوسيط الدولي في فلسطين الكونت فولك برنادوت" (2022) -الذي صدرت ترجمته العربية حديثا بترجمة سامح خلف عن اللغة السويدية- قصة اغتيال الكونت فولك برنادوت الذي ارتبط اسمه بأحداث عام 1948 في فلسطين، والصراع الذي دار ولا يزال بين العرب الفلسطينيين والمهاجرين اليهود الذين تدفقوا إلى فلسطين في العقود القليلة قبل النكبة، وقد انتهت تلك الأحداث بأحداث النكبة والتهجير في فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل.
وفي الحوار الذي أجرته معه الجزيرة نت تناول الكاتب السويدي الموقف الغربي تجاه ما يجري في غزة من دمار، ووصفه بأنه "غير عادل" ويؤكد أن "إسرائيل وأميركا والدول الأوروبية هي المسؤولة عن حالة اليأس والإحباط التي اختمرت في غزة منذ سنوات عديدة، والتي كان لا بد لها أن تنفجر عاجلا أم آجلا".
ويقول الكاتب إن الدعم الرسمي لإسرائيل كان قويا دائما، خاصة خلال حكومتي أولوف بالمه (1927-1986) وإينغفار كارلسون، وكان هناك أيضا كثير من التعاطف مع القضية الفلسطينية، ومنذ مطلع الألفية أصبح الدعم الرسمي السويدي لإسرائيل أقوى مرة أخرى.
ويعتبر أن الموقف الغربي ليس عادلا بأي حال من الأحوال، لأنه لا يعترف بأن إسرائيل هي المسؤولة عما وصلت إليه الأوضاع في فلسطين، وبشكل غير مباشر الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية نفسها هي المسؤولة عن حالة اليأس والإحباط التي اختمرت في غزة منذ سنوات عديدة، والتي كان لا بد لها أن تنفجر عاجلا أم آجلا، ولذلك ما قامت به حركة حماس ضد الجيش الإسرائيلي يعتبر حقا مشروعا تكفله القوانين الدولية، وبالمقابل فإنني لا أؤيد قتل المدنيين.
ويشير إلى أن وسائل الإعلام الغربية عموما في تغطيتها الأحداث الأخيرة في قطاع غزة تعتبر متحيزة وبدرجات متفاوتة، ويظهر في تغطيتها الأحداث أن حياة الإسرائيليين أكثر أهمية من حياة الفلسطينيين، مؤكدا في الوقت ذاته أن "نسبة كبيرة من السويديين يشككون في الادعاء بأن إسرائيل دولة ديمقراطية، نظرا لواقع الاحتلال والقمع المستمر للفلسطينيين، أنا شخصيا أعتبر إسرائيل دولة فصل عنصري".
ويقول بورين "آمل أن تتعب الولايات المتحدة وبقية العالم عاجلا أم آجلا من الصراعات التي لا نهاية لها، وأن تجبر إسرائيل على فرض حكم الأغلبية في كامل فلسطين كما كانت تحت الانتداب، لكنْ هناك طريق طويل يجب عبوره".
قال الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمن إن عملية "طوفان الأقصى" أظهرت أن المقاومة الفلسطينية انتصرت على عقل الاحتلال الإسرائيلي كما انتصرت على أخلاقه وأن "هزيمة العدو السياسية مجرد تابع لهزيمته العقلية وهزيمته الأخلاقية"، وذلك على خلاف ما ترسخ في الأذهان من أن المقاومة توجب أولا وقبل كل شيء إيقاع الهزيمة السياسية بالعدو.
وأوضح أستاذ المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق ومؤلف كتاب "روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية" في حوار سينشر كاملا السبت أنه "لما كان العقل والخُلق هما الصفتين المحددتين لكلية الإنسان كانت هزيمة العدو فيهما هزيمة لذاته بأسرها، ومثل هذه الهزيمة لذات العدو لا يمكن أن تمحى من ذاكرته فلا يستقيم له بعدها أمر، فيأخذ في دوام الانهزام حتى الانقراض الكلي".
في المقابل، فإن "انتصار المقاومة الفلسطينية عقليا وأخلاقيا هو انتصار لكلية ذاتها، ومثل هذا الانتصار لا يمكن هو الآخر أن يمحى من ذاكرة الأمة، فلا يعوجّ لها بعده طريق، فتأخذ في دوام الانتصار حتى الانبعاث الكلي"، وفق تعبير صاحب كتاب "ثغور المرابطة.. مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية" (2018).
وأشار الأكاديمي -الذي درس الفلسفة واللغة في جامعة محمد الخامس والسوربون- إلى أن الطوفان يفيد معنى "التجريف الذي لا يترك وراءه شيئا، وأن حديث الطائفة المنصورة الذي أُشربت به قلوب رجال المقاومة الفلسطينية كان له تأثير في تسمية المقاومة لعمليتها في 7 أكتوبر/تشرين الأول بطوفان الأقصى"، موضحا أن المقاومة لم تحمل فقط أمانة تجريف الاحتلال ولا حتى مجرد الظلم، بل تجريف "الشر المطلق".
