الباحث الصيني عبد الرحمن شنغ هوا تشانغ: جهود إحياء تراث مسلمي الصين القديم فردية ونطمح أن نكون جسرا بين حضارتين
بعد غياب طويل امتد لنحو 700 عام، بدأ الباحثون الصينيون منذ 3 عقود بالبحث في تراثهم الإسلامي العلمي والثقافي ساعين بجهود فردية لإحياء هذا التراث الذي كتب بعدة لغات وتناثر هنا وهناك في بيوت ومساجد مسلمي الصين.
ومن هؤلاء الباحثين المعاصرين الذين تخصصوا في الدراسات الإسلامية وتفرغوا في مساحة البحث والتدقيق في تراث علماء الصين المسلمين، الدكتور عبد الرحمن شنغ هوا تشانغ، الباحث في الفلسفة الإسلامية.
يرى الدكتور تشانغ أن السياسات الانغلاقية للأسر الحاكمة بالصين في القرون الماضية تسببت في قطع صلة مسلمي الصين عن العالم الإسلامي، وهو ما جعل وجودهم معدوما في الدراسات والمؤلفات خلال هذه الفترات الزمنية، مما تسبب في ندرة المعلومات عنهم في المكتبات الإسلامية.
ويصف تشانغ هذه الفترة التي تمر بمسلمي الصين بأنها فرصة مهمة كي يعودوا مرة أخرى إلى التواصل والاتصال مع الشعوب العربية والإسلامية؛ خاصة أن سياسات الانفتاح التي اتبعتها الصين في العقود الماضية كأحد استحقاقات العلاقات التجارية والاقتصادية ومتابعة التطورات العلمية حول العالم أسهمت إلى حد كبير في نجاح عودة التواصل مع مسلمي الصين من جديد.
وبات التحدي الأكبر أمام الباحثين المسلمين في الصين من جهة، والمهتمين بالتعرف على تراث مسلمي الصين القديم الديني والثقافي، هو كيفية تجميع وإحياء هذا التراث خاصة أن الجهود التي يبذلها أبناء مسلمي الصين من الباحثين الذين درسوا في الجامعات الإسلامية بالدول العربية والإسلامية تتسم بالفردية والاجتهاد الشخصي، ولم تدخل مؤسسات علمية احترافية لتولي هذه المهمة التاريخية قبل أن يضيع ما تبقى من تراث مسلمي الصين من المخطوطات والكتب القديمة.
حول واقع تراث مسلمي الصين القديم الديني والثقافي، والجهود التي تبذل حاليا لإحيائه والحفاظ عليه ومن ثم نشره تدريجيا في أوساط الباحثين والمهتمين، كان للجزيرة نت هذا الحوار مع الدكتور عبد الرحمن شنغ هوا تشانغ، الباحث في الفلسفة الإسلامية، والمقيم في القاهرة منذ نحو 3 عقود.
ولد الدكتور تشانغ، في عائلة مسلمة بمحافظة "ويشان" من مقاطعة "يونان" بجنوب غرب الصين. وكان والد جده شيخا للإسلام له شهرة في محافظته، قضى حياته في التعلم والتعليم، وله تلامذة، ولجده كذلك مشاركة في التدريس بالقرية، كما أن والده أيضا تعلم العلوم الشرعية وتخرج في إحدى المدارس المسجدية في المحافظة، وكذلك عمه، وهو أول شيخ في التعليم التخصصي للعلوم الشرعية.
درس تشانغ المرحلة الابتدائية في قريته. وكان جده يتعهد مسيره في الدروس الدينية، وكان شيخا ذا مهابة، يعكف على القراءة عند الفراغ، ويحافظ على الصلوات الخمس جماعة، ويستيقظ قبل الفجر فيصلي ركعتين يقرأ في الأولى سورة "يس" والثانية "تبارك"، ثم يذهب إلى المسجد ذاكرا لله في الطريق. وهذه السيرة نقشت في ذاكرة الفتى الصغير ورافقته في حياته حتى اليوم.
