"فيلق العمل المصري".. حكاية منسية من تاريخ الفلاحين زمن الحرب العالمية الأولى
من بين سطور التاريخ المنسية يلتقط كتاب جديد حادثة وقعت لآلاف الفلاحين المصريين إبان الحرب العالمية الأولى، ويقول الطبيب والمؤلف محمد أبو الغار إن بريطانيا أدركت مع بدء الحرب "أنها في حاجة إلى أيد عاملة مدنية تصاحب الجيش البريطاني وتقوم بأعمال كثيرة، ولجأت لتجنيد الفلاحين المصريين فيما سُمي (فيلق العمال المصري) وبدأ الأمر بالإغراء ثم انتهى باستخدام القوة والقهر، وانتقل هؤلاء الفلاحون مع الجيش البريطاني في أوروبا وخاصة فرنسا ودول أوروبية أخرى وأيضا في سيناء وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق".
ويضيف المؤلف في كتابه الصادر عن دار الشروق عام 2023 بعنوان "الفيلق المصري.. جريمة اختطاف نصف مليون مصري" أن هذه الأحداث لم تكن معروفة لأجيال من المصريين "ولم يكتب عنها الكثير إلا السنوات الأخيرة مع الذكرى المئوية لثورة 1919، ووضحت التفاصيل المرعبة في الوثائق البريطانية التي أظهرت أن أكثر من نصف مليون فلاح مصري قد انضموا للفيلق، بينما كان تعداد مصر 12 مليونا فقط".
ومع ذلك، فالكتاب ليس الأول من نوعه، فقد سبقه قبل فترة وجيزة كتاب "فيلق العمل المصري.. العرق والفضاء والمكان في الحرب العالمية الأولى" (مطبعة جامعة تكساس، عام 2021) للمؤلف الأميركي كايل أندرسون المختص بالتاريخ الاستعماري في مصر، وناقش فيه بتفصيل أكبر كيف جندت الإمبراطورية البريطانية نصف مليون شاب، معظمهم من ريف مصر، في فيلق العمل المصري (ELC) وجعلتهم يعملون في التعامل مع الخدمات اللوجستية العسكرية في أوروبا والشرق الأوسط.
ويخلص كتاب أندرسون إلى أن السلطات البريطانية تراجعت عن وعدها بعدم جر المصريين إلى الحرب، ويعتبر أن الكثيرين في مصر كانوا ينظرون إلى الفيلق على أنه شكل من أشكال العبودية، ويرى المؤرخ القصة المنسية لهؤلاء الشباب ويتوقف مطولا عند الدور الأساسي الذي لعبوه في ثورة 1919 المصرية.
ومن خلال الجمع بين مصادر من الأرشيفات في 4 دول، يستكشف كتاب الأكاديمي بقسم التاريخ بجامعة ولاية نيويورك دور بريطانيا في مصر خلال هذه الفترة، بالإضافة إلى التجارب والمصاعب التي تحملها هؤلاء الرجال المجندون بالفيلق، ويستعرض موضوعات مختلفة من بينها الموسيقى والمسرح والأدوية والدين والإضرابات والتمرد والعنصرية، ويقدم إعادة تفسير رائعة لثورة 1919 من خلال عدسة نظرية العرق النقدية.
رحلة الفيلق
في كتاب أبو الغار، وبعد عرض مختصر للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر نهاية القرن الـ 19 وبداية القرن العشرين يسرد المؤلف كيفية تكوين الفيلق وجمع أفراده من الريف والصعيد مستندا إلى مذكرات مجموعة من الساسة المصريين أمثال سعد زغلول وأحمد شفيق باشا وعبد الرحمن فهمي، كما يستعين بكتابات المؤرخ عبد الرحمن الرافعي وحوار وحيد نشرته مجلة روزاليوسف مع أحد العمال العائدين من رحلة الفيلق.