وأوضح أن "الناس كانوا يتصورون الشر المطلق مفهوما بعيدا، ولا يعتقدون تحققه، فإذا بهم اليوم يرونه رأي العين واقعا حيا، فقد شاهدوا الصلاة في بيوت الله تقصف، والبراءة في الطفولة تزهق، والعافية من المستشفيات تطرد، واللجوء إلى المآوي يُرهَب، وقس على ذلك ما شابهه، رأوا بأم أعينهم احتضار كل قيم الخير التي خلق الإنسان من أجلها، وليس الشر المطلق إلا مَشاهد الموت الذي يأتي على كل القيم".
وأشار مؤلف "العمل الديني وتجديد العقل" (1989) إلى أن أبعاد "طوفان الأقصى" تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية للأمة إلى العالم كله، لأن الفعل المقاوِم بات يتطلب في زمن ما بعد الطوفان الانتماء إلى العالم، و"أن يُنظر إلى الفعل المقاوم على أنه فعل عالمي صريح ملزم لكل فرد من أفراد البشرية حيثما حصل من بقاع الأرض وكيفما كانت الشرور التي يتصدى لها، وأنه يتعين على المقاوم العربي خاصة أن يعي ويوقن أنه يتصدى لشرور لا تقتصر آثارها على وطنه، وإنما تطال أقطار العالم كلها".
"ليس إماما ولكنه يتمتع بتأثير كبير بين مسلمي إيطاليا، اسمه دافيدي بيكاردو وهو القائل إن حماس حركة مقاومة".
هكذا وصفه الصحفيان الإيطاليان كلاوديو أنطونيللي وسلفاتوري دراغو بعيد إعلانه دعمه الكامل لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في وقفة تنكّر كل "أصدقاء فلسطين" في إيطاليا لحق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة.
هو ابن مترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإيطالية روبيرتو حمزة بيكاردو والرئيس السابق لتنسيقية الجمعيات الإسلامية في ميلانو.
يدير دافيدي بيكاردو حاليا مجلة "لا لوتشي"، وقد انفرد مؤخرا بمحاورة القيادي بحماس باسم نعيم، وذلك في ذروة الحرب الإسرائيلية على غزة والتحريض على المقاومة الفلسطينية في وسائل الإعلام الإيطالية، واستضافته الجزيرة نت حول قضايا فلسطين والعلاقة بين العالمين العربي والأوروبي.
يقول بيكاردو إن "النقاش السياسي والإعلامي في إيطاليا ليس حرا عكس كل الادعاءات، وهو ما خلق شرخا بين النخب والشعب الإيطالي الذي يقف مع الفلسطينيين على الرغم من الانحياز الإعلامي الكامل لصالح إسرائيل".
ويتابع "إن اعتبرنا المقاومة المسلحة ضد الاحتلال إرهابا علينا إذن أن نندد بأثر رجعي بجميع حركات التحرر الوطنية التي عرفها التاريخ".
وينتقد اليمين واليسار قائلا "الأعداء الصريحون لفلسطين هم ممثلو ذلك "اليمين المؤسساتي" الذي يعتقد أن إسرائيل تخوض حربها نيابة عنه وعن الغرب كله في إطار نظرية "صدام الحضارات"، وبالمقابل "اليسار الإيطالي الذي كان يقف في وقت من الأوقات في صف الشعوب المضطهدة ويؤيد حركات التحرر من الاستعمار أصبح الآن لا يدعم الشعب الفلسطيني سوى على نحو "مجرد" لا يفضي إلى أي شيء ملموس".
ويفصل في نقده للمنظور اليساري الأوروبي قائلا "خطورة اليسار الإيطالي اليوم على القضية الفلسطينية لا تكمن في أنه اختار بيع الكلام لفلسطين فحسب، بل رفضه المقاومة الحقة للفلسطينيين، خصوصا إن كانوا مسلمين، وهذا ملمح خطير آخر من سلوك اليسار الذي لا يريد فلسطينيين سوى على شاكلته، يريد "علمانيين، نسويين ومتحولين جنسيا".
ويضيف "المقاربة الفولكلورية اليسارية لموضوع الهجرة تريد مسلمين ينخرطون في السياسة لاستغلالهم إعلاميا فقط بأسمائهم العربية والحجاب على رأسهم، لكن ليس قبل أن يتجردوا من تقاليدهم المحافظة، وكل ما يتعارض مع أيديولوجيا الجندر".
توصف رومانا روبيو بأنها أهم صحفية مختصة بالشأن الفلسطيني في إيطاليا على الإطلاق، وأشدهم حرصا على الالتزام بالسردية الفلسطينية.
