البروفيسور الجزائري عبد الرزاق بلعقروز: القيمتان النهائيتان لأخلاق العصر الحالي هما "المتَعيّة والنّرجسية"
يقول المؤلف الجزائري البروفيسور عبد الرزاق بلعقروز، إن فكرة الاستقلال الذَّاتي لم تعد منبع اعتزاز ولحظة انتصار، بل هي علامة على تأويل مريض للوجود، وفرح بما لدى الإنسان من علم ومنهج ومعرفة، وقد استبانت أنّها رؤى وخيارات ظرفية لا تتوافق مع الحقيقة أو طبائع العالم الموضوعي

يكابد العقل المعاصر جملة من الإشكالات الفكرية والفلسفية والأخلاقية، وفي مكابدته هذه يجتهد لأجل إنارة الدروب نحو مكاشفتها وإزالة الأمور العائقة والعوارض الحائلة دون فك معاقدها.
وميزة هذه الإشكالات الجديدة، أنها مطالب عملية وأسئلة مشتقة من الأحداث الواقعية، بمعنى أن الإجابة عنها ليست تنحصر في الأنظار الفكرية والأقيسة العقلية التي يستنبطها الفكر من العقل، إنما إجابات تفكر من أجل إعانة الإنسان على تدبير حياته الخيّرة.
فمطالب العقل العملي باتت تمتص جُل الأسئلة الفلسفية، وألزمت التفكر أن يكابد الآلام ويتجرع أحزان الإنسان وكلومه الواقعية ومكدراته النفسية.
فهي أقرب إلى بذل الجهد؛ ليس لأجل بناء تصور كلي عن الحياة، وإنما إيجاد الأدوات المنهجية التي يكون بموجبها التفكير تفكرا والفلسفة تفلسفا والأخلاق تخلقا.
وهنا نكون جديرين بالقول، إن حاجتنا الماسة إلى المنهج تفوق حاجتنا إلى المحتوى؛ المنهج الذي ينير لنا الطريق نحو التيقظ الفكري والتفلسف الإبداعي والتخلق الواقعي؛ هذا بالضبط هو ما يناقشه البروفيسور عبد الرزاق بلعقروز أستاذ فلسفة القيم والمعرفة في جامعة سطيف بالجزائر، ورئيس مجموعة بحثية بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، من خلال كتابه الأخير والمعنون بـ"الاتصاف بالتفلسف.. التربية الفكرية ومسالك المنهج" الصادر عن مركز نهوض للدراسات والبحوث لسنة 2022.
ومن أجل سبر أغوار الكتاب تستضيف الجزيرة نت البروفيسور عبد الرزاق بلعقروز في حوار نترككم مع مضامينه:
-
الحديث عن التفلسف يدفعنا مباشرة للتساؤل عن العلاقة المنهجية الناظمة بين العقل والقلب وخاصة أن هناك تيارا يسعى للفصل بينهما، ما رأيكم؟
إذا أتينا على ذكر تساؤلات الكتاب، وبلغنا الإشارة إلى فرضياته المعرفية، فإنا نمضي إلى القول إن الذي بعث فينا فكرة الترابط المنهجي هذه، إقرار القول إن أصل الصلة بين أفعال العقل وممارسات القلب ليست بتراء، بل إن ثمة قلبا يسكن العقل وعقلا يسكن القلب، وما حدثت القطائع بينهما، إلا عندما جرى التحكم في العقل بواسطة النماذج المعرفية الاختزالية والجزئية، فكان حظ التعقل، هو الوعي السببي بالعالم الذي يمكن إظهاره في العلوم الفيزيائية والطبيعية والرياضية، ثم في العلوم الإنسانية والاجتماعية لاحقا.
أما حظ القلب فهو الانفعالات الفردية وإسكان المشاعر الأخلاقية ضمن أحوال القلب المتقلبة، والتي يستحيل -حسب منظور العقل الاختزالي- التحكم فيها وفق أركان وخطوات المنهج العلمي.
وهكذا باتت هذه القسمة التفاضلية في منزلة البديهة والمبدأ الذي يكون منطلقا للتفكير ولا يتم بث الشكوك في مبادئه وتضميناتها الفلسفية.
وهكذا تمزقت العلاقة بين العقل والقلب، ولم تجد الأخلاق الروحية لِذاتها موضعا لا في مناهج التعقل لأنها لا تستجيب للكم والوزن، ولا في أحوال القلب لأنه محل للانصرافات من حال إلى حال (التقلب).
