الحج في شعر المديح السوداني.. كيف حكت القصائد الأشواق ووثقت للرحلة؟
أكثر ما يهيج أشواق المحبين بدء قوافل الحجيج، وكما هو معلوم فقد كان السودان معبرًا لحجاج الغرب الأفريقي قديمًا؛ تعج المدن بحركة حجيجها وبالعابرين من الحجاج، فتجد في قصائدهم ذكرًا لبرنو، وكانم، وحواضر غيرهما في الغرب الأفريقي.
الخرطوم – موثقًا للرحلة، وحاكيًا للشوق.. يزخرُ شعر المديح النبوي السوداني بالقصائد التي كان الحج موضوعها، والتي ترسم ملامح الحياة الاجتماعية في العصور المختلفة، وشيئًا من عادات السودانيين وطقوسهم في الحج ورحلته.
الشوق للحجاز
مع اقتراب موسم الحج من كل عام تزداد مشاعر المحبة والشوق في قلوب المسلمين للديار المقدسة؛ لمكة والمدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم، أشواقٌ ترجمتها قصائد شعراء المديح (الشعبي) في السودان.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالعربية في جنوب السودان.. "عربي جوبا" وظلال ما بعد الانفصال
عندما انتهت إنجازات جنرال بريطانيا العظمى بالسودان.. غوردون باشا وحرب الخرطوم
الفنانة التشكيلية البريطانية التي اختارت السودان.. رحيل غريزلدا زوجة العلامة عبد الله الطيب
ويرى الواثق يونس الشاعر والناقد أن "الشعراء من أشد الناس عاطفة وأكثرهم تأثرًا بما يحيط، فكان من الطبيعي أن تخرج هذه الأشواق في أشعارهم"، وقد تظهر هذه الأشواق صراحة في القصيدة أو يكنى عنها.
يستطرد الواثق في إفادته للجزيرة نت قائلًا إن "قصائد كثيرة في ديوان المديح الشعبي تستهل بـ: شوقي، واشوقي، الشوق… وما إلى ذلك من كلمات صريحة مثل استهلال حاج الماحي (1789-1871م) (شوقك شوى الضمير.. أطراك مناي أطير)، واستهلال الشيخ قدورة (1745-1829م) (شوقنا لي طيب الأصل)، والشواهد كثيرة، وهذا أمر مفهوم؛ فالشوق دافع الكتابة، وللشوق والحب ما يهجيه".
عن ذلك يتحدث الشاعر والناقد أبو عاقلة إدريس للجزيرة نت فيقول إن "مهيجات الشوق كثيرة، والشوق للديار المقدسة تهيجه مواسم الطاعات وأهمها الحج، وقد يربط شعراء المديح النبوي الشوق ببعض المظاهر، كالبرق على طريقة الشعراء الأقدمين، مثل قول الأعرابي: (رأيت بروقًا داعيات إلى الهوى)، فتجدهم يقولون: (الليلة برق الروضة لاح)، أو (الليلة البريق لاح لي من السوح)، وغير هذا كثير".
لكن أكبر ما يهيج أشواق المحبين بدء قوافل الحجيج، وكما هو معلوم فقد كان السودان معبرًا لحجاج الغرب الأفريقي قديمًا؛ تعج المدن بحركة حجيجها وبالعابرين من الحجاج، فتجد في قصائدهم ذكرًا لبرنو، وكانم، وحواضر غيرهما في الغرب الأفريقي، يقول المادح صالح الأمين (ت: 1888م) ذاكرًا أساه لما رأى حجيج دار صليح (شرقي تشاد):
الناس من صليح جات للمدينة تكوس
وأنا أقرب مكان.. يا ناس أموت بالشوق؟!
حالان للارتحال
المتشوق للديار المقدسة، والراغب في حج البيت إما ميسر حجه، أو غير موفق، وهنا تكون الحسرة والألم وتتبدى في شعرهم، ومن القصائد التي يكثر السودانيون ترديدها قصيدة الشيخ أبو كساوي (1841-1884م) التي أداها كثيرٌ من المادحين:
قالو الحجيج قطع طالب نور البقع
قلبي زاد وجع حماني القيد منـع
لكن القيد الذي منع أبو كساوي من الحج لم يمنع خياله، وإذا به في وسط القصيدة يتخيل نفسه في ميناء سواكن (ريس السفينة قال أهلا مداح السيد)، إلى أن يبلغ جدة (في جدة خروجنا ما فينا من مريض).