أثارت بكتاباتها سخط الصحافة الإيطالية الموالية لإسرائيل منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة، حيث كتبت عنها صحيفة "إل جورنالي" في مقال بتاريخ 11 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أنها "تلك الصحفية التي تتحدث على حساباتها في مواقع التواصل هذه الأيام عن إرهابيي حماس بوصفهم "مقاومة"، وتلك التي ترفق تعليقاتها باقتباسات على شاكلة "إن النصر لقادم".
وواصلت الجريدة اليمينية "إنها روبيو التي كتبت: قلوبنا مع الشعب الفلسطيني العظيم، الشعب الذي لم يقبل التدجين".
تعمل روبيو رئيسة تحرير النسخة الإيطالية من صحيفة "بالستاين كرونيكل" التي أسسها باللغة الإنجليزية ويديرها الصحفي الفلسطيني المقيم في الولايات المتحدة الأميركية رمزي بارود، وهي أيضا مترجمة كتابه "الأرض الأخيرة" إلى الإيطالية.
وتقول روبيو "مَن يحق له تحديد شكل عمليات المقاومة ونوعها وتوقيتها هو حتما الشعب الذي يرزح تحت نير الاستعمار والاحتلال العسكري، والآن يتعرض للإبادة الصريحة، وليس تلك التي كانت تتم بالتقسيط فقط، بتعبير المؤرخ إيلان بابيه".
وتنتقد اليسار الأوروبي قائلة ان بعض الناشطين الإيطاليين لا تزال فكرتهم عن النضال الفلسطيني قد تحجرت في سنوات السبعينيات أيام النضال الشيوعي.
هؤلاء يريدون فلسطين كما يتخيلونها هم وفقط، وتكمل "التغير الثقافي الذي وصفته بدقة داخل اليسار الإيطالي تسبب فعلا في تشويش "أيديولوجي" كبير أثر في دعم القضية الفلسطينية في إيطاليا حيث أصبح اليسار يستلهم أفكاره تحديدا من التوجهات الثقافية الأميركية الجديدة، وهو ما أنتج أزمة فكرية لدى مثقفي إيطاليا، سببه أن اعتناق النزعة الأميركية في هذا الصدد يجعل من تجارب تاريخية كبيرة في المقاومة، على غرار التجربة الجزائرية أو الجنوب أفريقية أو حتى الإيطالية نفسها والكوبية خارج المعايير المقبولة".
وعن دور الدين في الصراع تقول "الدين لا يلعب عند الصهيوني الدور ذاته الذي يلعبه لدى الفلسطينيين، وهنا لا بد أن نتذكر أن الأيديولوجية الصهيونية تم تأسيسها على يد ملحدين استغلوا اليهودية لإطلاق مشروعهم الاستعماري ليس غير، فيما الدين بالنسبة للفلسطينيين هو روحانيات وإيمان حقيقي هو ما يجعلهم يتعلقون بالأمل ويمدهم بما يبدو وكأنه قدرة تفوق طاقة البشر على التحمل".
يرى الصحفي والكاتب الفرنسي آلان غريش أن "المجتمع الدولي -خاصة العالم الغربي- لا يفعل شيئا لوقف هذه المأساة التي تجري في غزة"، منتقدا "العالم الغربي الذي يدعي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وتقرير المصير، لكنه يثبت الآن أنه عالم منافق يقدم سلسلة من الأكاذيب".
وأشار إلى أن الصحفيين في غزة "قاموا بعمل خيالي، وقدموا لنا كل شيء نريده، فهم بالفعل صحفيون شجعان".
وغريش صحفي فرنسي مخضرم وخبير في شؤون الشرق الأوسط، ولد بالقاهرة سنة 1948 لعائلة يهودية مصرية ذات أصول أوروبية، والده هنري كوريل أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المصري، وكان لتلك النشأة تأثير في تكوينه الفكري والسياسي، إذ غلب عليه التوجه اليساري واهتمامه بمشكلات الشرق الأوسط والعالم العربي رغم مغادرته وعائلته القاهرة عام 1962 إلى فرنسا.
ويعدّ غريش خبيرا بقضايا الشرق الأوسط وأحد المتخصصين في صراعات المنطقة، كما أنه مناصر للقضية الفلسطينية، وازداد اهتمامه بقضايا العالم العربي مع تسلمه رئاسة تحرير صحيفة "لوموند دبلوماتيك" العريقة لمدة 10 سنوات، وأسس سنة 2013 الموقع الإلكتروني "أوريان 21" المتخصص في قضايا العالمين العربي والإسلامي.
