"رائحة الكتب".. سيرة ذاتية وفكرية للقراءة
لا تزال المنافسة بين الورقي والإلكتروني لم تحسم بعد، لكل منهما قراؤه الذين يدافعون عنه بشراسة.
ولعل هذه المسألة يناقشها الكاتب والصحفي الإيطالي جيامبييو موغيني في كتابه "رائحة الكتب: تفاصيل حميمة في الثقافة الإيطالية"، حيث يقول: "إنها كتب وكتيبات من القرن العشرين، مغلفة بتغليف ورقي رقيق أو سميك، ويتكون كل منها من صفحات قليلة، أو مطويات مطبوعة من الجانبين. قليلة ورفيعة كما هي في صفحات هذا الكتاب الذي توشك على قراءته. ستجد كتبا تهاجم نيران مدفعية رقمية، وجيشا من الصفحات المجانية المنبثقة من نقرات على لوحك الإلكتروني أو حاسوبك، بيئة جميلة وقبيحة في عالم التواصل اليوم، عالم فيسبوك، وإنستغرام".
يصف موغيني في هذا الكتاب الصادر عن دار المدى بترجمة دلال نصر الله أن ما يحدث اليوم من منافسة بين الورقي والإلكتروني يشبه جيش رقمي لم يصمم لاعتقال الأسرى، بل للتدمير والقتل، جيش دمر صناعة التسجيلات، التي كانت جوهرية في الستينيات والسبعينيات. كما خرب ودمر التصوير والمصورين، ودور النشر التي أصدرت الصحف اليومية، والمجلات الأسبوعية، كما دمر الصحفيين الذين كتبوا في تلك المطبوعات، ساء حال الكتب، وأغلق أصحاب المكتبات المستقلة أبواب متاجرهم.
سيرة للقراءة
كل ذلك، لم يثن موغيني عن المغامرة بتحرير كتاب هو عبارة عن سيرة للقراءة أو عملية توثيق للأعمال الأدبية الإيطالية التي صدرت منذ أمد طويلة ولم يتبق منها إلا عدد قليل من النسخ.
وفي خضم الصراع بين الورقي والإلكتروني، أجرى العاملون في دار مارسيليو للنشر عملية حسابية ووجدوا أن 25% من مشتري الكتب في إيطاليا قد اختفوا إلى الأبد، لن يعودوا وليس لهم أثر.
وتحدث موغيني عن ردة فعل دار بومبياني عندما تقدم لها بهذا الكتاب الذي هو عبارة عن دليل للكتب الإيطالية ومن إصدارات القرن العشرين، ولكن مع إضافة تعليق يشبه أسلوب التقارير الرياضية على التلفزيون، لأنه يؤمن أن تقديم الكتاب الورقي للعالم والترويج له، بما يضمن له نجاحا، يشبه الفوز في مباراة رياضية.
ويضيف: "الكتب الموجودة في الكتاب لم أخترها لشهرتها وانتشارها فقط، بل لخطورتها، ولأن أغلب الناس قد هجروها، فهل سيهتم بها أحد؟".
يؤمن موغيني بأنه لا يوجد توثيق أكثر تأثيرا من تذكر لحظات قراءاتنا لتلك الكتب، ومقابلة كُتابها أحيانا. مع كل قراءة يُكتشف شيئا جديدا، ويصبح المرء أكثر وعيا بالعالم والمجتمع المحيط بي.
ويتابع: "اخترت كتبا قرأها قلة قليلة من الناس، تركز أحيانا على أشخاص مهمشين، لا يمكن نبذهم في كل الحالات".
يرى موغيني أن الكثير من الكتب المهمة في تاريخنا الثقافي لم تلق رواجا في البداية، ابتاعها عدد قليل من الناس على سبيل المثال كتاب "ميناء مردوم" الذي يعتبر من أبرز كتب الشعر الإيطالي الحديث للشاعر جوسيبي أوناغريتي، نشر عام 1916، وطبع منه 80 نسخة.
