إعادة كتابة التاريخ لأغراض وطنية.. هل الحقيقة ابنة الزمن أو السلطة؟
اليابان ليست الدولة الوحيدة التي تعيد صياغة تاريخها، فقد كتب الأديب الإنجليزي جورج أورويل في عام 1942 قائلا: "أعلم أنه من المألوف أن نقول إن معظم التاريخ المسجل مجرد أكاذيب على أي حال. أنا على استعداد للاعتقاد بأن التاريخ في معظمه غير دقيق ومنحاز، ولكن ما يميز عصرنا هو التخلي عن فكرة أنه يمكن كتابة التاريخ دون تحريفه"
مع اشتداد الحرب الروسية على أوكرانيا يعود نقاش الحقيقة التاريخية للواجهة مجددا، فالحروب لم تعد تدور في ساحات المعارك فحسب وإنما تدور أيضا حول السرديات المتنازعة للحدث التاريخي، وكأن الرواية التاريخية هي إحدى غنائم الحرب.
في فبراير/شباط 2020، كتب المؤرخ الأميركي ماثيو كونيلي من جامعة كولومبيا كيف أنه "يتم حذف المعلومات المهمة أو إتلافها في عهد الرئيس دونالد ترامب، حتى لا تتاح لأحد فرصة رؤيتها، سواء الصحافة وأجهزة الرقابة الحكومية اليوم أو المؤرخون في المستقبل"؛ وفي الشهرين الماضيين ورد أن الرئيس الصيني شي جين بينغ يخطط لإعادة كتابة تاريخ بلاده، فيما يخطط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتصفية مجموعة الأبحاث التذكارية وسجلاتها التي توثق معسكرات الاعتقال (الجولاج) في سيبيريا.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمؤرخ أميركي: تجارة العبيد الوحشية في الولايات المتحدة تم إخفاء فظائعها من سجلات التاريخ
التلاعب بالسرد.. هل تنجح ألعاب الفيديو في تعليم الدرس التاريخي؟
جدل فلاسفة التاريخ عن الحرب والطبيعة البشرية.. هل ينخفض العنف البشري؟
وفي تقريره؛ الذي نشرته مجلة "تايم" (Time) الأميركية؛ يقول الكاتب ريتشارد كوهين إن تحريف التاريخ يعود على الأقل إلى عصر روما القديمة، فقد بدأ الأمر مع تاسيتس (أحد كُتّاب الحقبة الأخيرة من العصر الفضي للأدب اللاتيني)؛ حيث "تم تزوير تاريخ الإمبراطور تيبيريوس وكاليجولا، وكلوديوس ونيرو، خلال حياتهم، بدافع الخوف".
وذكر الكاتب أن التاريخ البريطاني مليء بالأساطير، بدءًا من سرد قصة الأرمادا الإسبانية (التي دمرها الأسطول البريطاني في حرب إنجلترا وإسبانيا بين (1585-1604م) وصولا إلى الحكايات البطولية لبريطانيا. وبعد عام 1945؛ جابت البلاد قصص حول تكاتف السكان معًا ببسالة خلال الحرب العالمية الثانية للحفاظ على مكانة بريطانيا باعتبارها واحدة من القوى الثلاث العظمى.
وأوضح الكاتب أن الفرنسيين اعتقدوا أنهم العامل الحاسم في نتيجة الحرب العالمية الأولى، ولا يعلم الكثيرون في الولايات المتحدة حقيقة من ساعدهم في الفوز بالحرب العالمية الثانية، وقد أمر كوامي نكروما، رئيس غانا من عام 1960 إلى 1966، بإعداد جداريات ضخمة لإظهار العلماء الأوروبيين وهم يتلقون تعليمات من أسلافهم الأفارقة، وهو خيال اعتبره ضروريا لاحترام الذات على الصعيد الوطني.
صناعة تاريخ "وطني"
ويبين الكاتب أن العديد من الدول قامت بصياغة تاريخها لصالحها، وقد اشتهر المؤرخ الفرنسي إرنست رينان الذي عاش في أواخر القرن الـ19 ببيانه بأن "النسيان" أمر "أساسي في تكوين الأمة الوطنية"، وهو بمثابة تلميع إيجابي لقول الشاعر الألماني غوته الصريح "الوطنية تفسد التاريخ"، لكن هذا هو السبب في أن القومية غالبًا ما تنظر إلى التاريخ باعتباره تهديدًا.
ويشير الكاتب إلى أنه بين شهري ديسمبر/كانون الأول 1937 ويناير/كانون الثاني 1938، غزا الجيش الياباني الصين، واستمرت الحرب 6 أسابيع قتل فيها 300 ألف مدني واغتصبت أكثر من 20 ألف امرأة، وتم ارتكاب جرائم أخرى على امتداد الأعوام السبعة التالية، بدءًا من استخدام الغاز السام وصولًا إلى مسيرة باتان لأسرى الحرب من الفلبينيين والأميركيين حيث قتل فيها المئات على يد جنود الجيش الياباني عام 1942.