ويقول إن التغيير في السياسة الرسمية الفرنسية حدث بعد عام 2001، حيث بدا واضحا أن نظرة فرنسا إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بدأت تتغير، ولم تعد فرنسا تعتبر أن الصراع هو بين قوة احتلال وشعب واقع تحت ذلك الاحتلال، بل أصبح الصراع ضد الفلسطينيين جزءا من الحرب ضد الإرهاب التي قادتها الولايات المتحدة بالتحالف مع أوروبا الغربية وإسرائيل.
ويعتبر غريش المسؤولين الفرنسيين اليوم مساهمين في ما يحدث، وهم مشاركون في الإبادة الجماعية، ويضيف "بدأت وسائل الإعلام الفرنسية تتحدث عما يجري في غزة لأن الأمر أصبح واضحا أكثر وأكثر بوجود تطهير عرقي حقيقي ضد الفلسطينيين لم يجر الحديث عنه مسبقا، ومن الأسباب أنهم يقولون إنه ليس لدينا صور عما يحدث في غزة، ولكن بالطبع لديهم الصور، فمعظم الصحفيين الغربيين يعتقدون أن الصورة التي مصدرها إسرائيل هي المقبولة، أما التي مصدرها الفلسطينيون فيجب أن تخضع للدراسة".
قال المفكر العربي البارز البروفيسور وائل حلاق إن إسرائيل والولايات المتحدة والأوروبيين وغيرهم لا يستطيعون أن يلجموا عنفهم ضد الآخرين كما رأينا في حرب فيتنام وأفغانستان والعراق وغزة، وليس في منطق عدوانيتهم سوى الاستغلال المادي والهيمنة والميل إلى التدمير.
وأضاف أن الأحداث التي بدأت بطوفان الأقصى توضح تجليات الأزمة الأخلاقية في الحداثة المتأخرة، وأن "الأحداث التي شهدناها في القرون الثلاثة الأخيرة تمثل الدليل الكامل على أن الحداثة الغربية منافقة وعنصرية حتى النخاع".
وأوضح أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأميركية أن تحليل أفعال طرفي الصراع في قطاع غزة إسرائيل وأميركا والغرب من جهة والفلسطينيين وحركة حماس من جهة أخرى ليس بالأمر الشديد الصعوبة، بل الأصعب هو إدراك بنية الصراع المعرفية "فحين نفهم هذه البنية يمكن أن نحلل تداعياتها".
وذكر المفكر الفلسطيني في حوار خاص بالجزيرة نت أن تعاطف الغربيين مع الفلسطينيين نابع من أمرين، الأول هو أن الفلسطينيين ضحية للمخططات الاستعمارية منذ عام 1917 مع وعد بلفور، والآن مع اعتداءات إسرائيل الشرسة على المدنيين الأبرياء الفلسطينيين، والأمر الآخر هو أن حركة حماس أقرب إلى كونها ضحية من كونها جانية رغم "أكاذيب إسرائيل اللامتناهية والتافهة في الوقت نفسه"، كما أن "حماس كانت كما يحب الغرب نفسه أن يقول أكثر "تحضرا" من الهجمات البربرية التي قامت بها إسرائيل".
وبيّن صاحب كتاب "إصلاح الحداثة" أن الصراع بين حماس وإسرائيل يعود في عمقه إلى اختلاف نظرة الطرفين للطبيعة والحياة، إذ إن الفلسطينيين وحماس ينطلقون من "مسؤولية أخلاقية تقتضي استخدام العالم وإدارته باعتباره ملكوت الله لا باعتباره ملكا للبشر، فسيستخدمونه ويديرونه بشكل مقيد وبمسؤولية (..) حتى عندما يهاجمك بعض البشر ويريدون قتلك فستستمر في النظر إليهم على أنهم لا يساوونك في قيمتهم الجوهرية فحسب، بل تكون أنت مسؤولا عنهم وعن إصلاحهم أخلاقيا".
في المقابل -يقول حلاق- تتصرف إسرائيل والغرب وفق منطق أنه ليس وراء الكون أو الطبيعة مسبب، فتكون النتيجة المنطقية أنه "لا قيمة لنا نحن البشر في أنفسنا إلا إذا أعطانا إياها أحدهم، وبما أنه لا يمكن أن يكون هذا الشخص إلها فإن إنسانا يعطي هذه القيمة إنسانا آخر استنادا إلى الذي يكون القرار بيده، وقوة القرار دائما ما تكون قوة بطشية، وهي قوة السيف، فقرار الضعيف في يد القوي، أي أن الأقوى بطشا هو صاحب القرار".
قال أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة كولومبيا الأميركية جيفري ساكس إن "تصرفات إسرائيل في قطاع غزة جرائم حرب"، وإن القصف المستمر والحصار الدائم قد يتسببان في سقوط عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء.
وأضاف ساكس -في تصريحات خاصة للجزيرة نت- أن إسرائيل لا تستطيع تحقيق الأمن عن طريق الحرب، بل من خلال تسوية تضمن الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني بوصف ذلك جزءا من حل سياسي شامل وعادل.
