"أبو فستوك المخبر اللورد".. عندما تعالج القصص الساخرة أكبر مخاوفنا
كان أبو فستوك شاعر سلطة بامتياز، يكتب شعرا رديئا ليؤكد ولاءه للقائدين القديم والجديد، ولم يحافظ على صفته بأنه شاعر إلا لأن الفروع الأمنية رحبت بوجوده في الوسط الأدبي ترحيبا حارا؛ إذ دأب على كتابة التقارير وتأدية مهامه على أتم وجه وأكثر، عدا عن أنه كان يحمل إلى دمشق شهريا أخبار المحافظة "والأعمال الإجرامية التي يرتكبها الأدباء".
"الحديث عن المخبرين في ظل حكم الأسد الأب (حافظ الأسد) والأسد الوريث (بشار الأسد) الضحوك أصبح مملا، لكثرة ما كتب فيه، إلا أن المخبر الذي ظهر لنا فجأة في محافظة إدلب، في تلك الأيام، الذي أطلقت عليه اسما افتراضيا هو ’رحمون قعر السفينة‘، ولقبا هو ’أبو فستوك‘، كان ذا شأن مختلف، وذا فكاهة".
بهذه العبارات يضعنا الكاتب والقاصّ السوري خطيب بدلة أمام الشخصية الرئيسية في قصته "أبو فستوك"، التي سنتعرَّف -عبر متابعتنا لأحداثها- على واقع الحياة في الأوساط الثقافية والأدبية في سوريا خلال المرحلة المبكرة لاستلام بشار الأسد السلطة عام 2000.
اقرأ أيضا
list of 3 itemsعلى غرار ملهمي بوتين.. هل يستلهم حلف الناتو خططه من أفكار الفلاسفة الغربيين؟
دعا إلى قدس عربية وعودة اللاجئين الفلسطينيين فقتلوه.. 75 عاما على النكبة واغتيال الوسيط الأممي الكونت برنادوت
وتقع القصة الساخرة "أبو فستوك (المخبر اللورد)" في 140 صفحة من القطع المتوسط، ويسلط فيها الكاتب الضوء على حياة مجموعة من الكتّاب في محافظة إدلب السورية مطلع الألفية الثالثة، وعلى معاناتهم في الكتابة والنشر في ظل انتشار المخبرين الأمنيين القادرين على ولوج الأوساط الثقافية بصفة شعراء أو كتّاب قصة، وما يسببه ذلك من متاعب للكتّاب وتعطيل لحرية الرأي والتعبير.
ويركن بدلة في سرده إلى أسلوب يمزج فيه بين الجدية والسخرية في تناول الوقائع والأحداث، وهو ما يضيف لتجربة القراءة الكثير من الجمال والمتعة إلى جانب الفائدة الناتجة عن واقعية القصة وما تمثله من قيمة ثقافية.
بين السخرية والمأساة
"كان التحقيق معنا نوعا من ’الكلام الفارغ‘، يبدأ بسؤالنا عن أسماء الموقّعين، ثم تأتي الأسئلة المتتابعة: من دعاكم للتوقيع؟ وهل المجتمع المدني حزب أو تنظيم سري مسلح؟ ومتى كانت آخر زيارة قمتم بها لإسرائيل؟"
بهذه الأسئلة "المضحكة" كان ضباط الفروع الأمنية في سوريا يحاولون استنطاق الكتّاب الأربعة: تاج الدين موسى، وعبد القادر عبدللي، وعبد العزيز موسى، وخطيب بدلة، الذين كانوا قد وقّعوا قبل ذلك بأيام بيانا عُرِفَ بـ"بيان الألف" طالبوا فيه بالتعددية الحزبية، وإلغاء قانون الطوارئ ومحاكم أمن الدولة، والإفراج عن معتقلي الرأي.
ويروي بدلة في قصته أن البيان المذكور جاء على خلفية تسلّم بشار الأسد منصب رئيس الجمهورية بإجراءات شكلية وصفها معارضون بأنّها "عملية توريث الحكم للفتى الذي يضحك بدون مناسبة"، ونتيجة لما شاع في البلاد من أن عهدا جديدا خاليا من كل أشكال القمع ينتظر السوريين.
