تطلب إنجازه 11 عاما من البحث المتواصل.. صدور أول معجم برتغالي عربي حديث

من اليمين ناشر المعجم فرناندو ماو دي فيرو والمترجم عبد الجليل العربي والباحث ديليو بروسبرو (الجزيرة)

باريس- بعد 11 عاما من البحث والتنقيب ومحاصرة الكلمات والتأليف والمراجعة، وفي فتح حضاري وثقافي جديد وفريد في شبه الجزيرة الأيبيرية، صدر في العاصمة البرتغالية منذ أيام عن دار النشر العريقة "كوليبري" (Colibri) أول معجم برتغالي عربي حديث.

ومن شأن صدور هذا المعجم أن يزيد التواصل بين العرب والبرتغال البلد الذي تجمعه بالحضارة العربية الإسلامية صلات رحم وثيقة وعريقة تعود إلى قرون خلت.

ويعود الفضل الكبير في هذا الحدث الثقافي المهم، وهذا المعجم الفريد من نوعه، إلى الدكتور عبد الجليل العربي المترجم التونسي وأستاذ الأدب والحضارة العربية الإسلامية بجامعة لشبونة، وكذلك شريكه في الشغف الباحث البرتغالي ديليو بروسبرو أستاذ الدراسات العربية الإسلامية في الجامعة البرتغالية.

حيث انطلقا قبل 11 عاما بهذه المغامرة المعرفية والرحلة العلمية، يجمعهما الشغف ويوحدهما حبهما للغتين والثقافتين العربية والبرتغالية، وقد توجا جهدهما أخيرا بهذا الإنجاز المعجمي اللغوي المتميز.

ويضم المعجم الجديد، وفق ما ذكرت دار النشر، أكثر من 16 ألف مدخل معجمي، وأكثر من 6800 مفردة مرادفة وتوضيحها بما يزيد عن 16 ألفا و100 مثال للمساعدة.

وأضافت دار النشر العريقة المختصة في نشر الكتب الجامعية والبحثية العميقة -في كلمتها التمهيدية- أن توفر قاموس من هذا النوع بالبرتغالية والعربية سيكون له فائدة لطلاب العربية في البرتغال، وأيضا لطلاب البرتغالية في العالم العربي، بالإضافة إلى المهاجرين الذين يقيمون في البرتغال والذين سيتوجهون لهذا البلد مستقبلا، فضلا عن دوره المهم في تمتين العلاقات بين الشعوب.

جانب من حفل توقيع المعجم بالعاصمة لشبونة في فضاء كاسا دي ألينتيخو المصمم على الطراز الأندلسي (الجزيرة)

حاجة معجمية ملحة

من جانبه أشار الباحث والمترجم عبد الجليل العربي إلى أن فكرة إنجاز هذا المعجم جاءت أساسا من الحاجة الملحّة إلى معجم بين العربية والبرتغالية بعد الانتباه إلى عدم توفره في المكتبات البرتغالية، رغم أنه تمّ نشر أكثر من قاموس في البرازيل بحكم وجود جالية عربية نافذة هناك.

وأضاف قائلا في حديثه للجزيرة نت "لقد حرّضنا الاستفسار الدائم، من طرف طلاب العربية لغير الناطقين بها في الجامعات البرتغالية، وطلاب البرتغالية من الناطقين بالعربية فضلا عن المترجمين والمهاجرين والصحفيين عن قاموس من هذا النوع، على الإقدام على هذا الإنجاز والعمل على سدّ هذا النقص".

الباحث والمترجم عبد الجليل العربي (الجزيرة)

وخلص العربي إلى أنه يجهل الأسباب العميقة وراء ضعف -إن لم نقل انعدام- التبادل الثقافي بين البرتغال والبلدان العربية مقارنة بالجارة إسبانيا، حيث إن تقاليد تأليف القواميس بين اللغتين كبيرة ونشرها رائج سواء في إسبانيا أو البلدان العربية.