إن معيار تقييم نجاح الكتاب يختلف اليوم اختلافا تاما، ذلك أن نجاح الكتاب يتحدد بمبيعاته، ووجوده في لائحة الكتب العشرة الأكثر مبيعا لهذا الأسبوع أو الشهر، وهذا معيار لم يهيمن على سوق النشر فحسب، بل على الرأي الثقافي السائد.
حياة
ومن الروايات التي تحدث عنها موغيني، رواية "حياة" للكاتب إيتالو سفيفو، التي تعد أول رواية في ثلاثية كتبها على مدار 30 عاما من حياته، وتعتبر ركيزة أساسية في روايات القرن العشرين الإيطالية. ويكاد يكون العثور على نسختها الأولى من المستحيلات.
وعندما لم يرغب الناشرون في مدينة ترييستا معرفة أي شيء عن تفاصيل كتابتها، دفع إيتالو سفيفو ثمن ألف نسخة من جيبه الخاص، وللأسف لم يبع منها إلا عدد قليل.
أهدى الكاتب جزءا من النسخ للأصدقاء، لكن يبدو أن لا أحد اهتم بالرواية، وباقي النسخ احتفظت بها العائلة في قبو المنزل وتمزقت أثناء قصف التحالف للمدينة العام 1945. والنسخة الوحيدة التي عثر عليها موغيني من بائع كتب في مدينة ترييستا، كان يحتفظ بها باعتبارها رواية عظيمة من وجهة نظره، وقرر بيعها فقط لأن موغيني كتب كتابا عنوانه "ترييستا وقضية سفيفو".
ويحدثنا موغيني عن كتاب لا تعرف طريقة حمله، ولا طريقة قراءته، هل سنقرؤه لأنه أثر باقِ من فاشية مهلكة في العشرينيات والثلاثينيات وهو كتاب "الوكر" للكاتب جوسيبي باغانو، رئيس الحركة المعمارية العقلانية، الذي بدأ عضوا في الحزب الوطني الفاشي ليموت في معتقل للنازية قبل وقت قصير من نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويذهب الكاتب بعيدا في تشريح تأثير الفاشية، التي في عامها الـ11 ولدت في كنفها إحدى أجمل المجلات الإيطالية في القرن العشرين من مجموعة طابعات وفناني التصميم من خلال إستوديو في ميلانو، حيث نشأت مؤسسات ربطت مختلف أنواع الذائقة المعاصرة.
رسائل
يعترف موغيني، أن أهم قراءاته كانت في عمر الـ19 في غرفة صغيرة في منزل جده، وهنا يشير إلى أن كتاب "رسائل من السجن" للكاتب أنطونيو غرامشي أحد أهم تلك الكتب التي بالإمكان أن نطلق عليها "الكتاب الذي غير حياتي بلا مبالغة، وترك فيها بصمة لن تزول".
ويصف الكتاب الأول "فلسفة الحرية" للكاتب أمبرتو إيكو الصادر عام 1958، وهو عبارة عن كتاب صغير الحجم يتضمن عدد من المقالات وطبع منه 500 نسخة بأنه كتاب جاد وظريف يسرد فيه إيكو تاريخ فلاسفة الغرب بمقاطع شعرية. إيكو يعرف قصة الفلاسفة ويشبعها أثناء سردها بكمية هائلة من السخرية. هنا ويطرح موغيني سؤاله حول الكتاب، فيقول: كتاب لا تعرف ما الأهم فيه، إلمام الكاتب بالمحتوى، أم تهكمه عليه؟
"رائحة الكتب: تفاصيل حميمة في الثقافة الإيطالية" رحلة أدبية تغوص في تفاصيل وحكايات عن أدب إيطاليا وثقافتها على امتداد القرن العشرين، رحلة يحاول خلالها موغيني مطاردة النسخ الوحيدة المتبقية من روايات شكلت جزءا من تكوينه المعرفي، وفي الوقت ذاته كانت شاهدة على التحولات المختلفة التي مرت بها بلاده، وهي كتب لم تحظ بشهرة كبيرة في الإعلام وتواجه اليوم عصر الرقمنة.