حصل تشانغ على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية عام 2021، ونشر بعض الأعمال العلمية، منها كتاب "الوجود والمعرفة في تصوف ابن عربي الفلسفي" وكتاب "الوجود والمعرفة من الفلسفة الكونفوشيوسية"، إضافة إلى أبحاث علمية أخرى.
أشرف الدكتور تشانغ مؤخرا على تحقيق كتاب للأستاذ العالم محمد مكين الأزهري الدرعمي الصيني، المتوفى سنة 1978، حول تاريخ الإسلام والمسلمين في الصين.
إلى نص الحوار..
-
تلقيتم في طفولتكم الدروس الدينية في "المدارس المسجدية"؛ فهل وصفت لنا طريقة التدريس فيها؟
المدرسة المسجدية قسمان: قسم على دوام كامل للطلاب المتفرغين، ويعتبر دراسة تخصصية عندنا في الصين، وقسم مسائي لطلاب المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، فهؤلاء يدرسون يوميا ما بين المغرب والعشاء؛ لأنهم يذهبون إلى المدارس الحكومية نهارا، ويدرسون أيضا في الصباح بعد صلاة الفجر أيام العطل الأسبوعية، وهذا القسم يدرس فيه كيفية الطهارة والصلاة والصيام، وقراءة القرآن وحفظ السور القصار والأوراد والأذكار.
وكانت هذه المدارس الدينية منتشرة في المجتمع الإسلامي بالصين، فما من قرية أو حي من أحياء المسلمين إلا له مدرسة تابعة للمسجد. وكنتُ من الأبناء الذين يلازمون المدرسة الدينية المسائية منذ المرحلة الابتدائية. واكتشفت بعد فترة زمنية أنها من أهم المؤثرات في تحبيب الدين إلى الأولاد وإشعارهم بالألفة والأنس به.
-
وماذا عن مراحلكم الدراسية التالية؟
رافقتنا المدرسة المسجدية طوال مرحلة الدراسة الإلزامية مع دوام كامل في إجازة الشتاء والصيف. وكل ذلك قبل مواصلة الدراسة المتفرغة للعلوم الشرعية في المدرسة المسجدية التقليدية بقريتي، فتعلمت على يد عمي، وقرأت عليه ما تعارف الطلبة على قراءته من علم الصرف والنحو ومن الفقه والتفسير، ثم تتلمذت في مدرسة نور محمد التقليدية على شيخنا محمد رمضان العلامة المشهور في يونان (جنوب غرب الصين)، واستفدت منه كثيرا.
ثم رحلت إلى مقاطعة "قانسو" بشمال غرب الصين؛ لألتحق بإحدى المدارس الإسلامية الحديثة هناك. وبعد التخرج، رجعت إلى مقاطعة يونان، وقمت بالتدريس في إحدى المدارس الإسلامية بها لمدة سنتين.
أود الإشارة إلى أننا في المدرسة التقليدية: كنا نقرأ الكتب التراثية المتعارفة حريصين ومركزين على التحليلات اللفظية صرفا ونحوا، كعادة نظام التعليم الشرعي التقليدي العام في بلاد الصين.
بينما في المدرسة الحديثة التي درست فيها فهي تجمع بين الطريقة التقليدية والجديدة، كما تقرر علينا كتبا أخرى لم تعهد بها المدارس الإسلامية التقليدية في الصين، تعرفنا بأحوال المسلمين وأفكار علمائهم في الخارج، فتوسعت آفاقنا.
-
كيف بدأت رحلتك العلمية خارج الصين.. وما أبرز محطاتها؟
منذ أول ما سلكت طريق التعلم متفرغا، عزمت أن أسافر إلى الخارج لمواصلة الدراسة، لأن التعليم الشرعي في بلادنا قد عرض له ضعف لأسباب، كما أن العالم الإسلامي معدن الإسلام ومركز العلم والعلماء، فلا بد من السفر إليه استفادة من العلماء والمفكرين، وتعرفا على أحوال المسلمين فيه.
فبعد سنتين مضتا على تدريسي أتيح لي فرصة السفر إلى سوريا، فالتحقت بمعهد الفتح الإسلامي بدمشق (قسم العقيدة والفلسفة)، ومن حسن الحظ أن تعلمت في هذا القسم على يد أساتذة فضلاء على رأسهم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي.
