"القرن الأحمر".. ما الذي قضى على وجود "شيوعية إسلامية"؟

ضباط الجيش الروسي يؤدون يمين الولاء لثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 (شترستوك)

في عام 1917، وقعت في الأراضي الروسية سلسلة من الاضطرابات الشعبية غيرت مجرى التاريخ الحديث، وأنهت الحكم القيصري، وأفضت لإنشاء الاتحاد السوفياتي بعد المرحلة الثانية من الثورة التي قادها الحزب البلشفي وقياداته؛ فلاديمير لينين وليون تروتسكي لإقامة دولة اشتراكية.

بعد الثورة البلشفية، بدا لوهلة من الزمن أن الثورة قد تندلع في مناطق شاسعة من العالم تحت راية مشتركة من الشيوعية والإسلام، حسب مقال للمؤلف والباحث السياسي جون سيديل في صحيفة نيويورك تايمز (The New York Times) الأميركية.

ظهرت حركة إحياء إسلامي في العقود الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية، بفضل جهود السلطان عبد الحميد الثاني الذي سعى لنيل لقب خليفة المسلمين.

وبدأت أنماط جديدة من التعليم والجمعيات الإسلامية الظهور في شتى أنحاء العالم العربي وخارجه، من مصر والعراق إلى الهند وإندونيسيا، وأصبح الإسلام دعوة حاشدة تعمل ضد الاستعمار الأوروبي والإمبريالية، وهي قيم تشبه دعوات يسارية متزامنة.

تحالف بلشفي إسلامي

اجتذبت قدرة الإسلام القوية على تعبئة الجمهور النشطاء الشيوعيين في عشريات وعشرينيات القرن الماضي؛ فتحالف البلاشفة -الذين لم تكن لديهم بنية تنظيمية في الأراضي الإسلامية الشاسعة التابعة للإمبراطورية الروسية سابقا- مع الإصلاحيين الإسلاميين في تلك المناطق، وأنشؤوا "مفوضية الشؤون الإسلامية" التي قادها التتري البلشفي ميرسعيد سلطان غالييف (أعدم عام 1940 بعد خلاف مع الزعيم السوفياتي ستالين)، ووعدوا بتأسيس "شيوعية إسلامية" مميزة عبر القوقاز وآسيا الوسطى.

Sultan Galiyev, Turkish Russian revolutionist
القائد التتري البلشفي ميرسعيد سلطان غالييف (مواقع التواصل)

خلال مؤتمر عقد عام 1920 لـ"شعوب الشرق" في باكو (عاصمة أذربيجان حاليا)، ودعا رئيس الكومنترن (منظمة دولية تدافع عن الشيوعية عبر العالم) غريغوري زينوفييف (يهودي أوكراني) إلى شن "حرب مقدسة" ضد الإمبريالية الغربية.

لكن كما نعلم الآن -حسب الكاتب- فشلت الشيوعية والإسلام في الاندماج في تحالف دائم. ومع بداية الحرب الباردة بدا أن الشيوعية والإسلام متعارضان بصورة قطعية.

الثورة في آسيا

أدت الآراء المتباينة حول الشيوعية إلى تقسيم المسلمين عبر آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط في نضالهم من أجل الاستقلال والتحرر خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

ومع ذلك، بدا إبان الثورة الروسية أن آفاق اتحاد الشيوعية والإسلام مشرقة للغاية، وربما لم تكن تلك الآفاق أكثر إشراقًا مما حدث في الأرخبيل الإندونيسي، ثم تحت الحكم الهولندي؛ فبين أعوام 1918-1921، عمل النشطاء اليساريون جنبًا إلى جنب مع علماء وتجار مسلمين على بناء أكبر حركة جماهيرية في جنوب شرق آسيا.

وعلى مدى العقد السابق للتاريخ أعلاه، كان النشطاء من العمال الإندونيسيين أسسوا بالفعل نقابة قوية تمثل العمال في شبكة السكك الحديدية الواسعة التي تخدم اقتصاد المزارع الواسع في جاوا وسومطرة. وبحلول عام 1914، توسع الاتحاد الاجتماعي الديمقراطي المستقل، أو الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي الهندي، من تنظيم يعمل في صفوف عمال السكك الحديدية إلى أشكال أوسع من النشاط الاجتماعي والعمل السياسي ضد الحكم الاستعماري.

على وجه الخصوص، بدأ الأعضاء الانضمام إلى منظمة "سياركات إسلام"، وهي منظمة تأسست عام 1912 كجمعية لتجار الباتيك المسلمين (والباتيك إحدى طرق الصباغة الفنية، وتشتهر بها إندونيسيا)، وتحولت في ما بعد إلى حركة شعبية أوسع، وكانت تنظم مسيرات وإضرابات جماهيرية عبر إقليم جاوا. كان التأثير الاشتراكي داخل "سياركات إسلام" جليا في مؤتمر المنظمة عام 1916، حيث أُعلن المؤتمرون أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو "أبو الاشتراكية ورائد الديمقراطية" و"الاشتراكي بامتياز".

