أحكام المظاهرات والاعتصامات.. كتابٌ يشتبك مع تفاصيل الاحتجاجات الشعبيّة فقهًا وواقعًا

من المسائل الطَّارئة والنوازل المستجدة التي ظهرت للأمّة في مسيرتها الحديثة مسألة النشاطات الاحتجاجية التي تعبِّر عن انتفاض المجتمع ورفضه كلَّ مظاهر العبودية والتبعية والاستبداد والاحتلال الخارجيّ والدّاخلي، ورفع الصّوت في وجوه الطّغاة المستبدّين، والاحتجاج على عدوان قائم، أو مساندة شعب مضطهد يواجه عدوًا غاصبًا كحال الشعب الفلسطيني الذي يواجه الصهاينة على سبيل المثال، وكان هذا يفرض على الباحثين في المجالات المختلفة ومنها الشرعيّة بيان الأحكام الشرعية لهذه النشاطات الاحتجاجية والتي تشمل المظاهرات والاعتصامات، إضافةً إلى تأصيل هذه الأحكام بغرض إيجاد المعايير والقواعد الشرعية الفقهية التي تكون ميزان هذه التصرفات والأفعال.
وكان لا بدَّ أيضًا من تحرير معنى النشاطات الاحتجاجية، ومستلزماتها من تحليل واقعي للوضع، ومن تخطيط وتنظيم للأفراد وأعمالهم خشية إهدار هذه الجهود، ومن الاستعدادات التعبوية، إضافة إلى صفات النشاطات الاجتماعية المتمثلة في: النضالية، الانضباط، المرونة، الاستمرارية.
كذلك كان من الضّروري بيانُ مدى مشروعية الاعتصامات والمظاهرات واستعراض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشتها، ثمّ الحديث عن الأحكام التفصيليّة المتعلّقة بها من مشاركة المرأة وأحكام الهتافات التي تتردد فيها، والاعتداء على النفس، وحمل السلاح، وغير ذلك من القضايا التي تثير تساؤلات وإشكالات ينبغي بيانُها.
ولهذا جاء كتاب "أحكام المظاهرات والاعتصامات ومسائلها التفصيليّة.. التأصيل الشّرعي للنشاطات الشّعبيّة الاحتجاجيّة" للكاتب محمد خير موسى، والذي صدر عن مكتبة الأسرة العربيّة في إسطنبول وهيئة علماء فلسطين ليناقش هذه المسائل من زاوية النّظر الفقهيّة والأصوليّة، ويهدف الكتاب بحسب مؤلفه إلى بيان موقف الشريعة الإسلامية من النشاطات والفعاليات الاحتجاجية التي يقوم بها أفراد الشعب للتعبير عن موقفٍ احتجاجيّ أو لمناصرة ودعم صمود وكفاح أهل قضيّة عادلة، وذلك من خلال الوقوف على آراء العلماء المعاصرين، وكيفية تخريجهم هذه المسائل، مع عرض ما استدلوا به من أدلة شرعية معتبرة.
وبيان حكم الشّرع في التصرفات التي يُقدِم عليها المحتجون أو الناشطون في المظاهرات والاعتصامات، وتوضيح وبيان ما يجوز فعله، وما لا يجوز فعله أثناء الاحتجاج، وبيان من يجوز له المشاركة في الفعاليات الاحتجاجية، ومن لا يجوز له المشاركة، ومعرفة من يتحمّل مسؤولية الأضرار الناجمة عن النّشاطات والفعاليات الشّعبية.
ويتميز الكتاب عن سائر الدراسات السابقة التي بحثت في الأحكام الشرعيّة للمظاهرات والاعتصامات في أنه بحث في الجوانب التفصيلية والمسائل الفرعية التي تحدث داخل المظاهرات والاعتصامات وهذا ما لم تحفل به دراسة أخرى أو تمّ تناوله بهذا التفصيل في كتاب آخر.

ولقد أهدى المؤلف كتابه قائلا:
إلى الذين زلزلوا عروش الطّغاة المستبدّين، وأقضّوا مضاجع المحتلّين الغاصبين بحناجرهم وصرخات الحقّ المنبعثة من قلوبهم قبل حلوقهم، إلى الذين وقفوا كالنّخيل شموخًا في السّاحات والميادين ليقولوا لكلّ مجرمٍ ومحتلّ: ارحل.
إلى الذين كانوا الأصدق تعبيرًا عن إرادة الشّعوب والأعمق تفكيرًا حين هتفوا: الشّعب يريد..
إلى الذين أثبتوا أنّ الصّدور العارية إلّا من الإيمان أقوى من الدّبّابات، وأنّ العين حين تكتحلُ بالحقّ تهزم مخرز الباطل.
إلى الذين لن يقرؤوا كلماتي هذه لأنّهم كتبوا بدماء صدورهم ونحورهم تاريخًا جديدًا لأمّتنا في مواجهة الباطل والاحتلال، شهداءِ الثّورات الأحياء أبدًا.