وبعد تخرجي في معهد الفتح الإسلامي، التحقت بجامعة الأزهر الشريف، وتخرجت فيها، ثم أكملت مرحلة تمهيدي الماجستير فيها. وفي الأزهر الشريف تعلمنا من كوكبة من العلماء الأجلاء في تخصص العقيدة والفلسفة وغيره. ثم حصلت على الماجستير والدكتوراه من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة.
-
ما الدور الذي تقوم به حاليا في مجالات البحث والدراسة والتأليف؟
كما ذكرت آنفا حصلت على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وذلك في عام 2021، ونشرت لي بعض الأعمال العلمية، منها كتاب "الوجود والمعرفة في تصوف ابن عربي الفلسفي" وكتاب "الوجود والمعرفة من الفلسفة الكونفوشيوسية"، وبعض الأبحاث العلمية.
نتمنى أن يكون عملنا العلمي جسرا بين الحضارتين الإسلامية والصينية، فنعرف الصينيين بدين الإسلام وحضارته وعلمه وثقافته وفلسفته، ونعرف المسلمين العرب بثقافة الصين وحضارتها وحكمتها وبتاريخ الإسلام وأحوال المسلمين فيها.
-
لمسلمي الصين تاريخ عريق يمتد لأكثر من ألف عام؛ فما واقع تراثهم اليوم؟
تراث مسلمي الصين متعدد الجوانب، والتراث العلمي والأدبي لهم يمكن أن يقسم من حيث اللغة إلى ما كتب بالصينية، وبالعربية وبالفارسية وبالتركية، ومن حيث المصدر إلى مؤلفات علماء المسلمين الصينيين ومترجماتهم ومؤلفات علماء الإسلام من العرب والفرس. والأخير على الرغم من أنه ليس من علماء المسلمين الصينيين، فإنه أسهم في تكوين شخصيات إسلامية في الصين تكوينا عميقا، واعتنى بها اعتناء بليغا بالقراءة والنسخ والترجمة والاختصار والتلخيص والتعليق والشرح والتحشية، حتى صار جزءا لا يتجزأ في التكوين العلمي لدى علماء المسلمين في الصين، مثل كتاب الكافية لابن الحاجب (في النحو) وكتاب شرح العقائد النسفية لسعد الدين التفتازاني مثلا، واللوائح لعبد الرحمن الجامي (في التصوف).
-
هذا التراث العلمي والأدبي لمسلمي الصين.. أين يحفظ اليوم؟
لا توجد مكتبات عامة لحفظ هذا التراث القديم لمسلمي الصين؛ قد توجد بعض المكتبات الخاصة وهي تعنى بحفظ مخطوطات المصاحف، لكن أغلب كتب التراث والمخطوطات تتناثر عبر بيوت المسلمين، وخاصة في شمال غرب الصين ويونان (جنوب غرب) حيث يتجمع المسلمون فيهما أكثر، وينتشر بهما التعليم الشرعي أكثر. أما المقتنيات الفنية والأثرية فتحفظ في الغالب بالمتاحف.
وقبل فترة غير بعيدة، بدأ الباحثون من الجامعات والمعاهد الأكاديمية دراسة هذا التراث وجمع المخطوطات، وهو جهد مشكور، إلا أنه ينقصه التحقيق العلمي والفحص الدقيق على مقتضى العلم المعاصر ومن منظور إسلامي متكامل.
-
بأي لغة كتب تراث مسلمي الصين وهل له امتداد جغرافي خارجها؟
أكثر هذا التراث مكتوب باللغة الصينية، وبعضه بالعربية وقليل منه بالفارسية، ومنه الموروث عن الإخوة الإيغور (تركستان الشرقية/ إقليم شينغيانغ بشمال غرب الصين) ما كتب بلغتهم التركية.
ليس عندي معلومة تفصيلية حول تأثير تلك الكتب خارج الصين، ولكن لا بد أن يكون لها تأثير على المغتربين الصينيين؛ إذ من الطبيعي أن يستعينوا به في تعلم الدين وتعليمه في البداية، للمسلمين الذين هاجروا إلى آسيا الوسطى في القرن التاسع عشر، ومجتمع المغتربين الصينيين في القرن الماضي في ميانمار، حيث كان أئمتهم وشيوخهم من الصين، وهم الذين تخرجوا في نظام التعليم الشرعي التقليدي، وطيد الصلة بالتراث الإسلامي بالصين.