ويواصل الناقد الواثق متحدثًا عن الحرمان وأثره النفسي، ويربط الواثق بين هذه القصيدة وقصيدة البرعي اليماني (1368-1400م) (يا راحلين إلى منى بقيادي)، التي يسافر فيها بروحه ويتخيل المناسك، وحال الحجيج.
يقول الواثق "أثر قصيدة البرعي اليماني على شعراء المديح بُعده كبير، وتبيُّن ذلك عند شعراء المديح السوداني لا يحتاج إلى مشقة، وهي من القصائد المحبوبة عند السودانيين؛ لعاطفتها المشبوبة، والإجادة والسلاسة، وما يكسبه الحرمان للقصيدة من بعد"، ويضيف الواثق "لا يخفى على المتلقي الشبه بين قصيدة البرعي (يا راحلين إلى منى ..) وقصيدة أبو كساوي (قالوا الحجيج قطع)؛ فالحج فيهما تخيل لا حقيقة".
وكما ارتحل البرعي وأبو كساوي إلى الحج خيالًا ارتحل حاج الماحي في قصيدة شهيرة (سمح الوصوفو)، ويشير الناقد أبو عاقلة إدريس إلى أمر مشترك في القصيدتين، فالشاعران يتمنيان من الله إبلًا كثيرة العدد، فقد تمنى الماحي مئتين وأبو كساوي ألفين، ثم يختار كل واحد منهما جملًا بمواصفات خاصة.
ويعلق أبو عاقلة "الجمل وسيلة الوصول إلى المحبوب لذا يتمناه الشاعر، وبمواصفات خاصة حتى لا يسبقه أحد"، أما الارتحال حقيقة فله متطلباته ومقتضياته التي ورد بعضها في شعر المديح الشعبي في السودان.
ما قبل الرحلة
مع تغير الزمان وسهولة الرحلة بظهور الوسائل الحديثة اختفت بعض الملامح فيما يخص الإعداد والتحضير والرحلة ذاتها.
يقول أبو عاقلة "يوثق شعر المديح لكل ما يخص الحج حتى هذه البدايات، وكما هو معروف يبدأ الأمر بسداد الديون وإرجاع الحقوق لأصحابها، وفي هذا يقول المادح حياتي: (نوفي ديونا نوفي طلوبنا)، ثم يكون إعداد الزاد، وهذا من الأمور الضرورية لطول المدة التي كانت تقتضيها الرحلة، لذا عندما يتمنى حاج الماحي بعيره لا ينسى الماء والزاد (بي زمزميتو والزاد محقـب)".
الباحث في المديح ورئيس اتحاد المادحين والمنشدين السودانيين الشيخ عامر أبو قرون يقول للجزيرة نت "الزاد الذي يحمله الحاج لا تعدّه أسرته فقط، بل تشارك فيه معظم بيوت القرية كلٌّ بما يستطيع؛ هذا بتمر، وآخر بلحم مجفف وذاك بدقيق .. إلخ"، وزاد المرتحل خلاف زاد المقيم؛ إذ يكون مما يحتمل طول المدة.
ويقول الباحث في الفلكلور فرح عيسى "يختلف الزاد باختلاف المنطقة، وهذا باب كبير، لكن تتفق هذه الأطعمة في كونها لا تفسد طوال أشهر"، ومن أهم ما يتزود به أهل السودان التمر، والآبري (رقائق من عجين الذرة النابتة المتبل بتمر بمراحل مختلفة من التحضير، ينقع فيكون منه شراب ويؤكل كذلك)، وقد ذكره حاج الماحي في قصيدة "سمح الوصفو" وهو يتمنى 50 ناقة محملة به وبالبن المقلي المعد للقهوة (خمسين حمولن آبري وقلية).
والعلاقة بين شعر المديح والزاد ليس في ذكره فقط بوصفه مرحلة من مراحل الإعداد، هنا يقول الشيخ عامر "يأتي الأهالي والأحباب بالزاد لمنزل الحاج مصحوبًا بالإنشاد والمدائح المهنئة للحاج والمشوقة للحج، وغالبًا ما يشار فيها إلى الزاد".
