بمتحف "أصداء السيرة الذاتية".. نجيب محفوظ يعود للجمالية بعد 20 عاما
كانت علاقة نجيب محفوظ ( 1911- 2006 ) بالأماكن علاقة روحية خالصة، فلم يكن المكان عنده عالما مغلقا على ذاته، بل كان حياة كاملة لا ترتبط بزمان أو مكان محدد، وكان يأتي بالمكان ويضفي عليه من خيالاته فيستحيل عالما يتنفس قلقا ورقة وطيبا، ويضخ فيه من الكلمات والصور الشعرية ما جعل من الحارة الضيقة والأزقة المتعرجة عالما واسعا، ودنيا أخرى تعج حبا وأملا.
والمتأمل لكل إنتاج نجيب محفوظ الذي لا يتعدى 50 رواية وقصة قصيرة، يجد معظمه يدور في دائرة جغرافية لا يزيد قطرها عن 2 كيلو متر في منطقة الحسين والجمالية في قلب القاهرة الفاطمية، والعجيب أنه صنع من هذا العالم الضيق دنيا بأسرها، وانطلق من المحلية الضيقة إلى رحاب العالمية.
ومن وحي الجمالية أخذ نجيب محفوظ فكرة "الحارة" التي أصبحت عنده رمزا للمجتمع والعالم، بل رمزا للحياة والبشر، وأطلق عليها أسماء كثيرة من رواياته مثل "خان الخليلي" 1946، "زقاق المدق" 1947، "بين القصرين" 1956، "قصر الشوق" 1957، "السكرية" 1957، فكل هذه الروايات هي أسماء حارات صغيرة وضيقة وملاصقة لمقام سيدنا الحسين رضي الله عنه.
ومن الحارة والتكية استلهم شخصية "الفتوة" التي تظهر كثيرا في رواياته، والفتوة عنده رمز للسلطة في كل وجوهها وتقلباتها المختلفة بين العدل والظلم، والسماحة وضيق الأفق، والعنف والاعتدال والشهامة.
التكية
فكانت الحارة هي عشقه وملتقى أحبابه، كما كانت التكية هي ملاذه ومكان عزلته وأمانه، والتكايا أوقاف كان يشيدها الأغنياء ويخصصون لها ريع وقف تقربا إلى الله تعالى ويتردد عليها الفقراء وعابرو السبيل للمبيت والمأكل والمشرب.
ووصف محفوظ التكية في أغلب رواياته، وتطرق إلى الحياة داخلها حتى جعل من أحجارها حياة تتنفس، ومن هذه الروايات "ملحمة الحرافيش": حيث يقول "وكلما ضاق صدره مضى إلى ساحة التكية، يؤاخي الظلام، ويذوب في الأناشيد، وتساءل مرة في حيرة: ترى أيدعون لنا أم يصبون علينا اللعنات؟ ويقول: "رغم تعاسة حارتنا فهي لا تخلو من أشياء تستطيع إذا شاءت أن تبعث السعادة في القلوب المتعبة".
وفصل بين أهل التكية وعالم الحارة بسور باطنه الحكمة والغناء والأشعار، وظاهره صور من جبروت واستبداد البشر، حتى تأتي الذروة الدرامية، حين تخلو الساحة للمصير المحتوم، ويواجه أبطال الملحمة محنتهم فرادى، تنساب أناشيد التكية بحثا عن العدل الغائب بين الأحياء.
وفي عام 2006 رحل نجيب محفوظ عن عالمنا، وفي نفس العام، صدر قرار وزير الثقافة بتخصيص تكية محمد أبو الدهب بمنطقة الأزهر لتكون مركزا ومتحفا للأديب الكبير نجيب محفوظ، ولكن تأخر إنشاؤه 10 سنوات حتى بدأ تأهيل التكية لتصبح متحفا للأديب العالمي نجيب محفوظ، وتم افتتاح المرحلة الأولى في 2019، ومن المنتظر أن يتم افتتاح آخر مراحله قريبا.
وهل كان يدري محمد أبو الدهب هذا الحاكم الذي خان قائده علي بك الكبير وانقلب عليه وقتله طمعا في الحكم، عندما أقام هذه التكية سنة 1188هـ/1774م، أنه بعد أكثر من 300 عام، أن اسمه سيرتبط يوما بنجيب محفوظ أديب مصر والعرب والباحث عن الحق والعدل الذي خانه أبو الدهب طمعا في حكم لم يعمر فيه سوى عامين بعد انقلابه على قائده، وليعود اسم أبو الدهب من جديد ليتذكر الجميع خيانته بعد أن نسيه التاريخ ومحته الجغرافيا من الوجود؟.
