الإغراق القصصي في ميدان الدعوة.. حديث عن البدايات والتأثيرات

لا يشك أحد في أهمية القصة وقيمتها في التأثير عموما وقي التأثير الدعوي على وجه الخصوص، وقد حضرت القصة في البيان القرآني بشكل لافت، وكذلك في الحديث النبوي، والاعتماد على القَصَص القرآنيّ في حدود ما ذكره القرآن الكريم والقِصَص الواردة في الحديث النبوي من أرفع أساليب الدعوة إلى الله تعالى وأكثرها تأثيرا.
غير أن نوعا مختلفا من القصص دخل مجال الدعوة والوعظ والإرشاد يعتمد على أخبار السابقين أو على استحضار الأقاصيص والغرائب، وغدا طاغيا في كلام الكثيرين من المشتغلين بالدعوة إلى الله تعالى، وهذا النوع من الإغراق القصصي غدا سمة لكثير من الدعاة على الشاشات الفضائية أو عوالم التواصل الاجتماعي.
كيف بدأ الإغراق القصصي لميدان الدعوة؟
دخول هذا النوع من الغرائب القصصية إلى خطاب الدعاة والوعاظ ليس حديثا، ويجيبنا عن سؤال البداية الشيخ محمد الغزالي في كتابه "مع الله" إذ يقول "من مسلمة أهل الكتاب، فإن بعض من آمن من اليهود والنصارى وجد أمامه مجالا لنفث خرافاته القديمة، ورواية ما ألِف سماعه عن بدء الخلق، وعن النبوات الأولى، وعن أحوال الأبرار والفجار، بل عن نبوءات المستقبل، فقد زعم كعب الأحبار أنه يجد مقتل عمر في التوراة!
ووقع الأغرار من المسلمين في هذه الحبائل فأخذوا ينقلونها ويسمونها "العلم الأول" يعنون: علم ما قبل الإسلام، ولو سموه "الجهل الأول" لأنصفوا الحق".
وتطور الأمر إلى أن غدا البعض يتحول إلى مجرد قاصّ تحت ستار الدعوة والوعظ والإرشاد، وقد أجاد ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" توصيف الواقع المر إذ قال "إن القصاص على قديم الزمان كانوا يُميلون وجوه العوام إليهم، ويستدرّون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الحديث. ومن شأن العوام القعود عند القاصّ، ما كان حديثه عجيبا، خارجا عن فطر العقول أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون".
وقد قال الإمام البغوي في كتابه "شرح السنة" "وقيل: إن المتكلمين على الناس ثلاثة أصناف: مذكر، وواعظ، وقاص، فالمذكر: الذي يذكر الناس آلاء الله ونعماءه، يبعثهم به على الشكر له.
والواعظ: يخوفهم بالله، وينذرهم عقوبته، ويردعهم عن المعاصي.
والقاص: هو الذي يروي أخبار الماضين، ويسرد عليهم القصص، فلا يؤمن فيها الزيادة والنقصان، والواعظ والمذكر مأمون عليهما ذلك، والله أعلم".
ولقد دأب هؤلاء القصاص على المبالغة والتهويل في العرض لجذب انتباه الناس وزيادة تعلقهم مما جعل المحدثين يتعاملون مع هذا التهويل على أنه ضرب من الكذب الذي يمنع صاحبه من أن يكون من الرواة المعتبرين، وهذا التهويل الذي يظن فاعلوه أنه يحقق أثرا إيجابيا في عالم الدعوة وتحبيب الناس بدين الله تعالى ستكون آثاره بالغة السوء لو يعلمون؛ وفي ذلك يقول ابن الجوزي في "كتاب القصاص والمذكرين": "عن أبي الوليد الطيالسي قال: كنت مع شعبة، فدنا منه شاب؛ فسأل عن حديث فقال له: أقاص أنت؟ قال: نعم. قال: اذهب؛ فإنا لا نحدث القصاص. فقلت له: لم يا أبا بسطام؟ قال: يأخذون الحديث منا شبرا فيجعلونه ذراعا".