Professor John Sidel , source: LSE Government
المؤلف والأكاديمي جون سيديل (كلية لندن للاقتصاد)

إلهام روسي

وألهمت الثورة الروسية حركة "سياركات إسلام"، وبحلول أواخر عام 1917 بدأ الناشطون في الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي الهندي التحريض على الثورة واكتساب الموالين للتنظيم في صفوف الرتب الدنيا من القوات المسلحة الهولندية في جزر الهند، واقتبسوا التكتيكات الناجحة التي انتهجها البلاشفة في روسيا، فقاموا بتجنيد المئات من البحارة والجنود على أمل القيام بأعمال تمرد وانتفاضة.

لكن السلطات الاستعمارية الهولندية قامت على الفور باعتقال وسجن النشطاء وأمرت بطردهم من جزر الهند.

وبحلول عام 1920، أعاد الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي في جزر الهند تسمية نفسه باسم الاتحاد الشيوعي لجزر الهند، ليصبح أول حزب شيوعي في آسيا ينضم إلى الكومنترن.

تم تشكيل نقابات جديدة في جاوا وسومطرة، وقام الفلاحون بالحشد ضد ملاك الأراضي، وتسبب هجوم للسكك الحديدية في إصابة المزارع في شرق سومطرة بالشلل لفترة وجيزة.

تان مالاكا

وفي هذا السياق ظهرت لأول مرة شخصية تان مالاكا (ناشط وطني إندونيسي ناضل ضد الحكم الهولندي لبلاده). وكان تان مالاكا سليل عائلة أرستقراطية من غرب سومطرة، وقضى سني الحرب العالمية الأولى طالبا في هولندا، وكان على اتصال بالنشطاء والأفكار الاشتراكية، وشهد ثورة لم تدم طويلا أواخر عام 1918، حاول خلالها الاشتراكيون الديمقراطيون الهولنديون لفترة وجيزة محاكاة الانتفاضة الثورية المستمرة في ألمانيا.

Tan Malaka (2 June 1897 – 21 February 1949) an Indonesian teacher
الناشط الإندونيسي تان مالاكا واسمه الحقيقي داتوك إبراهيم سوطان (مواقع التواصل)

وفي مطلع عام 1919، عاد تان مالاكا إلى إندونيسيا، وسرعان ما انضم إلى الحزب الشيوعي المحلي، وسرعان ما صعد إلى قيادته، قبل أن يتم نفيه من قبل الحكومة الاستعمارية، فيعود إلى هولندا مطلع عام 1922.

وظهر تان مالاكا في مؤتمر الكومنترن الرابع في موسكو وبتروغراد عام 1922 متحدثا عن إمكانية ثورة تجمع بين الشيوعية والإسلام. وهناك ألقى خطابًا لا يُنسى حول أوجه التشابه بين القومية الإسلامية والشيوعية، وقال إن الهوية الإسلامية لم تكن دينية فحسب، بل تقوم على "الأخوة بين جميع الشعوب المسلمة، وكفاح التحرير ليس فقط للعرب ولكنه أيضًا للهنود وأهل جاوا وجميع الشعوب المسلمة المضطهدة".

وأضاف "هذه الأخوة تعني نضال التحرر العملي ليس فقط ضد الهولنديين ولكن أيضًا ضد الرأسمالية الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وبالتالي ضد الرأسمالية العالمية ككل".

نداء تان مالاكا

ويشير السجل الرسمي للإجراءات إلى أن نداء تان مالاكا الحماسي من أجل التحالف بين الشيوعية والقومية الإسلامية قوبل "بتصفيق حاد" من قبل المؤتمرين، لكن مذكراته تذكر أنه بعد 3 أيام من النقاش الساخن الذي أعقب خطابه مُنع رسميًا من الإسهام في باقي الإجراءات. وكانت المخرجات الرسمية لمؤتمر الكومنترن الرابع -بما في ذلك "أطروحات حول المسألة الشرقية"- غامضة بشكل ملحوظ حول مسألة القومية الإسلامية ولم يرد فيها أي شيء بشأن إندونيسيا، رغم أن الحركة هناك كانت أكثر نجاحًا بكثير من أي تعبئة شيوعية أخرى في ما يعرف بالشرق في ذلك الوقت.

