أديب عراقي كفيف يعتزل الحياة منذ 33 عاما في "أبعد غُرف الدنيا"

الأديب الكفيف أثناء حديثه عن لوحته الزيتية التي رسمها عام 1900 ولم يكملها حتى اليوم copy
الأديب العراقي رَنجه باوه نوري مع لوحته الزيتية التي رسمها عام 1990 ولم يكملها حتى اليوم (الجزيرة)

السليمانية- منذ 33 عاما لم ير رنجه باوه نوري قطرات المطر الشتوية وجمال الربيع، لكن أنامله استطاعت أن ترسمهما في لوحات زيتية، متلمسًا العالم ومتخيلًا ما حوله في قصائده وقصصه التي جعلها شباكا ليحدق منها في "أبعد غرف الدنيا" إلى الحياة، مخاطبا إياها بأنه باق وإن امتد الظلام إلى حيث ما لا نهاية.

كانت حياة الأديب العراقي رَنجه باوه نوري هادئة مثل خيوط شمس الصباح في ابتسامات الأيتام، وخطوات الآباء المثقلة بهموم الحياة، ووجوه الأمهات المتعبات من الانتظار، كيف لا وهو الذي طرّز نفسه منذ نعومة الأظفار بكتابة الشعر والقصّة القصيرة والمسرح والرسم. لكنّ فجأة اقتحم الظلام حياته.

وقع هذا الاقتحام في عام 1990 عندما وضع باوه نوري خطواته الأولى في عقده الثلاثين من عمره بانفجار كبسولة -قنبلة صغيرة- من مُخلفات الحرب العراقية الإيرانية كان قد جمع بعضها في بيته أثناء محاولة التخلص منها، لتختار شظاياها عينيه من دون سائر أعضاء جسده لتُعطلها عن رؤية الحياة، وتجعله أسيرا للسواد والظلام حتى اليوم.

اكتسب الأديب رنجه لقبه من اسم بلدته باوه نوري في محافظة السليمانية بإقليم كردستان العراق، عمل في المسرح مؤلفا ومخرجا بداية من عام 1983، وغاص في عالم الأدب بكتابة الشعر والقصّة القصيرة والتحقيق الأدبي والترجمة، إلى أن صارت مكتبة بلدته تتباهى بأربعة من مؤلفاته والخامس قيد الطباعة.

*** داخليه فقط*** مؤلفات الأديب في الشعر والقصة والترجمة copy
مؤلفات الأديب رَنجه باوه نوري في الشعر والقصة والترجمة (الجزيرة)

أبعد غُرف الدنيا

بعد فقدانه البصر، بقي الأديب طريدا للانعزال والوحدة والظلام في غرفته التي فقد عند شباكها بصره، وتعمّقت آلامه أكثر عندما ترك لوحة زيتية بدأ برسمها عام 1990 لصورة ابنته عندما كانت في عامها الثاني آنذاك دون أن يكملها حتى اليوم، وما زالت تنتظر منذ ذلك الحين أنامله ليكحل عيون طفلته بأصباغ فرشاته، لكن يبدو أن الانتظار سيطول أكثر.

بعد فقدانه لبصره بنحو 3 أعوام، فك الأديب العراقي قيود انكساره رويدا رويدا بالعودة إلى كتابة الشعر والقصة والترجمة والرسم والنحت في غرفته التي أسماها "أبعد غُرف الدنيا"، منعزلا عن الناس والأضواء طيلة تلك السنوات.

الأديب العراقي الكفيف رَنجه باوه نوري
الأديب العراقي الكفيف رَنجه باوه نوري يمارس كتابة الشعر والقصة والترجمة والرسم والنحت (الجزيرة)

أثناء اللقاء به داخل غرفته، وبينما يُحاول الحفاظ على كبريائه برفع نظارته أكثر ليخفي قطرات من الدموع حاولت التسلل إلى خديه، يقول نوري في حديثه للجزيرة نت إنها "الغرفة التي متُّ فيها وولدت فيها من جديد، وفَتحت لي شبابيك الدنيا، لكنّها أغلقت كل الأبواب أمامي، وجعلتني بعيدا ومنعزلا عن كل شيء حتى عن الحياة نفسها، وبت أسيرا للعزلة، لذلك أطلقت عليها هذا الاسم".

ومع ما تحمله الغرفة من انكسارات وخيبات في ذاكرة الأديب العراقي، لكنّه يعود ويصفها بأنها منحته فسحة أوسع من الظلام الذي في عينيه ليبحث عن النور ويجدها في عالم الكتابة الذي يجسد فيه خفايا معاناته وآلامه.

ومن الصعوبات التي واجهت باوه نوري في عالم الكتابة بعد فقدانه البصر، أنّه كان يقوم بتسجيل قصائده وقصصه ونصوصه على شرائط الكاسيت ليسمعها لاحقا، ومن ثم يقوم بإجراء التعديلات عليها، وإرسالها إلى الصحف والمجلات لنشرها.

لم يكن من السهل على الأديب العراقي أن يمضي أكثر من 33 عاما من حياته داخل عالم مظلم يغطيه السواد لولا مساندة عائلته وأطفاله الثلاثة. ويقول عنهم "منحتني عائلتي قوة الاستمرارية في هذه الحياة، ولولاها لما كنت أمتلك إرادة مقاومة حياة كفيفة".

الأديب العراقي الكفيف رَنجه باوه نوري
الأديب العراقي الكفيف رَنجه باوه نوري يقول إن عائلته منحته إرادة المقاومة (الجزيرة)

من جانبه، يصف الكاتب والشاعر صالح هلاج مسيرة الأديب الكفيف رنجه باوه نوري بـ"المعجزة"، مضيفًا أن "امتلاكه مكتبةً في بيته تضمّ عشرات الكتب ولمختلف المجالات رغم أنه كفيف ما هو إلا بمثابة ربيع متجدد في حياته رغم خريف الظلام السائد في فصول سنوات عمره".

ويرى هلاج -في حديثه للجزيرة نت- أن استمرار باوه نوري في الكتابة وغوصه أكثر في الأدب أجبر مصاعب الحياة على الاستسلام أمام إرادته الصلبة وليس العكس كما يحدث مع الكثير من أمثاله، مؤكدًا أنه من أحد أعمدة الأدب وجاء بالكثير من التجدّد في الشعر والقصة القصيرة في كردستان، ونجج في أن يجعل لنفسه قلمًا مُغايرًا بين أقرانه في الوسط الأدبي.

الأديب الكفيف أثناء الكتابة copy
الأديب الكفيف غاص من غرفته المنعزلة في عالم الأدب بكتابة الشعر والقصّة القصيرة والتحقيق الأدبي والترجمة (الجزيرة)

أيقونة بلدة

أمّا الناشط والصحفي دانا لطيف، يرى أن الأديب الكفيف رنجه باوه نوري تحوّل إلى "أيقونة للأدب" في بلدته. ويضيف بشيءٍ من الانتقاد "لو كانت شخصية أدبية مثله في بلد آخر، لكان في موضع أكبر من التقدير الذي عليه الآن".

وفي حديثه للجزيرة نت، يُشير إلى أن إبداعات باوه نوري رفعت أكثر من القيمة الأدبية لبلدتهم مقارنة مع المناطق الأخرى في الإقليم. ويقول "موهبته هبة من الله ليعوّضه عمّا فقده".

المصدر : الجزيرة