سكنت فيه أجاثا كريستي وزاره جبرا إبراهيم جبرا.. منزل "ملكة أدب الجريمة" في بغداد معروض للبيع

بيت أجاثا كريستي في بغداد المصدر: الجزيرة نت
منزل الكاتبة أجاثا كریستي بشرفة مطلة على نهر دجلة في "كرادة مريم" بالعاصمة بغداد (الجزيرة)

بغداد- بعد طلاقها من زوجها الأول، سافرت الكاتبة الروائية البريطانية أجاثا كريستي (1890-1976) إلى الشرق حيث التقت زوجها الثاني عالم الآثار ماكس مالوان عام 1930 وعاشت معه في سوريا والعراق، ووفر لها هذا التجول فرصة كتابة أجمل رواياتها الساحرة المليئة بالأسرار والغموض واللغة السيالة والخيال الجامح والشخصيات المثيرة.

وتنقلت "ملكة أدب الجريمة" مع زوجها بين مدن العراق، وانضمت رسميًّا إلى بعثة التنقيب البريطانية في نينوى (شمالي العراق) ثم إلى بعثة الأربجية بالموصل عام 1932 التي كانت برئاسة زوجها، وكافحت للكتابة في مواقع الآثار النائية، لكن بيتها في بغداد البعيد عن ضجيج الحفر وحياة التنقيب عن الآثار ظل المكان الأفضل لكتابة رواياتها المدهشة.

وتقول الناشطة في منظمة "برج بابل" لحماية التراث ذكرى سرسم إنه "بعد عقود من رحيل الكاتبة البريطانية أجاثا كريستي لا يزال منزلها في العاصمة العراقية بغداد حيًّا، ومطلا على ضفاف نهر دجلة، حيث بقي يصارع الإهمال والزمن بين بيوت كثيرة أزيلت بفعل بناء جسر السنك وفندق المنصور ميليا".

وتنظر سرسم إلى المنزل الضخم حزينة وقلقة من فكرة فقدانه، ذلك أنه معروض للبيع من قبل مالكيه، لكن أمانة بغداد تفرض -ضمن قوانينها- شروطا مهمة للحفاظ على بقائه بوصفه جزءا من هوية العاصمة وتراثها.

المنزل البغدادي

بشرفة مطلة على نهر دجلة في "كرادة مريم" (إحدى أقدم مناطق العاصمة بغداد) كانت تجلس مؤلفة الأعمال -الأكثر مبيعا على الإطلاق حسب موسوعة غينيس للأرقام القياسية- لتدون مذكراتها، من قلب منزل سكنته مع زوجها عالم الآثار البريطاني ماكس مالوان لفترة ليست قليلة، حيث كان محطة الاستراحة لهما بعد رحلات التنقيب الأثرية في شمال وجنوب العراق.

وبعد أكثر من 75 عاما على عيشها فيه يصبح هذا المنزل اليوم معروضا للبيع، وهو بمثابة قطعة أثرية مهددة بالاندثار، وتكتب على جدرانه عبارات تحذيرية للمارة؛ إذ لم يتلق أي ترميم أو صيانة على مدار هذه العقود كلها، كما سكنته بعض العائلات على فترات متعاقبة بالإيجار، قبل أن يقرر أصحابه إغلاقه وعرضه للبيع.

بيت تراثي

وتقول الناشطة سرسم إن هذا البيت "يُعد من الأملاك الخاصة، لكنه مسجل في دائرة التراث، وبحسب القانون لا يمكن هدمه، كما أن القانون يفرض على وزارة الثقافة توفير تسهيلات وصرف مبالغ لترميم هذه الدور، لكن الوزارة لا تلتزم لعدم توفر ميزانيات"، كما تبين للجزيرة نت.

منزل الكاتبة أجاثا كریستي.
بيت أجاثا كريستي في بغداد مسجل في دائرة التراث العراقية (الجزيرة)

وتوضح سرسم -التي تسكن بجوار المنزل- أنه قد تم بيعه قبل فترة بسيطة بالفعل، لكن المشتري أعاده لمالكيه بعد أن علم بالقوانين الخاصة الخاضع لها لقيمته الأثرية وقربه من النهر.

