القنبلة النووية وأخلاق المسؤولية.. هكذا استجاب أدباء ورجال دين بوذيون وكاثوليك لقصف هيروشيما وناغازاكي
أكثر من 7 عقود مرّت منذ إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين (6 و9 أغسطس/آب 1945، بالترتيب). قتلت القنبلتان الأميركيتان ما يصل إلى 220 ألف إنسان، بينما نجا كثيرون لكنهم عانوا من آثارهما المدمرة، ومات كثيرون لاحقا بسبب أمراض ذات صلة بالقصف الذري.
وشكل العديد من الأعمال الأدبية التي تفاعلت مع القصف النووي -وبينها الشهادات والمذكرات والشعر والمسرحيات والنثر- ما أصبح يطلق عليه "أدب القنبلة النووية" الذي راج في حقبة الستينيات من القرن الماضي، وشمل ناجين من التفجيرات دونوا تجاربهم الخاصة، وكتابا متشائمين بمستقبل البشرية التي تمتلك ذلك السلاح المدمر، وآخرين ممن تناولوا تبعات القصف الذرّي الاجتماعية والنفسية والسياسية وحتى الفلسفية والدينية.
اقرأ أيضا
list of 4 items“الإمبريالية الليبرالية” وميراث العنف.. الظلال التاريخية القاتمة للإمبراطورية البريطانية
وفاة غورباتشوف وانهيار التفاؤل بـ"سلام الأقواس الذهبية".. تاريخ مقلوب لنهاية الحرب الباردة وانتصار الرأسمالية
رواية "الحرب تشرب الشاي في المقهى".. سرديات متضاربة ومصير مشترك
وإذ يعدّ الأدب هو الملجأ الذي نلجأ إليه عندما نضطر إلى مواجهة التناقضات التي تتجاوز العقل، كما تقول الأديبة والروائية اليابانية يوكو أوغاوا، طبعت الاستجابات الفلسفية والدينية للدمار النووي جزءا من ملامح عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال تساهم في تحولات فكرية معاصرة زادت وتيرتها مع عودة الحديث عن الخطر النووي مؤخرا على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا.
أدب القنبلة النووية
وتقدم الأعمال الأدبية تفسيرات مهمة لعالم ما بعد القصف النووي، ومن أبرز رواد أدب القنبلة الذرية تاميكي هارا (1905-1951) الذي ولد في هيروشيما وأصبح أحد الناجين من القصف النووي. ولمعرفته المسبقة بالأدب الروسي والشعر الإنجليزي الذي درسه في جامعة كيئو اليابانية، جمعت كتابته بين طبيعة نثر الضحايا وأدب عالمي محترف.
مرضت زوجة هارا عام 1939، وتوفيت عام 1944، وقد قال عنها ذات مرة "إذا فقدت زوجتي، فسأعيش عاما واحدا فقط لأترك وراء ظهري مجموعة من القصائد الحزينة والجميلة"، وبعد مرور عام، قبيل الذكرى السنوية الأولى لوفاتها، تعرّضت هيروشيما للقصف النووي بينما كان في منزل والديه، لتصبح هاتان التجربتان الصادمتان محوريتين في أعماله الأدبية.
كتب هارا أشهر أعماله "زهور الصيف" بحلول أغسطس/آب 1946، لكن لم يتم نشره حتى يونيو/حزيران 1947. ونُشر قسمان آخران من العمل لاحقا بعنواني "من أطلال" عام 1947، و"مقدمة للإبادة" عام 1949، واصفا تجربته المرعبة.
وفيما يبدو نوعا من عجز اللغة عن وصف الكارثة، بدا أسلوبه الأدبي كما لو أن الاستياء الذي لا يطاق ضد هذه العبثية يربطنا ببعضنا بعضا ولم نعد بحاجة إلى كلمات تقال، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.
ويعبر هارا بشكل نموذجي عن أدب القنبلة النووية، فالعدمية والعبثية وفقدان الهدف واضحان تماما بينما يقدم للقارئ مشاهد مروعة. وإذ يظهر نوعا من التسليم الهادئ بما جرى، لكن حقيقة الأمر أن الشعور بالذهول والانفصال واللامبالاة، تقدم تعبيرات عميقة عن اليأس أو تعبر عن شكل من أشكال التخدير النفسي الشديد والطويل الذي يستجيب فيه الناجي لواقعه.