وقد أسهم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804) في تهيئته النقدية لتبرير الاستقلال في التشريع الأخلاقي، فهو الذي نفى صفة العلمية عن إمكانية قيام ميتافيزيقا، ووجدت "الوضعية" في هذه الاستحالة متنفسها انطلاقا من فلسفة كانط؛ لأنها أخذت بهذه القاعدة إلى الأسئلة البعيدة والمعاني الروحية بالنقد والنفي، بخاصة أن نظام الاعتقاد أو الأسس الغيبية كانت هي أساس المعاني في الفعل الأخلاقي، فنقد كانط إذن، للميتافيزيقا هو تهيئة لا تقدر للوضعية العلمية ثم للوضعية المنطقية لاحقا.
وأسهم كانط أيضا في تأسيس الأخلاق على فكرة التصغير لأبواب الدين؛ وذلك باعتباره مملكة قلب لا طقوسا ظاهرة، أي أنه أحوال قلبية لا قالبية، ومعان روحية داخلية لا حوافز وروافع إيمانية لأجل الفعل الاجتماعي أو الإصلاح الإنساني، فانحصر الإيمان في الذات الداخلية باحثا عن النمو الكيفي في داخل الإنسان، أما الواقع الخارجي فإن الذات المستقلة والنسبية هي معيار التفكير والبناء لأنظمة الإنسان العلمية والمؤسساتية.

تظهر التهيئة الثالثة، في الفصل بين القلب والعقل عند كانط، في مسألة التسويغ الذاتي للفعل الأخلاقي، فالواجب موجود بذاته ومحكمة ذاته، ويتأبى القبول بمحاكمة خارجية أو شهادة من كائن آخر، وهذه هي روح الاستقلالية التي شرّع لها كانط؛ بأن أقام الفرقان بين وعي القلب، ووعي العقل، فالقلب ينمو كيفيا وباطنيا، والعقل مبتور عن هذه المَلكة القلبية، وموجود في عالم الطبيعة الخارجي.
لقد اتجهت المذاهب الأخلاقية بناء على هذه المبادئ، إلى المرادفة بين التخلق والاستقلال، وعرفت هذه المرحلة بالعتبة الأولى من العلمنة الأخلاقية، ويعد كانط هو رائدها.
وسيماتها الكبرى هي: فصل المعاني الأخلاقية عن الأسس الغيبية، وحصر الدين في أحوال القلب، وعين الذات هي المعيار في تبرير الأحكام الأخلاقية.
إلا أن هذه الذات التي تملكها الغرور في استقلالها وفصلها واستغنائها، لم تكن تعلم أن مكر التاريخ هو الذي سيهدم رؤاها، فقد تشكلت اتجاهات فلسفية تهاجم "طفل الفلسفة المدلل" أي الأنا الخالص والوعي النقي والذات المستغنية، وتنتصر إلى مفاعيل أخرى أكثر جبروتا وقوة من الذات، مثل قوة الأنظمة المعرفية التي ترسم خطاطة التفكير، أو اللاشعور الفردي والثقافي الذي يرسم ملامح الذات، أو البنى الاقتصادية التي تتصعد إلى الذات.
وهكذا بتنا أمام موت الذات وسيولة الذات وانحلال الذات والانعكاس في الذات. ولم تعد إذن، فكرة الاستقلال الذاتي منبع اعتزاز ولحظة انتصار، بل هي علامة على تأويل مريض للوجود، وفرح بما عند الإنسان من علم ومنهج ومعرفة، استبانت فيما بعد أنها رؤى وخيارات ظرفية لا تتوافق مع الحقيقة أو طبائع العالم الموضوعي.
-
تحدثت عن العتبة الثانية من العلمنة التي تميز حقبة ما بعد الأخلاق، فما أثرها على فعل التفلسف؟
بما أن الحقبة الأولى هي حقبة الإله معيار الأفعال، والحقبة الثانية هي حقبة الإنسان المستقل منبع تبرير الأحكام الأخلاقية، فإن الحقبة الثالثة هي الانصراف عن التأسيس رأسا، والانعطاف نحو ثقافة الاشتهاء والفردانية الثانية التي تدمن اللذات وتستغزر نفسها في الإقبال على الاستمتاع والشغف بالشخصية والسعي نحو جودة الحياة.
وهذه الحال، باتت تعرف بثقافة ما بعد الأخلاق أو العتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية.
فإذا كانت العتبة الأولى تتأسس على الذات مفهومة بالمعنى الفلسفي وعلى الواجب تجاه الذات والآخر والتاريخ والإنسانية؛ فإن العتبة الثانية هي الذات مفهومة بالمعنى النفساني، وعلى الحق في تمتيع الذات من غير مسؤولية أو أوامر إلزامية من أجل الآخر أو الخير أو الإنسانية أو تحرر الطبقات.