-
وماذا عن جهود إحياء هذا التراث في العصر الحاضر؟
نعم، هناك جهود لجمع هذا التراث وحفظه وإحيائه بدأت منذ 30 عاما تقريبا. ومعظم القائمين به باحثون أكاديميون وأساتذة جامعيون متخصصون في الثقافة الإسلامية الصينية، عبر رسائل علمية ومشاريع بحثية.
-
ما أبرز العقبات والتحديات التي تواجهكم في حفظ وإحياء التراث الإسلامي في الصين؟
من أبرز العقبات والتحديات التي تواجه الباحثين الأكاديميين عدم التمكن في اللغة العربية أو الفارسية، فضلا عن عدم دراسة العلوم الشرعية دراسة منهجية.
ومن جانب آخر، يقل اهتمام المشايخ والعلماء المسلمين في الصين الذين نشؤوا على تعلم اللغة العربية والفارسية والعلوم الشرعية بإحياء هذا التراث إحياء علميا بسبب غياب المنهج الصحيح في البحث والتحقيق.
-
هل من نجاحات تحققت في مجال جمع وإحياء وحفظ تراث مسلمي الصين؟
نعم، بالإضافة إلى جهود فردية عبر رسائل الماجستير والدكتوراه، فإن هناك مشروعات علمية ضخمة تم إنجازها، مثل "المجموعة الكبرى للتراث الإسلامي في الصين" في أكثر من 20 مجلدا، و"الموسوعة الكاملة للكتب التراثية عند قومية هوي"، في 235 جزءا، عنيت بمواضيع الدين والتاريخ والسياسة والفن والأدب والعلم وغيرها.
ومنذ فترة تمت ترجمة بعض الكتب الإسلامية الصينية المشهورة من اللغة الصينية التقليدية إلى المبسطة، ولكن نسبتها إلى مجموع التراث لا تزال ضئيلة، كما أن بعض الأعمال بحاجة إلى إخراجها من جديد.
فضلا عن أن التراث الإسلامي بالعربية قد بدأ يلفت أنظار الباحثين المسلمين الصينيين الذين يدرسون في جامعات العالم العربي والإسلامي، وقد تم تحقيق بعضها، من ذلك مثلا أننا حققنا في موضوع رسالة الماجستير كتاب "شرح اللطائف" الذي ألفه الشيخ صالح ليو تشي باللغة الصينية معتمدا على المصادر العربية والفارسية، ثم ترجمه الشيخ محمد نور الحق إلى العربية مع شرحه وتحشيته.
-
فيما يتعلق بالتراث الإسلامي في الصين.. هل لديكم أي تواصل أو تعاون مع المؤسسات المعنية بالتراث في العالمين العربي والإسلامي؟
أساتذة الجامعات في العالم العربي والإسلامي يشجعون تلامذتهم الصينيين على تحقيق تراث علمائهم الإسلامي في مرحلة الماجستير والدكتوراه، وبعض الباحثين نشروا أبحاثهم في كتب، وهذه صورة من التعاون.
وما عدا ذلك لا علم لي بتواصل أو تعاون بين الباحثين الصينيين والمؤسسات المعنية بالتراث في العالم العربي والإسلامي. ونحن بحاجة إلى مزيد من التعارف والتعاون المثمر مع المؤسسات العلمية والبحثية المعنية بإحياء التراث الإسلامي العام.
-
ما توصياتكم لإحياء تراث مسلمي الصين؟
نوصي أبناء الباحثين الصينيين من المسلمين أن يهتموا بجمع وإحياء تراث علمائهم في مختلف الفنون والعلوم، ويمكن اختيارها لموضوع الرسائل العلمية على الأقل. ونتمنى أن يوفقنا الله لإخراج مجموعات متكاملة من المؤلفات الإسلامية التراثية التي تمت كتابتها بالعربية.