وحسب القصة فإن "الطغمة" المحيطة بالوريث لم تستطع في تلك الفترة اللجوء إلى الأدوات الخشنة (العنف) -التي كانت تلجأ إليها في عهد الأسد الأب- ضمن الفروع الأمنية لقمع الناشطين، فاكتفت بإعلان ما أطلق عليه القاص "الحرب الباردة" مع الكتاب والمثقفين بعد تصريح عبد الحليم خدام -النائب الأسبق لرئيس الجمهورية- الذي قال فيه إن الموقّعين على بيان المجتمع المدني يسعون إلى تخريب سوريا.
وبعد تصريح نائب الرئيس، عاد المخبرون للانتشار في محافظة إدلب، وباتت الفروع الأمنية تستدعي الكتّاب الأربعة دوريا، واستمر ذلك 10 أعوام كاملة من 2001 وحتى 2011 بجهود "المخبر اللورد" الذي فضل الكاتب التكتم على اسمه مستعيضا عنه باسم افتراضي، "أبو فستوك".
وعن هذا المخبر، يقول خطيب بدلة -للجزيرة نت- "أبو فستوك شخصية لا تزال على قيد الحياة، وكثيرون ممن قرؤوا القصة اتصلوا بي، وقالوا: أنت تقصد فلانا، سوَّد الله وجهه. وهذا يعني أنهم مثلي اكتووا بنار تقاريره".
ورغم أن تلك التقارير و"الحرب الباردة" التي أطلقتها الفروع الأمنية لم تكن تنطوي على إخفاء أو تعذيب جسدي للكتّاب والمثقفين الذين يتم استدعاؤهم للاستجواب، غير أن أثرها على نفوسهم كان كبيرا، لا سيما مشاعر الخوف التي كانت تعتريهم إثر كل مرة يتم فيها استدعاؤهم.
وعلى هذا النحو يسعى الكاتب في الفصول الأولى من قصته إلى الإضاءة على حقبة أمل فيها السوريون في عهد تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية، فاندفع فيه المثقفون للاضطلاع بمهامهم وأطلقوا الدعوات والمطالبات بالإفراج عن معتقلي الرأي وإلغاء قانون الطوارئ وغيرها من المطالبات، التي ما لبثت أن تحولت إلى أحلام بعيدة المنال، ثم إلى موضوعات للتندر والسخرية، نتيجة للمفارقة بين الخطاب السياسي الرسمي الداعي للحرية والانفتاح، والواقع الذي يسوده المخبرون من أمثال أبو فستوك.
الشاعر المخبر
كان دخول أبو فستوك إلى الوسط الأدبي في محافظة إدلب حدثا مفاجئا للجميع؛ خاصة أنه دخل بصفتين صريحتين: شاعر و"مخبر لا يخبئ نفسه".
أمّا عن مدى شعريته، فيؤكد بدلة أن "أبو فستوك بدأ مسيرته بنظم الشعر العمودي الغليظ، مرة بقافية الدال ليمدح القائد الخالد، وأخرى باللام ليرثو ابنه الشهيد باسل، وفي مرات يقع اختياره على الباء المكسورة؛ لأن قافيتها تضم كلمات من قبيل: العربي، الأبي، النسب".
وهكذا كان أبو فستوك شاعر سلطة بامتياز، يكتب شعرا رديئا ليؤكد ولاءه للقائدين القديم والجديد، ولم يحافظ على صفته بأنه شاعر إلا لأن الفروع الأمنية رحبت بوجوده في الوسط الأدبي ترحيبا حارا؛ إذ دأب على كتابة التقارير وتأدية مهامه على أتم وجه وأكثر، عدا عن أنه كان يحمل إلى دمشق شهريا أخبار المحافظة "والأعمال الإجرامية التي يرتكبها الأدباء".
ويقول خطيب بدلة -في حديثه المتصل- إن شخصية أبو فستوك خير مثال للقارئ الذي يريد أن يكوّن صورة واضحة عن تركيبة النظام المخابراتي في سوريا، وعن الكيفية التي تلوَّث بها الوسط الأدبي السوري، وهو ما يبدو جليا مع تقدمنا في القراءة؛ فيغدو أبو فستوك نموذجا للمخبر المثالي المحتذى به في الفروع الأمنية، فهو لم يكتف بكتابة التقارير بل كان يعمل أيضا على تجنيد النساء، خاصة "الأدبيات قليلات الموهبة" ضمن فريقه عبر إقامة الأمسيات الأدبية لهن وطباعة أعمالهن وكتبهن.