إن ثقافة ما بعد الأخلاق سواء تلك التي أقامت التفرقة بين الأخلاق المعيارية وأسس الأخلاق، أو تلك التي تهجر الأوامر الإلزامية وتتبع حركة الحقوق الذاتية، هي علامة على حاجة الإنسان المعاصر إلى إنارة الدروب من جديد، وهذه الحاجة إلى معان جديدة عبّر عنها أحد المهتمين بالشأن الأخلاقي المعاصر قائلا "نحن نعيش في حقبة، باتت فيها القيم الأخلاقية تثير أسئلة صعبة، ونشهد أيضا تحولات اجتماعية وثقافية كبيرة، تغرقنا في اللايقين، يجب علينا رفع هذه التحديات ومواجهة المشكلات الخفية، ومع هذا كله، فإنه لا يلوح لنا من أجل تحقيق ذلك (أي رفع التحديات ومواجهة المشكلات) مع أن بحوزتنا نظاما في القيم الأخلاقية صلبا ومتناسقا.
-
هناك خيط ناظم مبثوث في الكتاب يظهر وجود مقصد وغرض منه، فهل هو العلاج وإصلاح الشرخ بين العقل والقلب؟
إن الغرض الذي يخترق نصوص هذا الكتاب، بعد ملاحظة الأزمة، والرغبة في تلمس العلاج، إنما يتقصد دمج المعاني الروحية والأدوات العلمية في صلب التربية الفكرية وفلسفة الفعل وأخلاق التعارف وسبل الانعتاق من أخلاق ما بعد الأخلاق، في سير منهجي حثيث نحو تنمية المكنونات الفكرية والفلسفية والسلوكية.
وبهذا، فإن الكتاب يتنزل ضمن مطالب العقل العملي المعاصر، وفي صلب المسار العام لما بات يعرف حاضرا بـ"العلاج بالتفلسف" أو"الحياة بالتفلسف"، وهذا الخط الفلسفي يستدعي في برنامجه العلاجي مفاهيم روحية مثل الإيمان والتحويل والتغيير والفعل والاقتلاع والجهاد النفسي واقتحام العقبة والرياضة الروحية وعلاج النفس وتبديل الصفات وفن القراءة والهيئة في العالم والحوار مع الذات وعمارة الظاهر والباطن؛ وغيرها من مصفوفة المعاني التي تتضمن داخلها حاجة الإنسان إلى مناهج للتفكر وإلى مسالك للتخلق أيضا.
-
ناقشتَ في الباب الأول من الكتاب مسألة مهمة مرتبطة بنهج التفلسف حيث تتبعت معالم هذا الفعل من الدربة إلى الاستعمال، كيف ذلك؟
صحيح هذا تناولناه في فصلين، عالج الفصل الأول عوائق التربية الفكرية التي أحصيناها في أمراض النفس والتطبع الثقافي والفكري وأمراض التفكير، وللخروج من هذه الأسقام اقترحنا أخلاق الروح لعلاج أمراض النفس وتجارة الأفكار والحرارة الحوارية؛ وكذا الفكر الطبيعي لعلاج التطبع الثقافي والحركي، كما اقترحنا لعلاج أمراض التفكير قيادةَ العقل من انحصاره في التمييز بين المعارف إلى التوحيد بينها، درءا لآفات الانفصال والتحليل التجزيئي، وأما أسقام التفكير مثل (التفكير التجزيئي، التقابلي، الإنابي…) فإن رفعها (علاجها)؛ إنما يكون بتعليم الاجتهاد الفكري والاشتباك مع الحركة.
كما بسط الفصل الثاني، الموسوم بـ"المنهج العلمي في مكاشفة القول الفلسفي : من مضمون الفلسفة إلى أدوات التفلسف"، صلاحية الاستناد إلى المنهج العلمي لأجل استعمال تقنيات التفلسف، المنهج الذي يرتكز في سماته على الخصائص التالية: العلمية والتكاملية والعملية، ثم تناولنا تطبيق أدوات المنهج أو تقنياته على مباحث "الترجمة" و"المفهوم" و"التعريف" و"الدليل" و"السيرة الفلسفية"، منتهين في الأخير إلى أهمية إعمال هذا المنهج ونقله من دائرة الفلسفة إلى مباحث العلوم الاجتماعية مسائلين التقنيات نفسها: ترجمة العلوم الاجتماعية وبنية مفاهيمها وصورة تعاريفها وأسس أدلتها وصفات سيرة علمائها.