ومما ذكره الشيخ عامر أبو قرون قصيدة الشيخ الصابونابي (1899-1984م) التي يحث فيها على إعداد الزاد استعدادًا للمسير:
هيا يا زميل عبِّي لينا زاد
أنا طال قعادي وغرامي زاد
الرحلة
عادة ما ينطلق الحجيج من قراهم ومدنهم في مجموعات ويؤمّر عليهم أمير، قد يندب معه آخر وتقسم بينهما المهام من إشراف على الزاد والمال والتحرك وخلافه، وفي ذلك يقول الشيخ عامر إن اتخاذ الأمير سنة نبوية، وعرف في رحلة الحج السودانية، وقد وصف ذلك الشيخ حياتي:
ود التاي لزيم حالتنا
في النايبانا (فيما ينوبنا) والوالتنا (وما يوالينا)
لكن قبل انطلاق مجموعات الحجيج هذه تذبح الذبائح فرحًا بما يعرف عمومًا بـ(الكرامة) أو ما تسمى بالقيدومة (المقدمة)، وقد ذكر ذلك شاعر العامية عكير الدامر (1906-1990م):
الحضرو الكرامة وجونا بدري زياره
ما فاتونا لامن قامت الطياره
أي إن الذين كانوا حضورا في الوليمة ما بارحونا حتى إقلاع الطائرة، الطائرة التي شكلت نقلة كبيرة ظهرت في المدائح مثل قصيدة عبد الرحيم البرعي الكردفاني (1923-2005م) (الطائرة السودانية).
فقد كان الحجيج سابقًا يقطعون المسافات على ظهر دوابهم إلى أن يبلغوا سواكن، ثم يتركونها في "محجر" تتم فيه رعايتها إلى حين العودة، ويستقلون المراكب والسفن من سواكن إلى جدة، يقول الشيخ قدورة:
اليوم الرجال عنفوا الجمال ساقوها
فوق حَجرة (محجر) سواكن بلجوا (أنزلوا حمولها) ختوها
النول خلصوا (دفعوا الأجرة) رفع الشراع ورموها
سرت الليل على جدة الصبح رسوها
والنول أجرة الملاح، وفي الحديث النبوي في قصة سيدنا موسى والعبد الصالح عليهما السلام: (قال له موسى قوم قد حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها).
ويستمر وصف الرحلة إلى حين وصول الحجيج إلى الحجاز، فتوصف جدة ومكة والمدينة، ثم يشرع الشعراء في ذكر المناسك ووصف الشعائر.
العودة
لعل الفرح بتمام الحج مشوب بحزن على انقضاء تلكم الأيام، بعض الحجاج تكون زيارته للمدينة المنورة عقب الحج فتكون فرحته بزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ومما يجدر ذكره أن شعر المديح عمومًا فيه تمنٍّ بمجاورة الرسول صلى الله عليه وسلم والموت في طيبة، وفي ذلك يقول أبو عاقلة إدريس إن من أشهر القصائد في ذلك قصيدة الزمخشري (قامت لتمنعني المسير تماضر)، حين يقول:
سأقيم ثَم وثَم تدفن أعظمي
ولسوف يبعثني هناك الحاشر
وقد تمنى الأمنية ذاتها عدد من شعراء المديح السوداني؛ يقول حاج الماحي: إن متّ نعمه.. وإن جيت هنيه.
ومن العادات أن يعود الحاج بهدايا يوزعها على زواره وغالبًا ما تكون: مسابح، وطواقي رأس، ومصاحف، وأهم ما ينتظره الزوار المهنئون ماء زمزم، ويجد الحاج سور منزله مجددًا بالطلاء ومكتوبًا على جانبي الباب "حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وتجارة لن تبور"، وإن كانت هذه العادات بدأت تتقلص.
ويجتمع الناس لتناول الطعام في "كرامة" أخرى تسمى "السلامة"، وغالبًا ما تهدى للحاج الخراف من العشيرة والأحباب.
ويختم الشاعر عكير الدامر قصيدته بذكر هذه الكرامة وذبحهم الخراف بعد العودة (عدنا المنزلة وبي دم حمل كرمنا).