ويعد هذا القاموس منجزا فريدا وأصيلا تماما، وهو الأول من نوعه في اللغة البرتغالية الأوروبية. والأكيد أنه سيساهم بقدر كبير في تنشيط الحياة الأكاديمية والجامعية، ودفع الحوار اللغوي والثقافي والحضاري بين الثقافتين العربية والبرتغالية.

وفي هذا السياق، يؤكد ديليو بروسبرو الباحث البرتغالي وأستاذ الدراسات العربية الإسلامية بالجامعة البرتغالية أنه يشعر أنه ساهم مع زميله "العربي" من خلال هذا المعجم، ولو بقسط بسيط، في إرساء اللبنات الأولى في مجال التأليف المعجمي بين البرتغالية والعربية.

وقال في حديث للجزيرة نت "لقد بدأنا بمعجم أساسي ونأمل في المستقبل -فضلا عن إصدار الجزء الثاني من هذا القاموس- أن نطور الفكرة ونصدر قواميس أكاديمية وتقنية وعلمية توفر لجميع المهتمين حاجاتهم اللغوية في إطار تخصصهم. وبعد مرور حوالي عقد من الزمن قضيناها بهذه المهمة نشعر أن النتيجة كانت في مستوى تطلعاتنا، وقد مثّل إقبال العديد من الفئات على شراء القاموس دليلا على هذا الاهتمام".

الأكاديمي والباحث البرتغالي ديليو بروسبرو (الجزيرة)

وخلص الباحثان إلى أن هذا العمل -باعتباره القاموس الأول العصري الصادر في البرتغال بين البرتغالية الأوروبية والعربية- هو في حد ذاته يعد أهمّ إضافة، إذ سيساهم إلى حد ما في توفير الاحتياجات اللغوية التواصلية البسيطة بين المهتمين من اللغتين.

أما من الجانب المعرفي والأكاديمي فهو -حسب نظرتهما- يمثل إضافة إلى حقل علوم المعاجم، ويسعى إلى أن يساهم في التقريب بين اللغتين والحضارتين وسدّ ثغرة ضرورية، إذ لا يوجد حتى اللحظة في البرتغال قاموس بين اللغتين، وإن كان عدد القواميس بين العربية والإسبانية مثلا كبيرا.

 فتح حضاري جديد

ويعتبر هذا الإنجاز العلمي فتحا معرفيا وحضاريا جديدا في شبه الجزيرة الإيبيرية، خاصة وأنه معجم يجمع العربية بلغة ما زالت خاما وغير مكتشفة ولا نعرف عنها الكثير حتى في جامعاتنا العربية ودوائرنا الثقافية، رغم الروابط التاريخية الكبيرة بحكم الوجود العربي الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية والقرون الثمانية التي أشرقت فيها لغة الضاد وحضارة الإسلام على تلك البقاع.

ولأن الوجود العربي الإسلامي كان مرتكزا أكثر في الجانب الإسباني من شبه الجزيرة الإيبيرية، فإن تأثير العربية أكبر في الإسبانية منها في البرتغالية، حيث تشير آخر الدراسات اللسانية اللغوية، حسب الباحثين الذين تحدثت معهم الجزيرة نت، إلى أن الكلمات الإسبانية ذات الأصل العربي تتراوح بين 4-5 آلاف، بينما الكلمات البرتغالية ذات الأصل العربي تقارب ألفا فقط. وهو ما يوجب التساؤل عن هذا التأخر والتقصير في الالتفات إلى الثقافة البرتغالية والتركيز دائما على الإسبانية؟

وأوضح الدكتور عبد الهادي سعدون الأكاديمي والباحث وأستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة مدريد المركزية "كومبلتنسه" -في إجابته عن هذا السؤال- أن التعامل مع البرتغال دائما ما يشوبه نوع من الإهمال وعدم الاهتمام "بسبب تركيزنا الأكبر على إسبانيا كموقع رئيسي بالعلاقات العربية قديمها وحديثها".