وساكس تم اختياره مرتين ضمن قائمة مجلة التايم لأكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم، وله مؤلفات عدة كانت 3 منها الأكثر مبيعا وفقا لصحيفة "نيويورك تايمز"، كما حاز العام الماضي جائزة "تانغ" للتنمية المستدامة.
أطلق مغني الراب البريطاني لوكي ومواطنته المغنية مي خليل عملا غنائيا لافتا بعنوان "فلسطين لن تموت أبدا" يجمع بين الغناء والراب والكلمات العربية والإنجليزية وفنون الكلام والشعر والنثر والأداء الغنائي.
وقال لوكي للجزيرة نت إنهم استلهموا العمل من أعمال الفنان والمغني والمؤلف الموسيقي اللبناني أحمد قعبور المعروف بأعماله التي تحمل آمال الشعب الفلسطيني وآلامه، ومن أشهرها "أناديكم"، و"يا نبض الضفة" (في الضفة لي أطفال سبعة) وغيرها.
وأضاف لوكي أن الأغنية -التي تتميز بتعدد الإيقاع والشعر- هي "مساهمتنا المتواضعة لهذه القضية العادلة ومحاولة لتمكين الشباب في الغرب ممن لديهم شغف بتحرير فلسطين"، معتبرا أن الكلمات أصابتهم بالقشعريرة، وهي تعكس الواقع الحالي.
وأضاف "نتمنى أن تمنح الأغنية شجاعة وجرأة أكثر لمن يتكلمون عن فلسطين فلا يخافون من مواجهة اللوبي الصهيوني في بلدانهم"، معتبرا أن الظروف التي ألهمت الأغنية هي "الإحساس بالعجز والشلل السياسي، ومن حقنا في الغرب التضامن مع شعبنا".
وأشار لوكي إلى أنهم اختاروا المزج بين العربية والإنجليزية في الأغنية، لأن ذلك المزيج "يعكس الواقع الذي نعيشه"، مؤكدا أنهم استلهموا كلمات تراثية لتفيد الأجيال الجديدة وتعمق صلتها بماضيها.
وعن استخدام الأجناس الموسيقية المختلفة في أغنية واحدة، اعتبر لوكي أنهم أرادوا إثبات أن "العرب ليسوا في حالة انفصام ثقافي، بالعكس تعرضنا لفنون متعددة يؤدي إلى إثراء قدراتنا على توصيف واقعنا المرير".
وبيّن لوكي أن تاريخ الراب انبثق من معاناة الأميركيين الأفارقة "بسبب التفرقة العنصرية"، مشيرا إلى أنه يرى "الاحتلال الصهيوني فرعا من الشجرة نفسها، يعني أنه نظام عنصري أوروبي فرض على أناس من الجنوب العالمي".
يرى الأكاديمي والمستعرب الإسباني إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا (مدريد، 1967) أستاذ اللغة والأدب العربي والتاريخ المعاصر في العالم الإسلامي في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة مدريد المستقلة أن "القضية الفلسطينية كانت أكثر حضورا بالمجتمعات الأوروبية في وقت ليس بالبعيد، حيث كان هنالك إلمام بخفايا القضية ومتابعة لمجرياتها".
ويؤكد في لقاء مع الجزيرة نت أن "العدوان الجاري على غزة يشكل صدمة لكثير من الأوروبيين الذين لا يعرفون جيدا ما الذي أدى بالمنطقة إلى هذا الوضع الحرج جدا الذي ينبئ بنزاع إقليمي لا يمكن لأحد التنبؤ بعواقبه"، مضيفا "المواطن الأوروبي عموما متعاطف مع شعب غزة وما يعانيه من تجويع وتشريد وقصف ممنهج".
ويعتبر دي تيران أن "الكثير من الغربيين -وتحديدا النخب السياسية- يؤمنون بأن إسرائيل جزء من الغرب وأنها تمثله في الشرق الأوسط، وأن الإسرائيليين مثلنا حتى نعبر عن الوضع بعبارة مبسطة، ولما كان الإسرائيليون مثلنا فلا بد أن نؤيدهم، بالمقابل الفلسطيني دائما يمثل الآخر أو الغير أو المجهول الذي يعارضنا".
ويتساءل "كيف من الممكن أن نناقض نفسنا بمثل هذه الطريقة البشعة؟ لأن إسرائيل الآن تمارس سياسة قمعية وقاهرة لا علاقة لها بالقيم الأخلاقية ولا أخلاق لما تقوم به، إسرائيل دولة محتلة ومغتصبة، ولكنها لا تريد أن تنظر لهذا الوجه من الحقيقة المرة بالنسبة لها".