لكن اليابان لم تقبل بهذه الحقيقة بعد الحرب، حيث قال الكاتب إن مؤرخي اليابان القوميين بدؤوا في التساؤل عما إذا كانت مذبحة نانجنغ (التي استباح فيها الجنود اليابانيون مدينة صينية وأسفرت عن مقتل عشرات الآلاف) قد حدثت أصلا، وفي أكتوبر/تشرين الأول 1999 تم إصدار كتاب مدرسي بديل لأطفال المدارس بعنوان "تاريخ أمة"، تمجيدًا لسجل اليابان في زمن الحرب بينما هاجم بشدة أولئك الذين وثّقوا اعتداءاتها؛ حيث أعلن واضع هذا الكتاب، وهو أستاذ تعليم يبلغ من العمر 53 عامًا ويدعى نوبوكاتسو فوجيوكا، أن الأحداث الماضية لم تكن موثقة، قائلا إن "التاريخ ليس مجرد شيء ينطوي على اكتشاف المصادر وتفسيرها. إنه أيضًا شيء يجب إعادة كتابته وفقًا للواقع المتغير للحاضر".
وتابع الكاتب مع المؤرخة اليابانية ميتشيكو هاسيغاوا التي تساءلت قائلة "لماذا لا ينظر الناس إلى التاريخ بصدق؟"، وقد أثار سؤالها موجة من السخرية، بالنظر إلى أن هاسيغاوا تجادل بأن الفظائع التي ارتكبها الجيش الياباني لم تحدث أبدًا أو على الأقل تم تضخيمها بشكل كبير، وحتى يومنا هذا، لم تحاكم اليابان مجرم حرب واحدا.
وينوه الكاتب إلى أنه منذ عام 1985 وحتى الآن، حرص رؤساء الوزراء اليابانيون على زيارة ضريح ياسوكوني في وسط مدينة طوكيو، حيث دُفن رفات أكثر من ألف مجرم حرب، بما في ذلك 14 مجرمًا من الدرجة الأولى، ويوجد بجوار الضريح متحف يعرض النظرة التنقيحية لتاريخ اليابان في زمن الحرب؛ حيث يشار إلى مذبحة نانجنغ على أنها "حادثة"، ويتحول التاريخ إلى أسطورة ويصبح شكلا من أشكال الدعاية، وهذا أمر مفهوم، لكنه مأساوي أيضًا.
سرد بطولي
ويضيف الكاتب أن المرء قد يجادل بأن جميع الحروب تتطلب سردًا بطوليًّا، لإلهام الجنود للمخاطرة بحياتهم، وبعد انتهاء الصراع، للتأكد من أنهم والناجين منهم يعتقدون أنهم لم يعانوا أو يموتوا عبثًا. ومع ذلك، تأتي هذه الراحة بتكلفة باهظة، فعلى حد تعبير جون كاري: "من أكثر مهام التاريخ فائدة هي أنه يعيد سرد مدى حرص وتألم الأجيال الماضية في سعيهم وراء أهداف تبدو لنا الآن خاطئة أو مخزية".
وأكد الكاتب أن اليابان ليست الدولة الوحيدة التي تعيد صياغة تاريخها، فقد كتب الأديب الإنجليزي جورج أورويل في عام 1942 قائلا "أعلم أنه من المألوف أن نقول إن معظم التاريخ المسجل مجرد أكاذيب على أي حال. أنا على استعداد للاعتقاد بأن التاريخ في معظمه غير دقيق ومنحاز، ولكن ما يميز عصرنا هو التخلي عن فكرة أنه يمكن كتابة التاريخ دون تحريفه"، مضيفًا أنه "يوجد بالفعل عدد لا يحصى من الأشخاص الذين يعتقدون أنه من المخزي تزوير كتاب مدرسي علمي، لكنهم لن يروا أي خطأ في تزوير حقيقة تاريخية".
وفي السياق نفسه؛ يلفت الكاتب إلى أنه في يونيو/حزيران 2007؛ وخلال مؤتمر وطني متلفز لمعلمي المدارس الثانوية في موسكو، تذمر بوتين من الطريقة التي تم بها تدريس التاريخ السوفياتي، ودعا إلى تبني معايير راسخة، وتوجه لمعلمي التاريخ قائلا "نحن نملك بعض الصفحات الإشكالية في تاريخنا. لكن من الدولة التي لا تمتلك ذلك؟ بيد أن ما لدينا هو عدد أقل من هذه الصفحات مقارنة ببعض الدول الأخرى. ولم نرتكب أعمالا بشعة مثل الأعمال التي ارتكبتها باقي الدول. تمر كل دولة بمختلف الأحداث. ولا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بتحمل كل الذنب".
ويشدد الكاتب -في النهاية- على أن المعركة من أجل صياغة تاريخ صحيح مستمرة، وكما قال فرانسيس بيكون "الحقيقة هي ابنة الزمن، وليست ابنة السلطة".