وأضاف أنه دائما ما يتم ضم البرتغال في رزمة واحدة عند الحديث عن إسبانيا، وكأن شبه الجزيرة الإيبيرية ليست سوى إسبانيا. واعتبر أنه من العدل والإنصاف وضع البرتغال بأهمية إسبانيا من الناحية التاريخية والعلاقات واللغة والثقافة مع العرب والإسلام، تاريخيا ومع الحضارة العربية المعاصرة.

الدكتور عبد الهادي سعدون الأكاديمي وأستاذ اللغة والأدب العربي بجامعة مدريد المركزية (كومبلتنسه) (الجزيرة)

وأضاف في حديث للجزيرة نت "أعتقد -من خلال اطلاعي على نماذج سابقة من القواميس الأكاديمية المحكمة للإسبانية والبرتغالية- أننا بحاجة بين حين وآخر لمعاجم معاصرة بسبب التطور والتغييرات الحاصلة في الفهم والتنوع والغايات المطلوبة".

وقال إن أغلب المعاجم السابقة مر عليها زمن طويل مثل قاموس العربية والبرتغالية لألفونس نجيب أو قاموس العربية الإسبانية لكورينتي. وأضاف "إذا كان قاموس (كورتيس) المعاصر قد أصبح بمثابة تجديد ومغايرة وإضافة على معجم كورينتي المعروف، فنحن بحاجة لقواميس للبرتغالية أيضاً تواكب العصر ومطالبه المتجددة، كما عليه هذا الإصدار الجديد".

وخلص عبد الهادي إلى أن "البرتغال لغة وشعبا وثقافة يحتاج منا المزيد من التعريف والكتابة والمتابعة على كل المستويات، على الأقل بقدر مساو للجهد نفسه الذي نبذله مع الإسبانية لغة وثقافة".

ويرى أن "أي جهد تعريفي بهذا المجال يعد مكسباً كبيراً للمهتمين والباحثين والمطلعين على حد سواء". وأضاف "نعلم أن أغلب الجهود تكون فردية مما يعني تأخرها الكبير في الوصول والتعريف، لكنها مع ذلك تشكل حلقة محكمة وصادقة بسبب أن هذه الجهود الفردية تكون واقعية وحيادية ولا تتدخل بها أهواء ورغبات المؤسسات الجماعية".

الفضاء الثقافي الشهير كاسا دي ألينتيخو المصمم على الطراز الأندلسي احتضن حفل توقيع المعجم برمزية كبيرة (الجزيرة)

جسر بين ثقافتين

وأما محمد بومعراف المترجم والباحث الجزائري المختص بالثقافة الإسبانية وأدب أميركا اللاتينية فقد أوضح أن هذا المعجم إضافة مهمة جدا وجسر مباشر بين ثقافتين ولغتين بينهما تاريخ طويل من التجاور والتعايش والصراع الديني والحضاري، لكن الكفة بالطبع في التأثير تميل للعربية التي تركت أثرا كبيرا في الإسبانية أولا والبرتغالية بدرجة ثانية.

وأضاف قائلا للجزيرة نت "المعجم الذي أنجزه الأستاذان العربي وبروسبرو سيكون مشابها لمعجم فيديريكو كورينتي في القيمة والإضافة العلمية، وسيكون مرافقا ومساعدا جيدا للطلاب البرتغاليين المهتمين بالعربية وحتى للعرب والمسلمين من المقيمين بالبرتغال، كما أنه سيساعد في تشجيع الترجمة بين اللغتين، وقد قرأت عدة مقالات برتغالية تمدح المعجم الجديد وتثني على جهود مؤلفيه".

وخلص بومعراف إلى أن تأخر ظهور المعجم مرده ربما اكتفاء الباحثين البرتغاليين بالجهود الإسبانية في هذا المجال، كما أن مراكز الإشعاع التاريخي للحضارة العربية الإسلامية كان موجودا بشكل أكبر في إسبانيا مثل قرطبة وغرناطة، يضاف إلى ذلك انحسار الدور التاريخي للبرتغال وانغلاقه على ذاته وانتقال مركز الثقافة واللغة البرتغالية إلى البرازيل.

المصدر : الجزيرة