إلى المتحفّزين لجولاتٍ جديدةٍ في مواجهة الطّغاة وصولاتٍ جديدةٍ لإساءة وجه الغاصبين، باحثين عن الحقّ في أفعالهم ومظاهراتهم واعتصاماتهم القائمة والقادمة، إليهم جميعًا أهدي هذا السِّفرَ المتواضع.
وينقسم الكتاب بعد المقدمة إلى تمهيد وفصلين على النحو الآتي:
أولا: التمهيد ويحتوي على تحرير مصطلحات عنوان البحث وذلك في مطالب عدة:
المطلب الأول ويناقش تحرير مفهوم التأصيل فيعرفه الكاتب أنّه "إعطاء الواقعة الجديدة الحكم الشرعي المناسب لها بعد ردها إلى أصولها" وهذا التعريف ينصُّ على معنى التأصيل الشرعي بمعنى ردّ المسألة إلى أصول التشريع وهذا ما اجتهد المؤلف في انتهاجه في الكتاب، ثمّ يستعرض المؤلف في 4 نقاط أهميّة التأصيل، وممّا قاله في بعضها: "إنَّ أهمية التَّأصيل تأتي كذلك من جانبٍ آخرَ، وهو ما يمكن أن نُطلق عليه "توحيدُ المعايير"، فالنَّاظر اليومَ في العالم يجد اختلافًا كبيرًا وكثيرًا في النظريات والقوانين، ومن أهمِّ مصادر الاختلاف في هذه الأمور الاختلافُ في المعايير التي بُنيت عليها، فالأمر قد يكون ممنوعًا في مجتمعٍ أو بلدٍ ومباحًا في أخرى، والنَّظرية قد تكون من المسلَّمات في مجتمعٍ وفي آخرَ يُختلف عليها".
والمصلحة البشريَّة تقتضي وجودَ معاييرَ وقواعدَ تكون هي الميزانُ الذي توزن به القضايا الكبرى التي توجِّه وتحكم حياةَ الناس، وبها يُعرف الصالحُ من الفاسد.
ويأتي تأصيل المسائل والنوازل والقضايا المعاصرة للتَّأكيد على أنَّ الإسلامَ بأصوله المستوعِبة للحياة صالحٌ ليكون هو المعيارَ والأصل الذي تنبني عليه الحياة".
ثمّ يأتي المطلب الثاني في تحرير معنى النشاطات الاحتجاجيَّة التي يعرفها الكاتب بأنّها "القيام بأفعالٍ معينةٍ أو الامتناعُ عن أفعالٍ معينةٍ تنفِّذها الشعوب رفضًا واستنكارًا ومعارضةً لواقعٍ سياسي معيّنٍ بحركةٍ وثّابةٍ وطريقة سلميةٍ تسعى إلى التغيير، وتبذل التضحياتِ، واعيةً، تحافظ على سلميّةِ تحركِّها وتضبط مشاعرها، مستمرةً حتى تحقيقِ مطالبها" وقد بيّن المؤلّف أنّ النَّشاطات الشَّعبيَّة الاحتجاجيَّة معروفةٌ في علم السِّياسة المعاصر، تحت مصطلحات متنوعة أشهرها: "المقاومةُ المدنيّة" فيتناولها بالتعريف بحسب السياسيين المعاصرين، ويتناول مستلزماتها في 4 نقاط.
ثمّ يأتي المطلب الثالث: تعريف المظاهرات والاعتصامات وفيه يعرّف المؤلف المظاهرة بأنَّها: "مسيرٌ سلمي معلَنٌ لجمعٍ من الناس يتعاونون بينهم للوصول إلى الغلبة والظَّفر بتحقيق أهدافهم السياسية"، بينما يعرّف الاعتصام بأنه "ملازمة جمعٍ من الناس البقاءَ في مكانٍ معينٍ بطريقة سلمية وامتناعُهم عن المغادرة حتى تحققِ أهدافهم السياسية".

ثم يأتي الفصل الأوَّل تحت عنوان "المظاهرات والاعتصامات بين الواقع والمشروعية" وفيه 3 مباحث على النحو الآتي:
المبحث الأوّل وتعرض فيه الكاتب إلى واقع المظاهرات والاعتصامات ودراسة نماذج من أشهر المظاهرات والاعتصامات في العصر الحاضر.
أمّا المبحث الثاني فناقش فيه المؤلف الحكم التكليفي للمظاهرات والاعتصامات مستعرضًا أقوال المجيزين والمانعين وأدلة كل فريق من القرآن الكريم والسنة النبوية والقواعد الفقهيّة والأصوليّة ثم يناقش الأدلة المعروضة نقاشًا تفصيليًا.
ثمّ يأتي المبحث الثالث تحت عنوان المظاهرات والخروج على الحاكم إذ إنّ من أكثر القضايا التي اعتمد عليها المانعون للمظاهرات إما تصريحًا أو إشارة أن هذه المظاهرات صورة من صور الخروج على الحاكم، فيبدأ الحكّام باستخدام الخطاب الشرعي الذي ينصّ على حرمة الخروج على الحكّام للتشنيع على المتظاهرين والتشهير بهم مما حدا بالكاتب إلى مناقشة مدى اندراج المظاهرات والاعتصامات تحت مسمى الخروج على الحاكم.