ويواصل المؤلف تتبع يوميات الفيلق من خلال مراسلات ملازم في الجيش البريطاني يدعى فينابلز كان مسؤولا عن قيادة آلاف الفلاحين المصريين، وكتب سلسلة خطابات إلى أحد أصدقائه دون فيها ملاحظات عامة ووقائع خاصة مع بعض العاملين بالفيلق، وهي الخطابات التي تستقر حاليا في المتحف الحربي البريطاني.
ومما جاء في أحد هذه الخطابات "تعرض 600 فلاح من المصريين القادمين للتو من مصر لعاصفة شديدة وهو شيء لم يروه من قبل في حياتهم في مصر. وكلهم أصابهم البلل الشديد وقالوا إنهم يريدون أن يلقوا بأنفسهم بجانب الطريق وينتظروا الموت، لكن الضابط أجبرهم على المشي قدما في الطين بدون أكل واستخدم بعض العنف لدفعهم إلى الأمام، وقال الفلاحون إنهم يموتون وكانوا يتساقطون على الأرض".
وعمل الكتاب، من خلال التحليل والاستنباط، على ربط حادثة الفيلق ومصائر العائدين منه وبين أحداث كبرى شهدتها مصر السنوات التالية، وفي مقدمتها ثورة 1919، إذ يرى أن الفقر الذي استشرى في البلاد بفعل نقص المحاصيل الزراعية بعد إبعاد الفلاحين عن أراضيهم، والقهر الذي تعرضوا له أثناء الخدمة بالفيلق، شكلا الإرهاصات الأولى للثورة في الريف قبل تأججها في المدن.
كما يرصد تغيرات اجتماعية طرأت نتيجة سفر هؤلاء المصريين خارج البلاد لفترات طويلة، واحتكاكهم بجنسيات أخرى واصطدامهم بالحضارة الغربية منها التفكك الأسري وظهور أشكال جديدة من الجرائم لم يشهدها المصريون قبل الحرب.
نصب تذكاري مجهول
بقدر ما يحمل الكتاب من جهد بحثي بين ثنايا الكتب والوثائق، كان البحث الميداني حاضرا إذ حرص المؤلف على استقصاء كيفية التعامل مع رفات من قضوا في الحرب من الفلاحين المصريين ليكشف عن مفاجأة جديدة، وهي وجود نصب تذكاري لضحايا الفيلق في مصر لا يعلم قصته سوى أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد.
يقول أبو الغار "أنا مصري مقيم طوال عمري في الجيزة، لم أسمع قط عن هذا النصب التذكاري، وسألت في مصلحة الآثار المصرية فلم أجد إجابة. وحيث إن المتوفين فلاحون وليسوا جنودا محاربين، فالأمر لا يتبع وزارة الدفاع. واستعنت بخرائط غوغل فوجدت النصب التذكاري موجودا في نقطة معينة في الجيزة، وذهبت بالسيارة إلى هذه النقطة فلم أجد شيئا، وإنما وجدت معهدين لعلاج العيون وأبحاثها، وحولهما سور كبير".
ويوضح المؤلف أن النصب التذكاري عبارة عن مختبر علمي ومتحف لعينات أمراض العيون مقام في حديقة المعهد التذكاري لعلاج العيون بالجيزة، لكنه لا يحمل أي أسماء أو أعداد للضحايا، فقط عبارة بالإنجليزية تقول "المختبر التذكاري 1914-1918".
ويردف قائلا "بمرور الزمن توارت الحكاية الأصلية واستمر اسم المستشفى (التذكاري) دون أن يفكر أحد لماذا سُمي بهذا الاسم. وجدت صورا للوحات البرونزية التي تسجل تاريخ ذكرى وفاة الفلاحين وراكبي الجمال، وصور المبنى القديم للمستشفى والمبنى بعد تجديده، لكن المبنى التذكاري بقي كما هو صامدا للزمن، لم يحدث فيه أي تعديل. وأخيرا ظهر للناس أين هو المبنى التذكاري".