ويتابع "أين نحن من القيم الأخلاقية؟ وأين نحن من مفهوم جديد لما هي الحداثة البعيدة عن معنى الاحتلال والاستغلال؟ إسرائيل دولة مستعمرة، دولة محتلة، دولة تهجّر أصحاب الأرض، حتى إن كان هؤلاء الأصحاب غير حداثويين بالمعنى الذي يريدونه ولكن لهم حقوقهم، الحداثة هي أن نحترم هذه الحقوق، الحداثة هي أن أفعل عكس ما فعلنا لمدة قرون، أوروبا دائما كانت دولة تمارس الاحتلال وتمارس الاستعمار وتمارس التمييز".
ويعتبر أن المجتمعات المتوسطية تفهم القضية الفلسطينية بطريقة أخرى، أقصد إسبانيا وجنوب فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص ومالطا، هذه الدول ومجتمعاتها لها مفهوم مختلف للعالم العربي وللقضية الفلسطينية، الرأي العام الإسباني معروف عنه تضامنه التاريخي مع القضية الفلسطينية.
قالت المترجمة والأكاديمية البلغارية مايا تسينوفا إن "قضية فلسطين تدافع عن نفسها بنفسها، يكفي أن نعطيها الكلمة لتتحدث رغم أن العالم المعاصر يفضل أن يتناساها ويغض النظر عنها، وبهذه الطريقة جاء 7 أكتوبر/تشرين الأول ولم يكن بداية".
وأضافت المحاضرة في قسم اللغة العربية بجامعة صوفيا قسم الدراسات العربية والسامية في حديثها للجزيرة نت أن بداياتها الشخصية مع القضية جاءت في صيف 1976 عندما كانت في نهاية سنتها الأولى لدراسة اللغة العربية في جامعة صوفيا، وكانت تهتم بمتابعة أخبار مجزرة تل الزعتر وانشغلت عن الامتحانات الصيفية الجامعية بإقامة مهرجانات التضامن مع فلسطين ولبنان.
واعتبرت تسينوفا أن اللغة العربية جاءتها بـ"قضية حياتها أو قضايا حياتها"، مشيرة إلى أنها -باعتبارها مترجمة- تستخدم الكلمات بمعانيها الدقيقة، ونوهت بدور الترجمة والتثاقف في إقامة الجسور بين العرب والبلغار رغم أن البعض حريص على النأي والحياد، مضيفة "أحاول دوما إيجاد القيم الأخلاقية المشتركة، وأكثر ما يسعدني أن يقول لي أحد القراء إن العرب مثلنا تماما".
يرى المفكر والأكاديمي التونسي أبو يعرب المرزوقي أن أغلبية المثقفين العرب "أبعد الناس عن المقاومة"، معتبرا أنهم "لو كانوا حقا يؤمنون بالمقاومة التي تحقق تحرير الأوطان وتحرر الإنسان لما كانوا أكثر المحاربين للربيع وأكثر المدافعين عن التبعية الحضارية".
واعتبر المرزوقي -الحاصل على إجازة الفلسفة من جامعة السوربون ودكتوراه الفلسفة العربية واليونانية 1991- أن "النظام الديمقراطي الغربي يجعل النجاح السياسي رهن المال الفاسد والإعلام المضلل، وهم في ذلك لا يختلفون عن الأنظمة الاستبدادية العربية".
وعمل المرزوقي أستاذا للفلسفة العربية واليونانية بالجامعة التونسية، وكان عضو المجلس العلمي للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون- بيت الحكمة الذي تولى إدارة قسم الترجمة فيه، وتحدث للجزيرة نت عن دلالات عملية طوفان الأقصى الثقافية والإستراتيجية.
ويعتبر المرزوقي أنه "لا أحد اليوم في الغرب -إذا ما استثنينا الرسميين سياسيين ونخبا- ما زال يصدق سرديات إسرائيل والتظاهر بكون إسرائيل رمز الحضارة والتقدم والديمقراطية محاصرة بشعوب بدائية تهددها بهولوكوست ثان بعد أن نجاها الغرب من الأول، في حين أنه هو مصدر كل الهولوكوستات التي مر بها اليهود".
ويشير إلى أن "الطوفان حرر شباب الغرب ونخبه الحرة من الابتزاز الصهيوني بصنفيه اليهودي والمسيحي في الولايات المتحدة، خاصة وهي سر قوتهم، ذلك هو المغنم الأكبر لفاعلية الطوفان، إنه تسونامي خلقي بطيء الأثر، لكنه أكثر من زلزال كوني سيغير وجه الأرض كلها".
ويرى الأكاديمي التونسي أن النظام الديمقراطي الغربي يجعل النجاح السياسي رهن المال الفاسد والإعلام المضلل "وهم في ذلك لا يختلفون عن الأنظمة الاستبدادية العربية، ومن ثم فالدولة العميقة التي تتحكم في النخبة السياسية الغربية من جنس التي تتحكم في النخبة السياسية العربية".