مواقف العلماء من الصحابة والتابعين من هذا النوع من القصص
كان الصحب الكرام حريصين أشد الحرص على عدم تسرب المجالس المغرقة بالقصص والغرائب إلى عالم الدعوة إلى الله تعالى، فقد أخرج ابن أبي شيبة وغيره أن عمر رضي الله عنه بلغه أن قاصًّا يقص بالبصرة، فكتب إليه "الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين"، ففهم الرجل مراد عمر فترك القص في المسجد وانقطع عما كان فيه.
ويذكر البغوي في "شرح السنة"، "قال مجاهد: كنا جلوسا في المسجد، فجاء قاص، فجلس قريبا من ابن عمر يقص، فأرسل إليه ابن عمر أن لا تؤذنا، قم عنا، فأبى، فأرسل إلى صاحب الشرط، فبعث شرطيا فأقامه".
يقول الشيخ محمد الغزالي "وأيا ما كان الأمر فليس كل قصص منكرا يحارب، فإن هناك نفرا من المربين يحسنون عرض الحق في ثوب روائي مستحب، ويجتذبون الجماهير بحسن تلطفهم، وسهولة أسلوبهم، وفي القرآن كما نعلم أحسن القصص، والمتحدثون للعامة من هذا القبيل لا يشغب عليهم، ولا يمنعون من إرشادهم".
وإلى هذا يشير أيضا ابن الجوزي في "صيد الخاطر": "وقد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص، فينهون عن الحضور عندهم، وهذا على الإطلاق لا يحسن اليوم؛ لأنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين بالعلم، فرأوا حضور القصص صادا لهم، واليوم كثر الإعراض عن العلم، فأنفع ما للعامي مجلس الوعظ، يرده عن ذنب، ويحركه إلى توبة، وإنما الخلل في القاص، فليتق الله عز وجل".
وهنا التأكيد أن ما ينبغي تجنبه هو الإغراق في القصص غير الثابتة عن أحوال السابقين، أو التوظيف غير السليم لقصص من الواقع المعاصر، وهذا للأسف بضاعة الكثيرين من المشتغلين بالدعوة والوعظ والإرشاد في زماننا.
نموذج من التوظيف السلبي للإغراق في القصص في عالم الدعوة
بعض الخطاب الدعوي يحاول تكريس فكرة العدل الإلهي من خلال الإكثار من قصص الظلم ووقوع العقوبات على من مارس ظلما أو عدوانا والانتقام منهم في الدنيا.
وهذا الخطاب فيه إشكال كبير على الرغم من جاذبيته وتلقف الجمهور له بشغف؛ فهو يودي إلى عكس المراد منه.
حين يتم تكريس أن وقوع العقوبة على من يمارس الظلم وتعجيل الانتقام منه يتم في الدنيا فإن هذا يؤدي إلى شعور سلبي تجاه فكرة العدل الإلهي حين يرى المظلومون أن من ظلمهم وقتلهم وشردهم وأعان على ظلمهم مات على فراشه بعد أن عاش عمرا طويلا في القصور الفارهة متقلبا في نعيم الحياة الدنيا بينما هم يكتوون بسببه في بؤسها وجحيمها.
وجود حالات من تعجيل العقاب والانتقام للظالمين في الدنيا هو استثناء يراد منه إيصال رسائل ومبشرات للمظلومين وردع للظالمين، ولا ينبغي تحويل الاستثناء إلى الأصل والقاعدة؛ فالأصل الذي ينبغي أن يتركز عليه الخطاب الدعوي هو أن العدل المطلق والعقوبة الحقيقية للظالمين والمجرمين وزبانيتهم إنما تكون في الآخرة، وبيان ما أعده الله تعالى للظالمين المتكبرين المتجبرين، وتعزيز الإيمان بعدل الله تعالى وانتقامه في اليوم الآخر، ففي ذلك سلوى كل مظلوم يرى الظالم والمجرم قد غادر الدنيا ولم ينل جزاء ظلمه وإجرامه.
إن الإغراق في القصص مع سوء في جمعها من مصادرها، وسوء في توظيفها هو نوع من تسلية الجماهير باسم الدعوة إلى الله تعالى، وإسهام في تخدير الشعوب خلافا لما عليه القصة في القرآن الكريم والحديث النبوي من إيقاظ الأفهام، ورسم الطريق الواضحة للعمل لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وبيان السنن الإلهية في الأفراد والجماعات والمجتمعات.
- الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.