مقتنيات وجوائز
يقول د. مجدي عثمان مدير متحف نجيب محفوظ، بدأ العمل في المتحف عام 2016، وافتتح في 2019 بمرحلته الأولى، والمتحف يحوي "10 قاعات"، تحكي كل واحدة منها جانبا من حياة أديب نوبل الذي رحل عن 94 عاما 2006، وقدّم خلال مسيرته الروائية أعمالا متفرّدة جعلته يتربع على عرش الرواية المصرية والعربية ويصعد بها إلى مكانة عالمية، ومن أهم مقتنياته: مكتبة تضم مجموعة كبيرة من الكتب والتراجم كانت بمكتبة الأديب الراحل نجيب محفوظ الشخصية في منزله.
بالإضافة إلى مقتنيات الأديب الراحل الشخصية، ملابسة الشخصية – الشهادات والجوائز – القلادات – الإهداءات –قلادة النيل – جائزة نوبل – ميداليات ونياشين – صور تذكارية للأديب الراحل مع الزعماء والشخصيات العامة – هدايا تذكارية مختلفة من شخصيات عامة.
أما قاعة "أصداء السيرة" فتضم مقتنيات محفوظ الشخصية ولوحات تجسد أديب نوبل وسط الناس وعائلته ومقتطفات من تاريخ حياته، في حين نرى محفوظ في قاعة "تجليات" بمكتبه الخاص وكرسيه وتماثيله الخشبية الصغيرة، وتحيط به الكثير من الكتب.
16 عاما بلا تقدير ولا جائزة
هناك أيضا قاعة النياشين التي تعرض أهم الأوسمة والنياشين والشهادات التي حصدها محفوظ خلال مسيرته، فضلا عن الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأميركية بالقاهرة، وجوائز من هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، وشهادات وتكريمات من مهرجانات السينما بحسب مجدي عثمان.
ونشير هنا إلى أنه بالرغم من أن فوز نجيب محفوظ بالجوائز بدأ مبكرا وعمره 32 عاما عندما فاز بجائزة قوت القلوب الدمرداشية عن رواية "رادوبيس" عام 1943، تلتها جائزة وزارة المعارف عن "كفاح طيبة" 1944، ثم جائزة مجمع اللغة العربية عن "خان الخليلي"، 1946، جائزة الدولة في الأدب عن رواية "بين القصرين" 1957، وفي الستينيات فاز بجائزتين، الأولى: وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى 1962، والثانية: جائزة الدولة التقديرية في الآداب، 1968، وفي السبعينيات تم تكريمه مرة واحدة بوسام الجمهورية من الطبقة الأولى 1972.
ونلاحظ أنه تم إهمال نجيب محفوظ، حيث جف نهر الجوائز، وهو في قمة عطائه وعمره تعدى 70 عاما، لمدة 16 عاما لم يكرم مرة واحدة، حتى فاجأتنا الأقدار بفوزه بجائزة نوبل للآداب، 1988، وبعدها انهالت عليه التكريمات، من قلادة النيل العظمى 1988 وهو أرفع وسام مصري، ثم الوسام الرئاسي وشهادة الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأميركية، 1989، ثم جائزة مبارك في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة، 1999، والعضوية الفخرية للأكاديمية الأميركية للفنون والآداب، 2002، وجائزة كفافيس عام 2004.
الحارة الخالدة
ويضم المتحف قاعة "الحارة" التي توضح كيف كانت نشأة محفوظ بحي الجمالية وكيف جعلته ينغمس في عالم الحارة ويستلهم منها مؤلفاته، كما يعرض فيها فيلم عن حارة نجيب محفوظ وتأثيرها عليه.
والمكان الذي وقع عليه الاختيار ليكون متحفا لنجيب محفوظ، ربما يكون ترجمة حقيقية لما أراده الكاتب الكبير، فقد عشق هذا المكان وارتبط به نفسيا منذ ولادته وحتى آخر نفس في عمره، ونستمع له وهو يصف هذه العلاقة الحميمية في حواراته مع الكاتب الراحل جمال الغيطاني في "نجيب محفوظ يتذكر"، الصادر بالقاهرة عام 1980 يقول الغيطاني:
كانت الحارة هي محور كتابات محفوظ. عالم مغلق على ذاته، مفعم بالحياة، لا يرتبط بزمان أو مكان محدد، لكن يدفعنا إلى أن نفكر في الحياة ذاتها، إن لم تكن الحارة نفسها بالنسبة لمحفوظ تمثل العالم بكل ما فيه من تجارب إنسانية.