ويقول الكاتب إنه مع ذلك لم يكن هناك تحالف بين الشيوعية والإسلام، لا في إندونيسيا ولا في أي مكان آخر. وكانت قوة الشيوعية كحركة تكمن في قدرتها على حشد العمال للنضال من أجل تحسين الأجور وظروف العمل من خلال النقابات، سواء في مدينة باكو المزدهرة بالنفط أو مزارع جاوا وسومطرة. ولكن في ما يتعلق بشكل الحكم، فكانت الشيوعية تعني حكم الحزب الواحد، والاقتصاد الموجه مع الزراعة الجماعية وسيطرة الدولة الحزبية على جميع مجالات الحياة الاجتماعية، بما في ذلك الدين.

وعلى النقيض من ذلك -كما يتابع الكاتب- كانت الحركة الإسلامية أساسًا أوسع نطاقًا وأكثر انفتاحًا وغموضًا كأساس للمشاركة السياسية. وفي جاوا وأماكن أخرى، كان "الإسلام" لافتة للتجار المسلمين للاعتراض على المظالم الاقتصادية من قبل غير المسلمين وبناء بنية للتنظيم في الريف من خلال المدارس الإسلامية. وفي ما يتعلق بالسياسة كان الإسلام مرنا؛ إذ يمكن للعلماء والناشطين الإسلاميين مساندة الاستعمار أو الشيوعية أو الرأسمالية أيضا.

وبدأت التوترات بين الشيوعيين والقادة الإسلاميين في إندونيسيا في تقسيم حركة "سياريكات إسلام" في مطلع العشرينيات؛ حيث حث الشيوعيون على تصعيد الإضرابات والاحتجاجات، في حين دعا القادة الإسلاميون إلى التسوية مع السلطات الاستعمارية الهولندية، واختفت الحركة تحت القمع الهولندي بعد فشل الثورات في 1926-1972.

Republicanism, Communism, Islam
كتاب "الجمهورية والشيوعية والإسلام: أصول عالمية للثورة في جنوب شرق آسيا" صدر لجون سيديل 2021 (مواقع إلكترونية)

وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، عارضت الأحزاب الإسلامية حزب "بارتي كومونيس إندونيسيا"، أو الحزب الشيوعي الإندونيسي، أثناء النضال من أجل الاستقلال. وكانت الأحزاب الإسلامية غير مرتاحة لإصرار الشيوعيين على أن الاستقلال عن الحكم الاستعماري الهولندي يقلب الامتيازات الأرستقراطية ويؤدي إلى إنشاء أشكال اشتراكية لملكية الأرض والصناعة.

وفي ذلك الوقت، كان العداء بين الشيوعية والإسلام مترسخا في شتى أنحاء العالم الإسلامي، واستمر خلال الحرب الباردة، وباتت الحدود المؤسسية والأيديولوجية التي تؤكد المفاصلة بين الشيوعية والإسلاموية أبرز وأشد، مما حطم آفاق محاولات بناء تحالف سياسي بين الإسلام والشيوعية.

وقمعت الدولة الحزبية الشيوعية مؤسسات العبادة والتعليم والجمعيات ومؤسسات الحج الإسلامية في كل المناطق الإسلامية في الاتحاد السوفياتي، التي عدّها الشيوعيون عقبات أمام التحول الأيديولوجي والاجتماعي في الأراضي الشيوعية. وفي الدول الإسلامية، ارتبطت السياسة اليسارية في كثير من الأحيان بالتجديف وتم حظرها؛ ففي دول مثل السودان واليمن وسوريا والعراق وإيران وجدت الأحزاب الشيوعية وغيرها من الأحزاب اليسارية نفسها في منافسة مريرة مع الإسلاميين على السلطة.

وكان من ضمن تداعيات فشل القوى الثورية في التعبئة تحت راية مشتركة للشيوعية والإسلام معا انقسام المسلمين بعمق، وإضعاف قدرتهم أولا على محاربة الاستعمار خلال النصف الأول من القرن العشرين، ثم مقاومة صعود الاستبداد في جميع أنحاء العالم الإسلامي، حسب الكاتب.

ويختم الكاتب بالقول إن "الانقسامات بين اليساريين والإسلاميين ساعدت في مصر -بعد سقوط الرئيس حسني مبارك في 2011- في تمهيد الطريق لعودة البلاد إلى الحكم العسكري في منتصف عام 2013. وأدت توترات مماثلة إلى انقسام القوى المعارضة للرئيس بشار الأسد في سوريا، مما مهد الطريق لانزلاق البلاد نحو حرب أهلية تدور رحاها منذ أكثر من 6 سنوات. وبعد قرن كامل من الثورة الروسية، ما زال فشل التحالف بين الشيوعية والإسلام يلقي بظلاله على سياسات العالم الإسلامي".

المصدر : نيويورك تايمز