ورغم أن القانون يحاول حماية هذه المنازل الأثرية، فإن ذكرى سرسم تتخوف "من أن بعض الأفراد يتحايلون على الشروط بطرق ملتوية عدة، كأن يقوموا بضخ المياه داخل هذه البيوت المتهالكة، أو هدم جزء خلفي صغير، لضمان هدمها من دون جهود ذاتية يُحاسبون عليها، لتبدو كأنها انهارت من تلقاء ذاتها، لتحويلها إلى مراكز تسوق أو مطاعم"، وفقا لسرسم.

بيت أجاثا كريستي في بغداد المصدر: الجزيرة نت
بيت أجاثا كريستي المطل على نهر دجلة في "كرادة مريم" (الجزيرة)

وأضافت "ما نخشاه أن يحدث الأمر ذاته مع منزل أجاثا كريستي، الذي أسكن قربه، حيث أخبرني العديد من الجيران القدماء أن المنزل أيضا كان في فترة ما مدرسة".

وتبين سرسم أن الكاتبة البريطانية ذكرت هذا المنزل في أغلب كتبها المعنية بالعراق، لشدة تعلقها به، ولأنه كان ملهما لسنوات حياتها الأدبية، إذ كان زاخرًا بالإلهام في فترة استراحتها من العمل مع زوجها وبعثاته التنقيبية.

منزل الكاتبة أجاثا كریستي.
واجهة منزل الكاتبة الروائية البريطانية كریستي العريق في بغداد (الجزيرة)

أجاثا كريستي في العراق

لسنوات عديدة، رافقت كريستي زوجها عالم الآثار السير ماكس مالوان في الحفريات بالعراق، واستخدمت كريستي هذه المغامرة المشوقة في العديد من رواياتها، وأشهرها "جريمة في بلاد الرافدين"، كما يوضح للجزيرة نت الآثاري جنيد عامر.

ويقول عامر "بعد طلاقها الأول، قامت روائية الغموض والتشويق برحلة إلى بغداد عام 1928، وكانت تبلغ 39 من العمر، ورغم أنها لم تكن تنوي في البداية سوى زيارة الهند الغربية، فكان للقاء صديقين عادا من بغداد أثر في تغيير وجهتها".

بيت أجاثا كريستي في بغداد المصدر: الجزيرة نت
بيت أجاثا كريستي في بغداد زاره عدد من الضيوف المهمين، أبرزهم الكاتب الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا (الجزيرة)

"سافرت كريستي عبر قطار الشرق السريع، وهو القطار الذي ينقل المسافرين إلى بغداد عبر ميلانو وإسطنبول، وأصبحت هذه الرحلة نقطة التحول في حياة كريستي، ففي اليوم التالي ألغت تذكرتها إلى الهند الغربية واشترت واحدة جديدة لبغداد وانطلقت إليها مباشرة".

منزل الكاتبة أجاثا كریستي.
منزل الكاتبة أجاثا كریستي في بغداد كتبت عليه تحذيرات من السقوط (الجزيرة)

بين أور ونينوى وبغداد

بعد أيام قليلة قضتها في العاصمة العراقية توجهت كريستي إلى عاصمة الدولة السومرية (أور)، وذكرت حبها لهذه المدينة في سيرتها الذاتية، حتى عادت إليها مرة ثانية، لتلتقي ماكس مالوان، وكان مساعد المنقب البريطاني ليونارد وولي، حيث تعرفا على بعضهما البعض، وبعد 6 أشهر أصبح عالم الآثار -الذي كان يصغرها بـ13 عاما- الزوج الثاني لها.

وأمضت كريستي مواسم طويلة في مواقع التنقيب المختلفة في سوريا والعراق مع بعثات زوجها، وعملت على ترميم القطع الفخارية وجرد القطع الأثرية وتصويرها، وتنظيفها بأدوات خاصة بها، إذ إنها كانت تعامل هذه الآثار بمحبة خالصة، كما يقول عامر.

ويردف "كانت معروفة وقت التنقيب بموهبة التصوير الفوتوغرافي، واتقنته كثيرا، والعديد من الآثار التي عرفناها عن طريق الصور كانت من تصويرها هي".