ووسط الضجيج المحموم لحقبة ما بعد الحرب، يتحدث للقارئ بصوت خافت كما لو كان يهمس مباشرة، من روح إلى روح، ويقول "لم أكتشف أي حقيقة أعمق في الحرب".
ويمكن قراءة عمل هارا الأخير (أرض رغبة القلب 1951) على أنه رسالة انتحاره، فقد انتحر في طوكيو في 13 مارس/آذار 1951، بالاستلقاء على مسار قطار، وقد تفاقمت حالته العقلية الهشة مع اندلاع الحرب الكورية التي بدا أنها تؤكد تشاؤمه المستمر بمستقبل مظلم للتاريخ.
نقاش ديني وفلسفي
وضمن ذلك الجدل، أسهمت شهادات وذكريات الهيباكوشا -وهي كلمة يابانية تطلق على الذين تأثروا بالقصف الذري على هيروشيما وناغازاكي عام 1945- بحصة كبيرة من النقاش في الأدب والجدل النووي، وتقول يوكي مياموتو أستاذة الدراسات الدينية بجامعة ديبول الأميركية، أنها تشعر بالإحباط بالنظر لأن وجهات نظر الهيباكوشا الفلسفية والدينية والروحية حول هذه المسألة يتم تجاهلها إلى حد كبير في أدب اللغة الإنجليزية، وتضيف "يبدو أن الثقافة الشعبية تقدر قصصهم المأساوية، لكنها لا تقدر نضالهم للتصالح مع الحدث".
وفي مقالها بموقع "ذا كونفيرزيشن" (The Conversation)، ترى مياموتو -بصفتها خبيرة في دراسات الأخلاق وتعمل على تحليل الخطابات النووية في الولايات المتحدة واليابان- أن إدراك القادة الدينيين من الهيباكوشا متجذر في تجاربهم في العيش بهيروشيما وناغازاكي ما بعد القصف النووي، مما يقدم انطباعا حول "عالمنا العنيف"، وفي بعض الأحيان، تم استخدام تفسيراتهم للقصف النووي للترويج لأجندات سياسية. ومع ذلك، فإن تفسيراتهم تسمح للناس اليوم بإعادة النظر في أخلاقيات المسؤولية في العصر الذري.
عقوبة من أعلى
اشتهرت هيروشيما -حيث تم إسقاط أولى القنبلتين في اليابان- تاريخيا بمدرسة "الأرض النقية الحقيقية البوذية" (Shin Buddhism)، وهي أكبر مؤسسة بوذية في اليابان، ويطلق على أتباعها في هيروشيما اسم "آكي مونتو".
كان أحدهم كوجي شيغينوبو، الذي نشأ ليصبح كاهنا بوذيا في المدرسة، وتم إجلاؤه هو وتلاميذ المدارس الآخرون من المدينة خلال الحرب لكنهم فقدوا أفراد عائلاتهم في الجحيم النووي. في النهاية، طور وجهة نظره حول القصف التي مثلت الحالة الذهنية للعديد من سكان هيروشيما، كما تصفها الكاتبة في كتابها "ما وراء سحابة الفطر.. الذكرى والدين والمسؤولية بعد هيروشيما".
يرى كوجي شيغينوبو أن القنبلة الذرية تمثل 3 دوائر من الخطايا: خطايا سكان هيروشيما، وخطايا المواطنين اليابانيين، وخطيئة الإنسانية كلها. ومع ذلك، انتقد كوجي مواطني هيروشيما بأنهم أنانيون، وكتب أنهم تخلوا عن الجرحى بعد التفجير، ودان اليابان لعدوانها العسكري، وأعرب عن أسفه لأن البشر أصبحوا دعاة حرب. هذه الطبيعة البشرية -وفقا لكوجي- دعت إلى القصف الذري.
وقد يقدم "تفكيره الذاتي النقدي" ومحاولاته لتجاوز الفهم الأبيض والأسود للخير والشر -مثل اليابانيين مقابل الأميركيين أو الضحايا مقابل الجناة- منظورا ثاقبا حول كيفية الهروب من دورات العنف، بحسب الكاتبة.
لكن، من ناحية أخرى، فإن فهم شيغينوبو للعقيدة البوذية التي فسرت حادثة تاريخية معينة على أنها خطيئة عالمية للبشرية، ربما صرف الانتباه عن مسؤولية الحكومتين اليابانية والأميركية.