-
ناقشتَ في الباب الثاني من الكتاب ما أسميته بتخليق النفس وتفعيل الأفكار، جاعلا هذه الممارسة نابعة من عالم المعنى إلى عالم الواقع، كيف ذلك؟
ناقشت في الباب الثاني عبر فصله الأول أهمية الاستنارة بالعقل مفهوما بالمعنى الروحي والفلسفي لأجل الارتياض بمكارم الأخلاق، وذلك وفق مسالك ثلاثة: مسلك الاستفادة من الموروث الأخلاقي، ومسلك تعيين الوسائل العقلية والسلوكية لتحرير الروح، ومسلك التكامل بين السياسة العقلية والسياسة الروحية في الارتياض بمكارم الأخلاق، وختمنا الفصل بأهمية تحويل مكارم الأخلاق إلى أساليب تربوية تتحرر بموجبها التربية من ثقافة الفكر المنفصلة عن الدعائم الأخلاقية؛ وتتقوى بثقافة العقل بخاصة في ظل الغليان الأخلاقي المعاصر.
وأما الفصل الثاني، فقد حاولت السفر بالتحليل إلى إنهاء التعارض المكرور بين العقل النظري والعقل العملي، أو بين الأفكار الصحيحة والأفكار الفاعلة، وذلك بمفاتحة حول المفاهيم المفتاحية: منطق الصحة ومنطق الصلاحية، وكذا معنى كلمة التحديات المعاصرة، ثم منطلقات الفعل نحو الحضارة كأفق إنسان راق، وهي ثلاثة، الفكرة الدينية، وتساءلنا هل يمكن أن تكون نقطة انطلاق؟ ثم الوعي الروحي باعتباره السند المحسوس للفكرة، وأخيرا قيم الواجب الإثباتية التي تحقق فعل المبادأة والمشاركة والإتمام.
بينما اتجهتُ في الفصل الثالث، نحو تقديم مقاربة تفسيرية لتحول الخطاب الإصلاحي من مناداته بإصلاح العقل وتجديد مناهج التفكير إلى تجديد الوجدان وعمارة باطن الإنسان، وعرضنا فيه الاتجاهات الفكرية التي عبرت عن هذه المقاربة أو تلك، وانتهينا إلى أهمية الإصلاح الراسخ، أي الإصلاح الثقافي النوعي، الذي تتلاقى فيه قيم العقل بقيم الوجدان.
-
ما دور النماذج الأخلاقية في تحدي الأزمات الاجتماعية والحضارية، سواء على مستوى المفاهيم أو الممارسة؟
سؤال مهم وهو لب الباب الثالث من كتابي الذي تناولت في فصله الأول "مسألة المفاهيم الأخلاقية في تدبيرها لأمراض الحضارة الإنسانية"، وكان الأنموذج الأول هو التسامح، بما هو مفهوم تاريخي، بينما كان الأنموذج الثاني هو التواصل، وأطلقنا عليه المفهوم اللغوي، وسار الأنموذج الثالث نحو مفهوم الاعتراف، وبالتالي فهو مفهوم أخلاقي، وبعد إنهاء النقد لهذه النماذج، بسطنا مفهوما آخر يتداخل مع المفاهيم السابقة، هو أنموذج التعارف، الذي ينبني على المقوم الإيماني الروحي وعلى التبادل النافع والتفاضل في الكرامة.
أما الفصل الثاني منه، فقد افتتح النقاش مع ثقافة ما بعد الأخلاق؛ وريثة الأنموذج الجمالي في فهم العالم وتأويله، ودار النقاش فيه حول إعادة بناء مفهوم النهضة، باستبدال مفهوم آخر به، وهو "القومة الثقافية أو القيام الثقافي"، تلت هذه الإشارة؛ وترصد حال الإنسان في ثقافة ما بعد الأخلاق، أين يتسيد النمط الجمالي للثقافة ويتم تقديس الفضاء الخصوصي أكثر من الإنوجاد (فعل الحضور أو الوجود) في الفضاء العمومي، وبان لنا أيضا أن القيمتين النهائيتين لأخلاق ما بعد الأخلاق هما: المتعية والنرجسية، وبخصوص تلمس العلاج أو الانعتاق من هذه الثقافة المابعد الأخلاق فأبصرناهما في رد الاعتبار إلى الذكاء في ميدان القيم، والتربية الاجتماعية كأسلوب أمثل للتحرر من إدمان الفضاء الخصوصي.
أخيرا، أضفنا ضميمة بحثية، تتطرق إلى مرافق الرؤى اليونانية إلى العالم ومنزلة الإنسان ضمنها: وهي ثلاثة مرفق الرؤية الأسطورية ومرفق الرؤية الطبيعية ومرفق الرؤية العملية، وتنزلت ضمن هذه الرؤى نماذج إنسانية ثلاثة: إنسان الإسطورة والخيال، وإنسان التفسير المادي للعالم، وإنسان الفضيلة وتخليق الفضاء العام.