وﻷن أبو فستوك نجح نجاحا منقطع النظير في التضييق على مثقفي المحافظة، خاصة أبطالنا الأربعة، فقد زادت حظوته عند فروع ودوائر الأمن، وانتهى الأمر بتعيينه أمين سر لفرع اتحاد الكتاب العرب في إدلب، وذلك بعد أن ذهب إلى دمشق و"حمل الخبر الصاعق عن الفساد السياسي الضارب أطنابه في فرع اتحاد الكتاب، وأن جماعة المجتمع المدني الذين يقودهم الشيوعي المتصهين خطيب بدلة يحتلون فرع الاتحاد، بينما كل إنسان وطني شريف محب للقائد مستبعد ومهمش".
وبعد تسلمه المنصب، تحول اتحاد الكتاب إلى "منطقة أمنية حقيقية" وصار هناك رجل أمن يداوم فيه بشكل منتظم.
ومن أواسط التسعينيات صار أبو فستوك المشرف الأول على وضع كل برامج النشاطات الاحتفالية للمراكز الثقافية في إدلب، كما أنه لم يفوت أي حدث فني أو أدبي، إلا وكان حاضرا فيه لتصيد الفرائس.
مصير أبو فستوك
كان اندلاع الثورة السورية مطلع عام 2011 إيذانا بنهاية مرحلة سياسية بكل معالمها وبداية أخرى، ولم يكن أبو فستوك استثناء من هذا التغيير، حيث ألقت جماعة من الثوار القبض عليه في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.
غير أن الجماعة آثرت عدم الاحتفاظ بالشاعر المخبر لوقت طويل، لنراه يجري مثل "المجنون" في حي القصور الإدلبي متجها إلى مكتب "المعلم" (رئيس فرع الأمن العسكري)؛ حيث يكشف عن جزء من جسمه مطلي بالأبيض وكتب عليه بالأسود اسم "القائد"، وتكون تلك هي نهاية قصتنا.
وعن هذه النهاية التي حدثت بالفعل، يحكي خطيب بدلة "كان من حسن حظ أبو فستوك أنه وقع في يد مجموعة ثوار بداية الثورة، فلو وقع بين أيدي المسلحين بعد عام 2012 لربما كان مصيره مختلفا".
ويضيف "وقع أبو فستوك بقبضة مجموعة من الشباب غير المسلحين، وبعدما وبخوه واستهزؤوا به بسبب تشبيحه للنظام وكتابته التقارير، جردوه من ثيابه وكتبوا على جسده وأطلقوا سراحه ضاحكين. ولم أذكر العبارة حرفيا في القصة حيث تركت للقارئ أن يتخيل".
وتتجلى أهمية تناول شخصية أبو فستوك أدبيا في أنها نموذج حيّ عن الشخصيات الثقافية التي كانت تعول عليها الأجهزة الأمنية -العربية عموما والسورية خصوصا- لاختراق الأوساط الثقافية والفكرية والسياسية في المدن، وإحباط أي محاولة جدية للتغيير أو العمل في الرأي العام بما لا يتناسب وتوجهات السلطة.
الأدب الساخر
لا تقتصر أهمية قصة "أبو فستوك (المخبر اللورد)" على تناول كاتبها لشخصية المخبر بكل ما تنطوي عليه هذه الشخصية من تعقيدات وسرية تصعّب عملية تطويعها أدبيا، ولكن أيضا لانتماء القصة إلى الأدب الساخر الذي لا يحظى برواج كبير بين القراء على الرغم من القدرة الهائلة لأسلوبه على ترك الأثر.
وعن اختياره لهذا الأسلوب من القصّ، يقول بدلة "الأدب الساخر، برأيي، هو الأنسب لواقعنا المتخلف، المحكوم بدكتاتورية عسكرية مخابراتية، بالإضافة إلى الاستبداد المجتمعي، كسلطة الذكورة، والعشيرة، والعائلة، ورجال الدين المتشددين. لماذا هو أنسب؟ لأن العلاقات التي يفرزها هذا الواقع شاذة، شوهاء، وبالتالي: أي كلام جاد يقال في هذا المقام سيبدو غريبا".
في حين يرى العديد من النقاد العرب أن الأدب الساخر العربي عموما إنما كان استجابة لكثير من النواقص والعيوب التي تعتري مجتمعاتنا العربية، ونتيجة للحيف والظلم الذي يشعر به المواطن العربي في ظل غياب العدالة الاجتماعية وسيادة الفساد والتعسف عوضا عن القانون.
بينما يساعد الأدب الساخر القراء على تجاوز مخاوفهم، بالسخرية منها وتحجيمها ضمن فكاهة يطلقها الأدباء في قصصهم وأشعارهم.