ويستكشف كتاب مياموتو الأخلاق والحساسيات الدينية لمجموعة من الهيباكوشا (الناجين) من التفجيرات الذرية عام 1945، ويرى أن أخلاقهم -لسوء الحظ- المتمثلة في "عدم الانتقام ولكن المصالحة"، لم يتم الاعتراف بها على نطاق واسع، وربما حجبتها سحابة الفطر، رمز الأسلحة الأميركية والنصر والإنجاز العلمي.
ويعتبر الكتاب أن تصميم الناجين على عدم السماح لأي شخص بمزيد من المعاناة من الأسلحة النووية، إلى جانب التفكير الذاتي الناقد، لا يشجع على تحمل المسؤولية عن قصف القنابل النووية؛ بدلا من ذلك، غالبا ما يعتبر الهيباكوشا أنفسهم "خاطئين".
حملان القرابين
ناغازاكي -على بعد حوالي 320 كيلومترا غرب هيروشيما- لديها تاريخ طويل من الكاثوليكية. ففي القرن السادس عشر، وفي أجزاء كثيرة من الأرخبيل الياباني، اعتنق النبلاء المحليون المسيحية، مما أدى إلى تحولات جماعية في مناطقهم. لكن السنوات الـ250 التالية شهدت طرد قساوسة أجانب واضطهاد من غيروا دينهم.
وحتى بعد حظر المسيحية، باعتبارها عبادة "إله أجنبي"، رأى القادة السياسيون أن الكاثوليك يشكلون خطرا كبيرا على استقرار البلاد. ومن ثم، فإن المجتمع الكاثوليكي في ناغازاكي، الذي كان يمارس دينه سرا، أُجبر على العيش بجوار جماعة "بوراكومين"، وهي مجموعة اجتماعية كانت تعتبر تقليديا "منبوذة".
يساعد هذا التاريخ في تفسير التحليل الخاص الذي قدمه أحد المتحولين إلى الكاثوليكية، وهو طبيب وأستاذ في ناغازاكي يدعى ناغاي تاكاشي، قال "كم كانت نبيلة، كم كانت رائعة تلك المحرقة التي وقعت في 9 أغسطس/آب، عندما اندلعت ألسنة اللهب من الكاتدرائية، لتبدد عتمة الحرب وتجلب نور السلام!".
وبعد 3 أشهر من التفجير، أقيم قداس للقتلى في موقع كاتدرائية أوراكامي، أقرب معلم إلى مركز الانفجار، وطُلب من ناغاي إلقاء خطاب، عبّر فيه عن تألمه من أناس أخبروه أنه فقد عائلته ومجتمعه بسبب "إيمانه بإله أجنبي"، وعدم احترامه للآلهة اليابانية والإمبراطور.
ورد ناغاي في الخطاب أن القتلى بالقنابل هم "حملان قرابين اختارها الله بسبب طبيعتها التي لا تشوبها شائبة"، وأشار إلى أن الحرب انتهت بفضل تضحياتهم، بينما كان على الناجين مثله أن يتحملوا الهزيمة والدمار. صور ناغاي المصاعب على أنها "امتحان دخول إلى الجنة للمِّ الشمل مع أحبائهم".
ربما يكون مفهوما أن الكاثوليك في ناغازاكي -الذين حفل تاريخهم بالاضطهاد و"الاستشهاد"- تبنوا رسالة ناغاي لمساعدتهم على التصالح مع فقدان أحبائهم، وهو ليس بعيدا تماما عن المقاربة الكاثوليكية لفكرة "الثيوديسيا" أي السؤال عن سبب سماح الله بالمعاناة البشرية .
ومع ذلك، تقول الكاتبة، يمكن لتفسير ناغاي (وكذلك تفسير كوجي) أن يكون سببا في إلقاء اللوم على الضحية، ويتجاهل تحميل المسؤولية للجناة الفعليين، فإذا كان مبدأهم المتمثل في التفكير النقدي الذاتي قد تم تبنيه -ليس من قبل الضحايا، ولكن أيضا من قبل أولئك الذين تسببوا بالفاجعة- فربما كان بإمكان العالم تجنب خلق المزيد من الضحايا بسبب إنتاج واختبار الأسلحة النووية.