من ثم كانت الحارة مصدر إلهام أساسي في معظم روايات محفوظ حيث تجسد الحارة ملامح الشخصية المصرية التي كونت عالما تتشابك فيه القصص والحكايات الغنية بتفاصيل الحارة المصرية، وتجسد معاناة وأفراح قاطنيها. لم تكن تلك الحارات مجرد أزقة يعبرها الناس بل هي حياة تنبض بأشخاص وعلاقات عبر من خلالها محفوظ ليروي أزمنة الاحتلال البريطانى وبداية ثورة 1919 في "زقاق المدق"، وانعكاسها على المجتمع المصرى الذي يمثله أسرة "أحمد عبد الجواد" في ثلاثية "بين القصرين وقصر الشوق والسكرية".
بيت القاضي
ويقول على لسان نجيب محفوظ: "عندما أرحل بذاكرتي إلى أقصى بدايات العمر، إلى الطفولة الأولى، أتذكر بيتنا في الجمالية، والبيت يرتبط في ذكرياتي دائما باللعب، خاصة السطح فيه مجال كبير للعب.. كنا أيضا نلعب في الشارع، مع أطفال وبنات الجيران، كان البيت يقع في مواجهة قسم الجمالية القديم، يطل على ميدان بيت القاضي، وأذكر أنه كان البيت رقم 8 وكنا نتبع مشيخة درب قرمز.
والبيت الذي نشأ فيه نجيب محفوظ، أزيل ومكانه الآن بيت حديث من 3 طوابق، تحته مقهى، أما حارة درب قرمز فما زالت كما هي، وقبو الحارة مازال موجودا ويمتد تحته أحد المساجد الأثرية.
ويقول نجيب محفوظ عن الحارة التي نشأ فيها: كانت الحارة في ذلك الوقت عالما غريبا، حيث تتمثل فيها جميع طبقات الشعب المصري، تجد مثلا ربعا يسكنه ناس بسطاء، ثم تجد بيوت أعيان كبار، مثل بيت السكري، بيت المهيلمي، بيت السيسي، وبيوت قديمة أصحابها تجار، أو من أولئك الذين يعيشون على الوقف، كنت تجد أغنى فئات المجتمع، ثم الطبقة المتوسطة، ثم الفقراء…
كان الجميع يختلطون في شهر رمضان، كانت بيوت الأثرياء تفتح "المنادر" للفقراء -وهي حجرات مخصصة للضيوف والاستقبال- كان يمكن لأي شخص من أهل الحارة أن يدخل ويأكل حتى الغرباء..
الفتوات
ويضيف صاحب "أولاد حارتنا" في حواره مع الغيطاني "كان فيه معالم في الحارة علقت بذهني، لعل أبرزها "الفتوة"، كان وجود الفتوات معترفا به من الحكومة نفسها، كنا نستيقظ على الزفة في بيت القاضي، عندما تدب فيها المشاجرات، وفي ثورة 1919 لعبوا دورا كبيرا، رأيت بعيني الفتوات وهم يكتسحون قسم الجمالية ويحتلونه، من حجرة السطح التي كان لها نافذة تطل على الميدان، رأيت منها في طفولتي كل المظاهرات التي مرت ببيت القاضي.
كنا نذهب أولا إلى الكتاب، ثم نلتحق بالمرحلة الابتدائية، وكان الكتاب مختلطا للجنسين، يقع في حارة الكبابجي، بالقرب من "درب قرمز" والمدرسة مواجهة لمسجد الحسين، من هذه المدرسة رأيت المظاهرات، كانت المنطقة دامية، وأكبر شيء هز الأمن الطفولي في نفسي هو ثورة 1919، رأينا الإنجليز وسمعنا ضرب الرصاص، ورأيت الجثث والجرحى في ميدان بيت القاضي، وشاهدت كيف كان الهجوم على القسم؟.
ويضيف محفوظ في ذكرياته: فارقت الجمالية إلى العباسية وعمري 12 عاما، ولم أنس الجمالية، حنيني إليها ظل قويا، دائما كان حنيني يشدني إلى العودة إلى الجمالية، وذلك بسبب صديق من شلة العباسية توقف عن الدراسة وعمل مع والده في دكان مانيفاتورة (محلات القماش القديمة) بمنطقة الحسين، وعرفت "زقاق المدق" بفضل صاحبنا هذا، والحقيقة كان بيني وبين المنطقة وبين الناس والآثار هناك، علاقة غريبة، تثير عواطف حميمة، ومشاعر غامضة، لم يكن ممكنا الراحة منها فيما بعد إلا بالكتابة عنها.
الحسين ملاذا وأمنا
كانت كل سهراتنا في منطقة الحسين، كنت أتردد على المنطقة بافتتان لا حد له، وتبلغ سهراتنا أجمل لياليها في رمضان، كنا نمضي إلى الحسين لنسمع الشيخ علي محمود، ونقضي الليل كله حتى الصباح، كان ذلك أثناء دراستي، ثم أثناء وظيفتي، ولم أنقطع عن منطقة الحسين حتى أوائل السبعينيات، عندما تقدم بي العمر، وزادت أزمة المواصلات.