ثمّ يأتي الفصل الثاني تحت عنوان "الأحكام التفصيلية للمظاهرات والاعتصامات وضوابطها الشرعية". ويبين الكاتب أنّ مواقف ثلّة من أهل العلم تأثّرت في حكمهم على المظاهرات والاعتصامات بما يصاحبها من أفعال وتصرّفات وسلوكيّات يمكن أن يتلبّس بها المتظاهرون والمعتصمون. ولو أنّهم فككوا المشهد وجعلوا ما يتخوّفون من وقوعه داخلًا في الأحكام التفصيلية للمظاهرات والاعتصامات ثمَّ عمدوا إلى وضع ضوابط تضبط هذه الأحكام والتصرّفات لكان ذلك أجدى وأجدر.
وقد قسم الكاتب هذا الفصل إلى 6 مباحث على النحو الآتي:

المبحث الأول: مشاركة المرأة في المظاهرات والاعتصامات، وقد فصل القول في هذا المبحث بضوابط مشاركة المرأة في المظاهرات والاعتصامات، كما بحث في حكم مشاركة المرأة في المظاهرات والاعتصامات مع غلبة الظّنّ بالاعتقال أو القتل أو الاعتداء منوهًا إلى أنّ هذه المسألة شائكةٌ، وسبب ذلك اختلاف صورتها وتعددها من مكانٍ لآخر ومن بلدٍ لآخر، ففي بعضِ البلاد يغلبُ على الظّنّ هجوم قطعان الشّبيحة والبلطجية على النّساء واعتقالهنّ، أو استهدافهنّ بالرّصاص الحيّ، وهناك بلادٌ إذا اعتقلت المرأة فيها كانت عرضة للتعذيب بأشكال شتّى تصل حدّ انتهاك العرض عبر التحرّش والاغتصاب، بينما لا يوجد مثل هذا في مواطن أخرى.
المبحث الثاني: الهتافات والشعارات، وناقش فيه الكاتب مشروعيّة الهتافات والشعارات وما يتعلق بها من المسائل مثل معارضة الهتافات والشعارات للعقيدة، وكذلك ناقش أحكام ذكر الآخرين بالسوء في الشعارات من التعرّض لهم بالسبّ واللعن وأحكام ذلك، كما تناول بالبحث مسائل منها ترديد الهتافات والشعارات في تشييع الشهداء وجنازاتهم، وترديد الهتافات والشِّعارات أثناء خطبة الجمعة وأثناء أداء مناسك الحجّ.
المبحث الثّالث: الاعتداء على النّفس في المظاهرات والاعتصامات، وناقش فيه المؤلف اعتداء الشخص على نفسه بالقتل والإيذاء، كإحراق المتظاهر نفسه كما فعل البوعزيزي، كما ناقش حكم اقتحام المتظاهرين على العدوّ المدجَّجِ بالسِّلاح وهم لا يملكون شيئًا كما جرى في مسيرات العودة على سبيل المثال، كما ناقش حكم قتل الشَّخص غيرَه في المظاهرة أو الاعتصام، وحكم الإكراه على إطلاق النار على المتظاهرين.
المبحث الرابع: ردّ الصّائل وحمل السّلاح في المظاهرات والاعتصامات السلميّة، وناقش فيه المؤلف أحكام حمل السِّلاح في المظاهرات والاعتصامات على وجه الإضرار، وحكم تكليف مجموعات بالتسلّح لردّ صيال أجهزة القمع، كما استعرض بالبحث حكم إطلاق الرصاص في الهواء في جنازات الشّهداء.
المبحث الخامس: تخريب المرافق والممتلكات والاعتداء عليها، إذ يعتدي المتظاهرون والمعتصمون في بعض الأحيان على الممتلكات والمرافق عامةً كانت أو خاصةً، فلا بُدَّ من بحث حكم هذا الفعل والآثار المترتبة على ذلك، فناقش المؤلف حكم تخريب المرافق والممتلكات العامة وكذلك تخريب المرافق الخاصة أثناء المظاهرات والاعتصامات، والأثر المترتب على تخريب كل منهما، فاستعرض بالبحث الواجب بالضَّمان عند إتلاف المرافق والممتلكات عامَّة كانت أو خاصَّة، ومَن هو الذي يجب عليه الضَّمان في حالة ما إذا كان الفاعل معروفًا، وإذا كان الفاعل مجهولًا.
المبحث السادس: مسائل متفرقة، وتناول فيه المؤلف بالبحث مسألة الجمع بين الصَّلوات في المظاهرات والاعتصامات، كما تناول أثر استنشاق الغازات المسيلة للدموع والسامة على الصيام.
ثمّ تأتي الخاتمة والنتائج وضمّنها الكاتب 37 نتيجة خلص إليها من الكتاب.
الكتاب الذي يقع في 334 صفحة يمثّل مرجعًا فقهيًا تأصيليًا تفصيليًّا لكل المسائل التفصيليّة التي يتعرض لها المتظاهرون والمعتصمون في أنشطتهم الاحتجاجيّة.