يرى المفكر الإسلامي الكبير محمد سليم العوا أن نوافذ العالم العربي -ولا سيما شبابه- قد انفتحت على حقل المقاومة الذي تتجه ثماره كلها نحو استعادة الحق الفلسطيني السليب بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويعدّ العوا في حواره مع الجزيرة نت أن كثيرا من القوى الفاعلة في المجتمعات العربية قد تغيرت نظرتها إلى القيم الغربية تطبيقا "وتأكدت أنها مجرد شعارات للتصدير، أو على الأكثر للاستهلاك المحلي في بلادهم، لكن إعمالها في أي شأن يخص العرب أو المسلمين أو الأفارقة أو الآسيويين بصرف النظر عن ديانتهم أمر دونه خرط القتاد".
ويقول "جاء طوفان الأقصى ليضع حدا للأوهام المتعلقة بعملية السلام، وبالعلاقات الطبيعية بين الصهيوني المحتل وبين العرب جميعا، مسلميهم ومسيحييهم".
ويتابع الفقيه القانوني قائلا "رأى العرب -كما رأى العالم- أن قهر العدو ممكن وأن مواجهته بغير جيوش نظامية تكبده خسائر فادحة لا قبل له باحتمالها، ومجرد وجود هذه الحقائق في أذهان الشباب العرب يفتح الأبواب لمرحلة ثقافية وسياسية، بل ووجودية جديدة".
وينتقد المواقف الرسمية العربية قائلا "رأى المطبعون نتائج علاقاتهم مع العدو الصهيوني وأنها لم تجلب لأحد خيرا قط، بل جلبت لهم نقمة الناس وكراهيتهم، وهي لم تحقق لهم أي مصلحة سياسية أو اقتصادية، بل جعلتهم في النهاية أجزاء من رحى قطبها العدو الصهيوني، وهو المتحكم فيها الذي لا يهتم إلا بمصالحه الذاتية ويتخذ من الشعوب التي طبّعت حكوماتها معه مجالات للتوسع الاقتصادي والثقافي والفكري أملا في محو الفكرة الإسلامية والشخصية العربية".
يعرفه القراء باعتباره ناقدا ثقافيا مرموقا ومؤلفا حاصلا على جوائز عدة، لكنه أيضا مفكر صاحب نظر سياسي وعالم اجتماع خبير بقضايا منطقة الشرق الأوسط وكاتب مختص بالتاريخ الأخلاقي والسياسي والفكري للمسلمين.
ويحلل الأكاديمي والكاتب الإيراني الأميركي حميد دباشي في أعماله موضوعات ثقافية عديدة بما فيها تاريخ إيران المعاصر، معتبرا أن بلاده في جدل مستمر بين رؤيتين متناقضتين للحداثة، إحداهما استعمارية والأخرى مناهضة للاستعمار.
وينظر دباشي إلى صعود التيارات الإسلامية كأحد أشكال "لاهوت التحرير"، مؤكدا رفضه سردية حتمية التناقض بين مفهومي الإسلام والغرب، إذ قام بتفكيك العديد من مفاهيم المستشرقين والإسلاميين على حد سواء.
ويقول إن الأحداث الحالية التي بدأت مع "طوفان الأقصى" نقطة تحول في تاريخنا الحديث، معتبرا "إسرائيل حامية عسكرية ومستعمرة استيطانية اخترعتها إنجلترا، ودعمتها الولايات المتحدة، وسلحتها ألمانيا ودول أوروبية أخرى".
ويضيف دباشي "أصبحت إسرائيل اليوم المستعمرة الاستيطانية الأكثر بغضا في العالم، وليس هناك الكثير مما تستطيع جماعات الضغط الإسرائيلية في الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وأستراليا فعله لتغيير هذه الحقيقة".
ويقول "لا يمكن اليوم لأي كفاح من أجل التحرر في أي مكان -في العالمين العربي والإسلامي على وجه الخصوص- أن يكون مشروعا دون البدء أولا من فلسطين ومن الفلسطينيين كنقطة انطلاقه".
-
المفكر الأميركي جوزيف مسعد: إسرائيل امتداد بشع للاحتلال الأوروبي، والمقاومة فرضت منهجها على الاحتلال، وحرية الجامعات الغربية وهم صدّقه العرب
يعدّ جوزيف مسعد أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا من أهم المفكرين الذين اشتغلوا على تفكيك السرديات الاستشراقية والاستعمارية التي تغذي كلا من الفكر الغربي والصهيونية، وذلك طوال العقدين الأخيرين، وذلك من خلال كتاباته الأكاديمية الرصينة التي سلطت الضوء على مدى أهمية القضية الفلسطينية، ومدى سعي الغرب والمشروع الاستيطاني الإسرائيلي لاستدامة الحرب على فلسطين والفلسطينيين، ومن بين هذه الكتب نجد "ديمومة المسألة الفلسطينية"، و"الإسلام في الليبرالية"، و"اشتهاء العرب".