بيت أجاثا كريستي في بغداد المصدر: الجزيرة نت
بيت أجاثا كريستي في بغداد (الجزيرة)

إلهام حضارات العراق

"لم تشكل وجهات البحث عن الآثار مع زوجها أي عقبة أمام كتاباتها، بل على العكس، فحينما كان زوجها يعمل بالقرب من نينوى بالموصل كتبت كريستي روايتها الشهيرة "جريمة في قطار الشرق السريع" عام 1934، وكانت مستوحاة من رحلات قامت بها في هذا القطار نحو بغداد.

بلاد وادي الرافدين، كانت أرضا خصبة لخيالها، وكذلك كانت أدوات زوجها الحفرية، لا سيما بيتها الذي يطل على نهر دجلة، فقد شغلته سكنًا لها عندما تكون في بغداد لتطل من شرفته المعهودة، وتكتب مذكراتها، حتى أنها ذكرته في سيرتها الذاتية المنشورة بعد وفاتها، كما يوضح الآثاري جنيد عامر.

ويتابع "ذكرت في سيرتها كيف أنها كانت تحب هذه الدار الواقعة في حي "كرادة مريم" والمبنية على الطراز التركي، حتى أنها قالت في سيرتها إن الناس كانوا يشعرون بالاستغراب من حبها وزوجها لمنزل بهذا الحجم الهائل، ورفضهم العيش في بيت حديث، المنزل كان منعشا وأقل حرارة، ويبعث على الراحة".

جبرا إبراهيم جبرا في المنزل

ويوضح عامر أن هذا البيت زاره عدد من الضيوف المهمين، أبرزهم الكاتب الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا، وأيضا كانت لهذا التحفة المعمارية حصة من سطور الكاتب المبدع في كتابه "شارع الأميرات"؛ إذ يتحدث عن دعوة تلقاها من ماكس مالوان، واصفا اياه بكونه من أجمل بيوت العهد العثماني.

ويصف جبرا إبراهيم جبرا جمال هذا المنزل في كتابه "شارع الأميرات"، قائلا "الباحة محفوفة بالأشجار وسط بناء من طابقين، يصعد منها إلى الأعلى منهما بدرج خشبي خارجي يؤدي إلى شرفة ضيقة طويلة تمتد مع الواجهة الداخلية"، وقد كان في عشرينيات القرن الماضي منزلاً للملك علي بن حسين الهاشمي (1879-1935)، أخي الملك فيصل الأول، ووصفته أجاثا في روايتها "موعد في بغداد"، باعتباره "بيت الملك".

المغامرة مع بلاد الرافدين

وذكرت أجاثا كريستي العراق في 4 كتب، ومنها روايتان: "موعد في بغداد" و"جريمة في بلاد الرافدين"، ونُشرت أيضا بعنوان "جريمة في العراق"، أما الكتابان الآخران فكانا مذكراتها "تعال أخبرني كيف تعيش" وكتاب سيرتها الذاتية، التي بدأت توثيقها وتدوينها على الورق في دار بعثة التنقيبات لمدينة النمرود بالموصل، وفي بغداد.

من جهته، يبين مدير إعلام هيئة الآثار والتراث حاكم الشمري أن هذا المنزل -وإن عُرض للبيع- فإنه محمي من قبل هيئة الآثار، التي ترفض رفضا قاطعا هدم هذه البيوت أو التلاعب في مظهرها الخارجي، وعلى المالك الجديد السير وفق الضوابط.

حاكم الشمري: الهيئة ترفض هدم البيوت التراثية أو التلاعب في مظهرها الخارجي (الجزيرة)

ويردف الشمري "يحق للأفراد ترميم وتصليح واجهات ودواخل المنازل بطريقة تضمن عدم تخريب أو تغيير الملامح الحقيقية للبناية، غير ذلك فإن عملية الترميم تتوقف، ويتم سحب المنزل مباشرة"

ويؤكد الشمري أن هيئة التراث تحفظ عشرات المنازل المهمة، التي سكنها شخصيات عراقية بارزة، مثل بيت ساسون حسقيل أول وزير للمالية في العراق، وبيت الكاتب عبد المجيد الشاوي، وبيت رئيس الوزراء في العهد الملكي توفيق السويدي الواقع في شارع حيفا في العاصمة بغداد، وغيرها من المنازل التي بقيت محافظة على تاريخها وذاكرة أصحابها.

المصدر : الجزيرة