أضف إلى ذلك، أن المكان نفسه تغير، الفيشاوي القديمة تهدمت، كان السهر في الفيشاوي حتى الصباح من أمتع ساعات حياتي، وكانت الليالي تجمعني بشخصيات عديدة. إن عدم ترددي على الجمالية يحزنني جدا.
ويقول صاحب "الحرافيش" لجمال الغيطاني: تعرف أنه أحيانا تمر بالمؤلفين لحظات يشكون فيها ببعض جفاف في النفس، وكثيرا ما كنت أشعر بهذا الجفاء والجفاف، لكن عندما أمر في الجمالية تنثال عليّ الخيالات.
ولما تركت العمل في مكتب وزير الأوقاف، عدت إلى الجمالية باختياري، موظفا في مكتبة الغوري في الأزهر، وهناك قضيت شهورا من أمتع فترات حياتي، في هذه الفترة قرأت "مارسيل بروست البحث عن الزمن الضائع" وكنت أتردد بانتظام على مقهى الفيشاوي في النهار، حيث المقهى العريق شبه خال، أدخن النرجيلة، أفكر وأتأمل، وأتمشي في الغورية.
لقد انعكست المنطقة في أعمالي، حتى عندما انتقلت بعد ذلك إلى معالجة موضوعات ذات طبيعة فكرية أو رمزية، عدت أيضا إلى عالم الحارة، فما يحركني حقيقة هو عالم الحارة.
أحمد عبد الجواد الجبار
وتسألني من أين استوحيت شخصية أحمد عبدالجواد بطل الثلاثية؟.
ويجيب محفوظ: أذكر هنا أسرة كانت تسكن في مواجهتنا في بيت القاضي، كان البيت مغلقا باستمرار، نوافذه لا تفتح أبدا، ولا يخرج منه إلا صاحبه، رجل شامي اسمه "الشيخ رضوان"، مهيب الطلعة، وكانت أمي تصحبني لزيارة هذه الأسرة، وكنت أرى زوجة هذا الرجل، كنا نزورها ولا تزورنا، لأنه غير مسموح لها، وكانت ترجو والدتي أن تتردد عليها…
ولكنه يذكر اسما آخر لهذا الرجل الذي استمد منه شخصية أحمد عبدالجواد في حواراته مع الأستاذ رجاء النقاش ويقول: "كانت شخصية سي السيد" تنطبق أكثر على جار لنا شامي الأصل اسمه "عم بشير" استقر هو وزوجته الشامية أيضا في مصر، وكان بيتنا مواجها لبيتهم في بيت القاضي، هذا الرجل رغم طيبته كان جبارا، وكان يعامل زوجته بقسوة، لدرجة أنها كانت تأتي إلى والدتي باستمرار تبثها الشكوى من سوء معاملة الزوج، وفي ليالي القمر كانت تجلس مع أمي فوق السطح وتطلب مني الغناء فألاحظ الدموع على خديها، أما والدي فربما أخذت منه في شخصية السيد أحمد عبدالجواد حبه للفن فقط.
المكان يسكن وجداني
ويقول في كتاب "نجيب محفوظ صفحات من مذكراته" للراحل رجاء النقاش عن منطقة الجمالية والحسين التي نشأ فيها: "هذا المكان يسكن في وجداني، عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جدا، أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائما بالحنين إليه لدرجة الألم".
ويضيف: والحقيقة أن ألم الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي، حتى عندما اضطرتنا الظروف لتركه والانتقال إلى العباسية كانت متعتي الروحية الكبرى هي أن أذهب لزيارة الحسين، وفي فترة الإجازة الصيفية أيام المدرسة والتلمذة، وكنت دائما أقضي السهرة مع أصحابي في الحسين في مقهى الفيشاوي "نشرب الشاي والشيشة ونقضي وقتا في السهر والحديث.
ولكلٍ بداية نهاية، كما قال نجيب محفوظ، تنتهي مشاهد المتحف بصورة جنازة شعبية أوصى بها محفوظ تخرج من مسجد الحسين، رافضا أي مراسم رسمية، ولذلك أقيم للأديب الكبير جنازتان، الأولي شعبية حسب رغبته، في العاشرة من صباح يوم وفاته من مسجد الإمام الحسين، حيث أقيمت الصلاة عليه في مسجد الحسين، قلب حي الجمالية الذي شهد نشأته وألهمه كتاباته الأدبية، أما الجنازة الثانية فكانت عسكرية، شارك فيها كبار المسؤولين بالدولة.