وهو ما جعل من كتابات البروفيسور جوزيف مسعد تكتسي أهمية كبيرة في ظل ما أعقب "طوفان الأقصى" أو ما بات يعرف بما بعد يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وفق السرديات الغربية التي عاشت فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي ومناصروها عبر العالم لحظات من اختلال التوازن وسقوط لسرديات القوة والهيمنة الاحتلالية التي كان يتم الترويج لها في السياق الغربي وصدّقها العالم العربي.
تميزت كتابات المفكر جوزيف مسعد بكونها تحفر في جذور القضية الفلسطينية وتفكك المشروع الاستيطاني، وتسبر أغواره وتبحث عن الجذور الرابطة بينها وبين المشروع الاستعماري الكولونيالي الأوروبي الذي شهده العالم، وربط العلاقة العضوية بين الاستيطان الإسرائيلي والاحتلال الغربي.
لا يتوقف تفاعل البروفيسور جوزيف مسعد عند هذا الحد، بل سبر أغوار المقاومة الفلسطينية والدروس التي يجب أن نتعلمها منها، والتي يجب أن تتعلمها من حركة التاريخ التي شهدت مقاومات أخرى قاومت الاحتلال الأجنبي، سواء في نجاحاتها أو إخفاقاتها.
وفي الجزء الأول من حوار مسعد مع الجزيرة نت أظهر كيف يرتبط الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي بحركة الاستعمار الغربي، وقارن -على الجانب الآخر أيضا- بين المقاومة في فلسطين وتاريخ حركات المقاومة في العالم، معتبرا أن إسرائيل تبنت أبشع صور الحضارة الغربية المتمثلة في عنصريتها واستعلائها وتحيزها للعنف ضد المدنيين.
وفي الجزء الثاني من الحوار شرح الأكاديمي والكاتب بنيوية العنف في إسرائيل وعدم ارتباطه بحزب معين، وكيف أصبحت الجامعات الغربية تضيق الخناق على الأكاديميين الداعمين للقضية الفلسطينية.
قال عالم النفس والمفكر اللبناني الدكتور مصطفى حجازي إن من تجليات طوفان الأقصى أنه قلب المعادلات وغيّر قواعد اللعبة وأظهر حق الفلسطيني في الوجود من خلال إنجازات المقاومة المذهلة.
وأضاف أن عملية طوفان الأقصى فتحت أعيننا على مسار تحرير حقيقي للقضية الفلسطينية خاصة وقضية الاستقلال العربي عامة، موضحا أن هذه العملية أذهلت القريب قبل البعيد في قوة التخطيط وتميزها في الثورة وإبداعاتها في التنفيذ لاسترداد الحق في الحياة والوجود و"يظل القهر والهدر عابرين مهما طال الزمن، وتقدم المقاومة في غزة أبلغ الدروس في ذلك".
وأشار إلى أن الحركات التي تحولت إلى مسارات تفاوضية لا نهاية لها ولا ثمار لها كما حدث للضفة الغربية بعد اتفاقية أوسلو هي من نوع الأوهام بقيام دولة وكيان، حيث لم يتبق من الضفة سوى 20%.
والدكتور مصطفى حجازي أكاديمي ومفكر لبناني حاصل على دكتوراه في علم النفس من جامعة ليون بفرنسا، وعمل أستاذا جامعيا في عدد من الجامعات العربية وخبيرا للعديد من المنظمات اللبنانية والخليجية والأممية.
واعتبر حجازي أن علماء الاجتماع العرب وسواهم يلامسون سطح الواقع الفلسطيني وينخرطون هم والمثقفون في دراسة الفكر الغربي وقضاياه وأطروحاته وكأنها اليقين العلمي الكوني مع أن هذا الفكر قد تم تطويره لفهم واقع الإنسان الغربي.
بالمقابل، يرى أن طوفان الأقصى أثار في نفوس جيل الشباب الغربيين الشوق إلى الحياة ذات المعنى، والبحث عبر قضية كبرى تملأ عليهم حياتهم، ومن هنا جاءت مظاهراته تأييدا للحق في الحياة والوجود للشعب الفلسطيني.
ويقول "إننا إزاء عنصرية متفوقة على من لم يبلغوا مستوى البشر بعد، ومن خلال هذه العنصرية يعطي الغرب ذاته حق استعمار الشعوب واستغلالها بزعم تمدينها وبزعم أن استغلاله لها هو ضمن واجبه لترقيتها."
أجرى المقابلات والحوارات:
عبد الحكيم أحمين، أمل بوشارب، عبد الرحمن الهلوش، عثمان أمكور، حفصة علمي، غنى الخطيب، عماد بابكر، عمران عبد الله، وآخرين